آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

شارك

آخر أيام أبي مصعب السوري

آخر أيام أبي مصعب السوري

حسام جزماتي

رغم أنه كان في السابعة والأربعين من عمره فقط؛ أنهى هذا المنظّر الجهادي كتابه الضخم «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» بوصيته الشخصية، بعد فصل أخير حمل عنوان «مسك الختام» استعرض فيه أحاديث نبوية عن الفتن وعلامات الساعة وأحداث آخر الزمان.

والحق أن حدس الرجل لم يخيبه. فبعد أشهر من طرحه الكتاب للتداول في المنابر الجهادية، في الشهر الأخير من 2004، إثر أعوام ثلاثة قضاها في تأليفه، متنقلاً متخفياً من صائدي المجاهدين العرب إثر الغزو الأميركي لأفغانستان؛ استطاعت المخابرات الباكستانية القبض عليه ليبدأ رحلة طويلة في السجون عبر القارات انتهت في دمشق.

ولد أبو مصعب السوري، الذي سيستخدم الاسم المستعار عمر عبد الحكيم أحياناً، باسم مصطفى الست مريم، عام 1958، في حلب. وقد قطعت عليه الانتفاضة الإسلامية دراسته في كلية الهندسة الميكانيكية لتزج به في تجربة قصيرة قليلة الأهمية مع «الطليعة المقاتلة…» عام 1980، حتّمت خروجه من البلاد، ليتلقفه الإخوان المسلمون السوريون في الأردن، ويبدأ معهم مسيرة من الإعداد والتدريب لم تسفر عن أي عمل في البلد الأم، وأورثته ميلاً شديداً لانتقاد قيادات الإخوان، الذين كان لصيقاً بهم خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 1982، بالتزامن مع مجزرة حماة. وهو ما سيعبّر عنه لاحقاً في كتاب شهير أصدره في بيشاور، عام 1990، بعنوان «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا». وفيه ينحاز كلياً لرواية «الطليعة»، لكن بعد أن انتهت الأخيرة عملياً.

في محاولة إحياء «العمل» في سوريا ستحمل الدروب الجهادي الشاب إلى عبد الله عزام، راعي المجاهدين العرب، وإلى أفغانستان نفسها. كما ستمنحه رفيق دربه محمد بهايا، الذي سيُعرف أفغانياً باسم أبو خالد السوري. كان بهايا أصغر من معلمه بخمس سنوات كافية ليصبح تلميذه الأوحد، وليبدأ الاثنان مشواراً مشتركاً بدأ في إسبانيا، التي تعرّف فيها أبو مصعب إلى زوجته وأقنعها بالإسلام وقادها إلى عالم الجهاديين الغريب.

قبل هجرته النهائية إلى أفغانستان أقام أبو مصعب في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، وقبلها كان قد تنقل بين الأردن والعراق والسعودية. وبالتدريج كان يتطور من خبير متفجرات إلى مدرّب هندسة عسكرية إلى مؤرخ ومشرّع جهادي ألّف عدداً من الكتب التي تناول فيها بلاده: «أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود»، أو تجارب عايشها: «مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر»، أو وصفاً ميدانياً لواقع «أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام اليوم»، الذي كتبه في كابول سنة 1998، بعد عام على إقامته هناك. وفيه أبدى حماسة كبيرة للحركة وتأييداً لشرعية «الإمارة الإسلامية». وهو ما سيتوّجه بمبايعة شخصية للملا عمر، «أمير المؤمنين» في 2001، وتأسيسه معسكر الغرباء، عام 1999، الذي سيعمل في إطار وزارة الدفاع الأفغانية الطالبانية، ليكون «مدرسة تدريبية تقوم على الإعداد الفكري والمنهجي السياسي الشرعي والتربوي العسكري الشامل» على حد تعبيره. وفي هذا المعسكر قدّم أبو مصعب التدريب والتدريس لجماعات جهادية متنوعة من القادمين من أرجاء عديدة من العالمين العربي والإسلامي، وسجّل معظم دروسه المنتشرة الآن، بالصوت والصورة غالباً، على الإنترنت.

في تلك الأثناء كان زعيم أبرز هذه الجماعات، أسامة بن لادن، الذي يعرفه أبو مصعب جيداً، يخطط لعمله الكبير في الولايات المتحدة الأميركية، تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر. والذي فاجأ الجميع، بمن فيهم طالبان وأبو مصعب الذي لم يكن عضواً في «القاعدة»، بسبب فرديته واعتداده بأفكاره ومنهجه الخاص كما يقول مطّلعون على المرحلة. لكن الحملة التي قادتها أميركا لإسقاط حكم طالبان وملاحقة «القاعدة» طالت كل الجهاديين الأجانب، مما اضطر أبو مصعب إلى التواري.

وفي تلك السنوات التي تتطلب الركود تفرغ لإنجاز «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، الذي وصفه في المقدمة بأنه «كتاب العمر» لأنه ضمّنه «خلاصة تجاربي وخبرة ربع قرن من مواكبة الصحوة الإسلامية والعمل وسط التيار الجهادي وسط الأعاصير الداخلية والخارجية التي عاشها». وبالفعل، جاء الكتاب في 1600 صفحة عن التاريخ القديم والحديث والتحليل السياسي والمقارنة بين مناهج وتجارب الحركات الإسلامية والجهادية و«نظريات» المقاومة في العقيدة القتالية وأدلتها الشرعية والأدب والعبادة والأخلاق والرقائق وفقه الواقع والتربية العسكرية والردع بالإرهاب ونظام عمل السرايا والتمويل والتحريض… إلخ. فكان كتاباً كشكولياً شاملاً ومفصّلاً ومحشواً بالتنظير إلى درجة أن أحداً لم يقرأه، ربما باستثناء أبو خالد الذي كان يقيم، كالعادة، مع المعلم، يلبي احتياجاته ويمنحه ما يحتاج من تقدير ويداري مزاجه الصعب.

شاع الكتاب في المنتديات الجهادية على الإنترنت في مرحلة كان الجهاديون الجدد فيها يغادرون القراءة لصالح الإصدارات المرئية، وتتقادم عندهم صورة بن لادن، المتواري أيضاً، لصالح تسجيلات الزرقاوي. لكن الكتاب نجح في ترسيخ سمعة أبي مصعب السوري بوصفه «داهية الفكر الجهادي» لدى رواد هذه المنتديات، واعتباره، بخطأ مزدوج، «أحد أبرز العقول الإستراتيجية في القاعدة» في نظر من يراقبونها في الولايات المتحدة التي كانت قد أعلنت عن مكافأة خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تفضي إلى معرفة مكانه.

في مطلع أيار 2005، كما روى أبو خالد، كلّفه المعلم بتسليم ملف محفوظ على فلاش ميموري لأبي الفرج الليبي الذي كان سيتكفل بإيصاله لابن لادن في مخبئه عبر سلسلة مراسلين. وعلى الموعد كانت المخابرات الباكستانية التي قبضت على الرجلين، ثم على أبي مصعب السوري نفسه. يقول أبو خالد إن الملف كان يتضمن رسالة تحذيرية من تطرف الفرع العراقي الذي كان قد بايع «القاعدة» قبل أشهر. ويلقي باللوم في ما حدث على أبي الفرج الذي كان «ضعيف الأمنيات».

رحب جورج بوش، الرئيس الأميركي وقتئذ، بالقبض على الليبي، الذي وُصف بأنه «مسؤول العمليات والرجل الثالث في القاعدة» قبل أن يتبين مدى بعد ذلك عن الحقيقة. في حين جرى التكتم لأشهر على اعتقال أبي مصعب الذي نُقل، برفقة أبي خالد، إلى سجن أميركي إلى أن بيّنت التحقيقات معهما عدم عضويتهما في تنظيم «القاعدة» وعدم مسؤوليتهما عن أعمال إرهابية حصلت في الولايات المتحدة أو ضد سفاراتها ومصالحها ومواطنيها في العالم. فقررت تسليمهما إلى سلطات بلدهما.

هكذا حطّ الاثنان في العاصمة السورية، ليصبحا في عهدة اللواء آصف شوكت، رئيس شعبة المخابرات العسكرية الذي كان ملف الإسلاميين يستهويه، فأخذ يفاوضهما على التخلي عن أفكارهما، وربما الكتابة ضدها في حالة أبي مصعب. روى أبو خالد أن أستاذه نصحه بالتوقيع شكلياً على ما يريده شوكت والخروج، أمّا هو فقد برر بأنه مؤلف معروف ولن يستطيع فعل ذلك.

نُقل الاثنان إلى سجن صيدنايا في صيف 2011. ووفق شهادات متقاطعة تم جمعها من مصادر مختلفة، أحدها «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، أودعا في زنزانة واحدة ثم فُصلا بعد توقيع أبي خالد متبرئاً. في حين استمر اهتمام شوكت بالاطلاع على وضع أبي مصعب وأوامره بتعذيبه بشكل شبه يومي. ثم تقديمه إلى المحكمة الميدانية بتهم الانتساب إلى كل من «الطليعة المقاتلة» والجناح العسكري للإخوان المسلمين، مما تصل عقوبته إلى الإعدام. وهو ما حصل بسرعة حين اقتيد أبو مصعب الذي كان يشارف على الموت أصلاً، للإعدام في الأيام الأخيرة من تشرين الثاني 2011، في حين أُفرج عن أبي خالد بعد أسابيع، من دون أن يتيقن تماماً من مصير شيخه.

في الوصية التي أنهى بها أبو مصعب كتابه الأخير يذكّر أهله بتقوى الله ويحثهم على الصبر والاحتساب. كما يحذر إخوانه: «لئن كتب الله عليّ الأسر… أنبّه إلى أن الأسير إنسان فاقد الإرادة لا اعتبار لأقواله وما أكره عليه شرعاً، ولئن صدرَ عني… ما يتناقض مع ما كتبته في كتابي هذا من الدعوة لجهاد أعداء الله، أو أي موقف أو تصريح يتناقض مع ما آمنا به ودعونا إليه من الحق، فأعرضوا عنه واضربوا به عرض الحائط». وأخيراً يقول: «أوصي من يقوم على دفني إن أنا مت أو قتلت، أن يتحرَّوا السنة في أمر جهازي، وأن لا يرفعوا على قبري بناء، هذا إن ظفرت بقبر».

فيما بعد سرت شائعات كثيرة عن الإفراج عن أبي مصعب وظهوره هنا أو هناك، في إطار الفرضية المؤامراتية الرائجة بأن النظام أخرج الجهاديين من السجون لأسلمة الثورة وتشويهها وتسويغ قمعها. في حين كان يرقد في مقبرة «نجها» بريف دمشق، حيث اعتاد النظام دفن من يعدمهم.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

شارك