جسر: متابعات:
منذ عدة قرون، عُرفت المنطقة التي تشكل الآن شمال شرق سوريا بهيمنة المجتمع العشائري. ولكن البنية العشائرية في الوقت الحالي بالكاد تشبه نظيراتها التاريخية. لقد قامت القوى الخارجية بتجريد العشائر من استقلالها خلال العقود الماضية، فيما عززت الحرب السورية الحالية من هذه العملية التاريخية، تاركةً العشائر بحال من الضعف والتشتت أكثر من أي وقت مضى. في المقابل أبرز تفشي العنف خلال السنوات التسع الماضية أهمية العلاقات العشائرية، لأنه قضى تقريباً على جميع التركيبات الاجتماعية والسياسية التي نظمت سابقاً شمال شرق سوريا.
انسحبت مؤسسات الدولة في الغالب من الشمال الشرقي ومعها منظمات حزب البعث التي كانت تؤدي لعقود من الزمن أدواراً أساسيةً في مجالات عديدة، كالزراعة مثلاً. واتضح أن جميع القوى الطامحة للسيطرة مكان هذه المؤسسات، سواء الجيش السوري الحر أو الدولة الإسلامية أو الإدارة الذاتية الكردية، ليست كافية للحلول مكانها بالإضافة لكونها سريعة الزوال، حسب انحسار وازدياد المعارك وتبعاً لأهواء القوى الأجنبية. في هذا الفراغ، صمدت التركيبة العشائرية وشكّلت بفرادة، وإن لدرجة محدودة، نقطة مرجعية.
لقد حصلت تغيّرات جذرية في العشائر السورية في القرنين الماضيين. تاريخياً، تشكلت دمشق وحلب كمركزين تجاريين وحاضرتين مدنيتين، بينما سكنت البادية الشاسعة ومنطقة الجزيرة الخصبة مجموعة متنوعة من العشائر المستقرة والرحل وشبه الرحل، معتمدين على الزراعة وتربية الحيوانات وغنائم الغزوات لتحصيل قوتهم. وبهذا شكّلت العشائر وحدات اجتماعية ذات سيادة، تؤدي وظائف كالدفاع الذاتي، وتأمين الاكتفاء الاقتصادي وحل النزاع وتطبيق القانون.
ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر، عملت الإمبراطورية العثمانية على إحلال السلم في المناطق العشائرية المتمردة، فسلوكها المتمثل بالغزوات شكّل خطراً على المراكز الحضرية، القوافل التجارية، وقوافل الحجاج الدينية. أهم ما في الأمر أن إسطنبول بدأت بمطالبة المناطق العشائرية بدفع الضرائب، وقامت بتسجيل الأراضي التي لم تكن مأهولة أو محكومة ونقل ملكيتها لأفراد من قادة العشائر، وبالتالي تضمينهم في نظام الملكية العقارية. هكذا أصبح وجهاء من العشائر زبانية للعثمانيين، يعتمدون على السلطان ليحافظوا على مواقعهم كمالكي أراضي. في مقابل تعاونهم هذا، حصلت العشائر على حد معين من الاستقلال، سمح لأفرادها مثلاً أن يستمروا بحمل سلاحهم وتم اعفائهم من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني.
بعد أن سيطر نظام حافظ الأسد على الحكم في عام ١٩٧٠، قام بتطوير أسلوبه الخاص لاستمالة الفاعلين العشائريين من خلال بناء العلاقات مع الطبقة الدنيا في النظام العشائري والذين كانوا مهملين خلال فترة الحكم العثماني. وظّفت دمشق هذه المجموعات في مؤسساتها، ووزّعت الأراضي على الفلاحين العاديين، وكافأت الشيوخ المتعاونين بمناصب عالية ومزايا متنوعة، مثل السيطرة على طرقات التهريب المربحة، مع استمرار القمع الوحشي لأي إشارة على المعارضة أو عدم الولاء. وبحلول عام ٢٠٠٠، كانت مدة الاستمالة والخضوع التي تجاوزت القرن قد أبعدت المعنى الحقيقي لدور العشائر عن نظيره التاريخي: الشيوخ الذين استمدوا شرعيتهم في السابق من قدرتهم على شن الحروب أصبحوا يمتازون من خلال قدرتهم على توظيف أنفسهم كزبانية لنظام مستبد. وهكذا تم افراغ أي شكل من أشكال الاستقلال السياسي للعشائر من معناه.
لقد كشفت انتفاضة ٢٠١١ درجة التصدّع التي أصبحت عليها تركيبات السلطة العشائرية. فبينما انقسم المجتمع بين معارض للنظام ومدافع عنه، كان القادة العشائريون مجبرين على الاختيار بين الوقوف مع أحد الطرفين او إخراج أنفسهم من المعادلة. وبينما راهن بعضهم على الحراك المتمرّد، متّن البعض الآخر علاقته مع السلطة تاركين مناطقهم لينتقلوا إلى مناطق سيطرة النظام في دمشق أو حماه. كما لجأ آخرون، وبخاصة وجوه العشائر من كبار السن، لحماية أنفسهم وعوائلهم المباشرة من خلال مغادرة سوريا كلياً والتوجه لتركيا أو دول الخليج. القليلون فقط استطاعوا تنظيم عشائرهم، وكمثال رفيع المستوى: لم يكن انشقاق الشيخ نواف البشير عام ٢٠١١ وانضمامه للمعارضة ذا أثر حقيقي على أهواء رجال عشيرته، البقارة.
لقد كشفت انتفاضة ٢٠١١ درجة التصدّع التي أصبحت عليها تركيبات السلطة العشائرية
أدت هذه العملية إلى تفكك هيكلية القيادة العشائرية وتعطيل شرعية الشيوخ. من الواضح أن أولئك الذين انتقلوا إلى الخارج أو إلى مناطق سيطرة النظام تعرضوا للانتقادات من أبناء عشائرهم لتركهم أهلهم في وقت الحاجة. ولكن أولئك الذين بقوا على الأرض عانوا أيضاً: في منطقة ما لبثت أن تعرضت لوحشية حكم داعش وتدمرت بالقصف الأمريكي، أثبتت السلطات العشائرية أنها غير قادرة على تأمين الحد الأدنى من الحماية لأبنائها. بالنسبة لغالبية أفراد العشائر: كانت تتطلب النجاة أن يصطفوا مع الأقوى في كل وقت، وفي بعض الأحيان أن يغيروا هذه الاصطفافات بشكل متكرر، مما فتح المجال لاتهامهم بالانتهازية أو بوصفهم بالمرتزقة.
لقد سرّعت الفصائل المتحاربة من عملية سلب الشرعية هذه من خلال أسلوبها في التعامل مع الشخصيات العشائرية. عُرفت داعش بإهانتها لكبار السن الذين كانوا يرفضون التعاون بشكل كافي، عن طريق حلق شاربي الشيخ أمام العامة على سبيل المثال. وفي حالات أكثر حدّة، كان رد التنظيم على معارضيه وحشياً جداً، كما حدث عام ٢٠١٤ في مجزرة عشيرة الشعيطات التي عارضته في دير الزور. كما وأن الشيوخ الذين وقفوا الى جانب قوات سوريا الديموقراطية يتعرضون للانتقادات لأنهم وقفوا بصف حليف لأمريكا ذو غالبية كردية.
تظهر عشيرة العفادلة تفسيراً واضحاً لأزمة شيوخ العشائر. عُرف عن العائلة التي تقود العشيرة، الهويدي، أنها وزعت أعيانها بين مختلف الأطراف المتصارعة لزيادة فرصة وصولها إلى الحماية. فبينما يقيم محمد فيصل الهويدي حالياً في دمشق كعضو سابق في مجلس الشعب وحليف مقرّب للنظام، بقي أخوه في الرقة طوال سنوات الحرب. حصل الأخير على احتراماً استثنائياً في الرقة بسبب قدرته على التعامل بطريقة براغماتية مع الأطراف المتصارعة مثل داعش وقوات سوريا الديمقراطية، من غير ان يكون محسوب عليهم بشكل كامل. لقد كان لهذا الاستقلال الجزئي ثمن باهظ: تم اغتيال الشيخ بشير في أواخر عام ٢٠١٨ وتنوعت آراء المراقبين بين اتهام داعش، النظام، او الإدارة الذاتية.
وبينما كان الشيوخ يدرسون خياراتهم، كان أبناء العشائر يتحركون خارج أي تقسيمات للّحاق بالقادة. في المناطق الريفية خاصة، التحق أبناء العشائر في صفوف مختلف الفصائل لتحرير مدن كالرقة ودير الزور. كان لدى الكثير منهم سلاح بالأساس، وفي بعض الحالات كانوا عنيفين جداً في شنّهم حرباً ضد نظام حكم أهملهم لوقت طويل وتعامل معهم بفوقية. كنتيجة لذلك، كانت لدى المقاتلين من أبناء العشائر سُمعة بأنهم هم من أشعل الثورة المسلحة، وكانوا الأعنف وحتى الأكثر شراسة. كما وتبين أنهم من أكثر المقاتلين مرونة للانخراط في صفوف الفصائل المتطرفة، بما فيها الدولة الإسلامية. في هذا السياق، ساهمت التركيبة العشائرية في المنطقة في الدفع لتسليح الثورة حتى عندما بقي شيوخ العشائر بلا فاعلية.
ولكن مع ذلك، تستمر العلاقات العشائرية بتأدية عدد من الوظائف، مع أنها قليلة جداً بالنسبة لأهميتها التاريخية، لكنها ضرورية لنجاة السوريين في الظروف الحالية الفوضوية والصعبة. بعض هذه الوظائف بسيط جداً وعملي: فعلى الرغم من أن شيخاً مقيماً في دمشق كالشيخ محمد فيصل الهويدي لا يستطيع فعل أي شيء لحماية أبناء عشيرته من المخاطر اليومية في الرقة، لكن بإمكانه تسهيل اجراءات بيروقراطية في دمشق: كتسجيل الولادات والزواج والوفاة، تسهيل عودة أبناء العشائر النازحين إلى مناطقهم، ومساعدة أقاربه للحصول على معلومات حول معتقليهم. يمكن لهذه المساعدة أن تكون ثمينة جداً لأقرباء يعانون في مؤسسات الدولة المليئة بالفساد والتمييز والذل. وبشكل مشابه، ليس لدى شيوخ العشائر المرتبطين بالإدارة الذاتية أي دور في رسم مستقبل منطقتهم، لكنهم يشكلون أفضل أمل لأبناء العشائر الذين يريدون إخراج أحبائهم من سجون قوات سوريا الديموقراطية.
الانتماء العشائري يشكّل أيضاً وظيفة أكثر غموضاً ترتبط بكيفية تنظيم المجتمعات العشائرية لنفسها في الوقت الذي اختفت فيه بقية أشكال السلطة والدعم الاجتماعي. في سهل البقاع اللبناني مثلاً، تم تشكيل معظم مخيمات اللاجئين السوريين كل حسب عشيرته، حيث بقي أبناء كل عشيرة مع بعضهم في وقت المعاناة الشديدة والضياع، مشكلين أسلوب تضامن عضوي ومتجذر ليس له علاقة بقياداتهم العشائرية بالضرورة. هذا التضامن هام من الناحية النفسية والعملية، فهم يعتمدون على العُرف العشائري لحل النزاعات مما يتيح نوعاً من الحماية لأفراد العشائر الذين ليس لهم مصدر حماية سواه. فعندما يحصل نزاع عنيف بين أفراد من عشيرتين مختلفين، تقوم المفاوضات العشائرية بالحدّ من تطوره وبإيجاد حلولٍ له. مثل هذه الأعراف كانت موجودة قبل عام ٢٠١١ ولكن أهميتها تزايدت مع غياب دور الشرطة المركزي والقضاء النزيه.
تستمر العلاقات العشائرية بتأدية عدد من الوظائف المهمة
كما ويستمر قادة العشائر في الوقت الحالي بلعب دور الوسيط للجهات الخارجية، وبشكل خاص لدمشق، أنقرة وقوات سوريا الديمقراطية، حيث تسعى هذه الجهات لبسط نفوذها في مناطق لا تملك فيها أي قاعدة اجتماعية. سعت قوات سوريا الديموقراطية مثلاً لضم شخصيات عشائرية إلى صفوفها كي تحصل على دعم من المجتمعات العربية. كما وأنها تعتمد على هذه الشخصيات لحل النزاعات وإدارة امتعاض المجتمع على المستوى المحلي. وتقوم دمشق أيضا بدورها بالتوجه لقادة العشائر كونهم الوسطاء الوحيدين في المنطقة، حيث أن الأعيان من خارج العشائر، كالموظفين الحكوميين وممثلي منظمات حزب البعث لم يعد لهم أي سلطة تذكر. في أحد الأمثلة، دفع الهجوم التركي وانسحاب القوات الأمريكية الجزئي في أكتوبر ٢٠١٩ دمشق للقيام بعدة محاولات لإقناع الشيوخ باستقدام مقاتلين من أبناء العشائر لصفوف قوات النظام، بهدف السيطرة على المنطقة. باءت هذه الجهود بالفشل ولم يكن لها أي نتائج، مما يوضح بالتالي أن دور هذه النخبة محدود.
تتسم البنية العشائرية اليوم بانهيار العقد الاجتماعي الذي طالما ربط دمشق، بقادة العشائر وبأفرادها. من جهة، لا يستطيع النظام المنهار والمفلس أن يقدم الكثير لقادة العشائر حتى في المناطق الخاضعة لسيطرته، في أحسن الأحوال يمكن لدمشق أن تعطيهم شكلاً محدوداً من الاستقلالية، وصولاً لخدمات الدولة الرسمية الأساسية، وحمايةً من أشنع اشكال العنف الذي تمارسه أجهزتها الأمنية. وبالتالي، لا يستطيع هؤلاء القادة تقديم الكثير لأبناء عشائرهم بل بالكاد يستطيعون مساعدتهم على الحد الأدنى للنجاة: هدف بسيط ولكنهم في كثير من الأحيان لا يستطيعون تحقيقه. ينتج عن هذا علاقات مفرغة من أي ولاء حقيقي أو شرعية، تتشكل من خلال رغبة جميع الافراد بحماية أنفسهم لا أكثر.
من المثير للدهشة أنه وبرغم كل هذا الانهيار في البنية العشائرية، إلا أنها بقيت أهم قوة تنظيمية يمكن الاعتماد عليها في شمال شرق سوريا. يشير هذا بشكل كبير إلى عدم فاعلية كل مصادر وأشكال التماسك الاجتماعي والسياسي الأخرى. كما يشير إلى حقيقة أن القوى الحاكمة، بدءاً من الإمبراطورية العثمانية للانتداب الفرنسي، لنظام الأسد، داعش وقوات سوريا الديموقراطية اعتمدت على العشائر ولكنها قوّضتها من خلال التعامل مع قادتها كوكلاء تتم السيطرة عليهم واستغلالهم، جرّدت هذه القوى العشائر من انسجامها واستقلالها الذي عُرفت به سابقاً.
إن هذا الميل لاستخدام البُنى المجتمعية على حساب تدميرها هو في الحقيقة سمة أساسية في أسلوب إدارة النظام السوري للمجتمع. فقد عمل طويلاً على ربط الفئات الدينية والاثنية والمناطقية بهيكلية قوته بطريقة ترسّخ الاعتماد عليه وتزرع التفرقة. بالمقابل توقف النظام منذ وقت طويل عن تشكيل بُناه الاجتماعية واعتمد بدلاً عن ذلك على البُنى الاجتماعية الموجودة أساساً. وهكذا يتضح أن بقايا العشائر تقدم لأبنائها أكثر مما لدى النظام ليقدّمه.
*نُشر في “سينابس” الثلاثاء 21 نيسان/أبريل 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا