بسام مقداد
لا يزال لقاء بوتين وأردوغان في سوتشي وما أسفر عنه، يشغل حيزاً واسعاً في نصوص الكتاب السياسيين والمواقع الإعلامية الروسية. ومهما بلغ التقارب الحالي بين تركيا وروسيا، فإن هذه النصوص تعكس عداءاً دفيناً ترسب أثناء الحرب الباردة، وخلال التاريخ الطويل للحروب بين الإمبراطويتين الروسية والعثمانية. ويعتبر الكرملين أن ما أحرزه من تقارب مع تركيا، الجناح الجنوبي لحلف الناتو، هو إنجاز استراتيجي في الصراع مع الغرب، لا يمكن التفريط به لا في سوريا ولا في ليبيا أو كاراباخ أو في غيرها، مهما بلغ عمق التناقض في مصالح الطرفين.
تتفق معظم المواقع الروسية على أن اللقاء الأخير بين بوتين وأردوغان في سوتشي، وعلى الرغم من التصريحات الإيجابية للزعيمين في نهاية اللقاء، لم يخرج بأية نتيجة سوى الإتفاق على الإبقاء على الوضع في سوريا كما هو حالياً، مما إعتبرته صحيفة القوميين الروس تنازلاً روسياً لتركيا. ورحب معظمها بإنسحاب قوات تركية من إدلب بعد اللقاء مباشرة، وعبر عن إرتياحه لدعوة أردوغان الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا. فقد نشرت صحيفة الكرملين “vz” في اليوم التالي للقاء نصاً بعنوان “لدى موسكو وأنقرة يبقى عدو مشترك في سوريا”، قالت فيه بأنه ما إن غادر إرردوغان سوتشي حتى إنهال باللوم على واشنطن. ولم تخف ترحيبها الشديد بتهجم أردوغان على منسق مجلس الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بريت ماكغورك، ووصفه ب”مخرج الإرهابيين” من حزب العمال الكردستاني. وتصف الصحيفة المنسق الأميركي بالدبلوماسي المجرب الذي شغل قبل الآن مناصب رفيعة في حقل الأمن القومي في إدارات ثلاثة رؤساء أميركيين.
تنقل الصحيفة في نصها آراء أكثر من خبير روسي في شؤون الشرق الأوسط وآخر تركي. قال أول الخبراء الروس بأن إنتقاد أردوغان يشتد داخل تركيا بسبب هشاشة الوضع المالي في البلاد. وكثيرون ينددون بالسلطة لتورط تركيا في أربعة حروب في آن واحد: في سوريا، في ليبيا، في العراق والحرب الأهلية في مناطق جنوب شرق البلاد. وعلى هذه الخلفية يحتاج أردوغان إلى إبراز نجاحات في السياسة الخارجية. ولذلك كان مجرد عقد اللقاء في سوتشي حدثاً مهماً للجانب التركي بالدرجة الأولى. وقد يكون لهذا السبب، كما يعتقد الخبير، لم يتم الإعلان عن أية قرارات مهمة في نهاية اللقاء، من دون أن يخمن أقله ما إذا كانت مثل هذه القرارات قد اتخذت أم لا.
وتقول الصحيفة بأن أردوغان غاضب لإهمال بايدن له وعدم لقائه سوى على هامش قمة الناتو الربيع الماضي، ولعدم حضور أي مسؤول أميركي إفتتاح البيت التركي في الولايات المتحدة، مما إستدعى ترحم أردوغان على عهد ترامب. ويعقب الخبير عينه على هذا بالقول أن دعم الولايات المتحدة كان يمنح أنقرة بعض الحجج لتعزيز موقفها في المفاوضات مع موسكو. ويرى أن قراراً واحداً، “على الأقل”، قد اتخذ في لقاء سوتشي، إذ بدأت على الفور ” آلاف والكثير الآليات المصفحة” التركية تنسحب من إدلب. لكن الناطق بإسم الكرملين، ولدى سؤاله عن إرتباط الإنسحاب التركي بلقاء سوتشي، رد بأن لا معلومات ملموسة لديه حول ما تم بحثه في اللقاء.
خبير آخر وافق أيضاً على الترابط بين الإنسحاب التركي ولقاء سوتشي، ورأى أن وجود “المتدخلين الأتراك” في سوريا يعود بالفائدة على روسبا. ويقول بأنه، طالما أن شوكة إردوغان في خاصرة الأسد بإدلب، لن يتمكن من أن “يبيع نفسه” لا للأميركيين ولا للأوروبيين، كما كان يفعل دائماً الزعماء العرب حين “يصبحون غير محتاجين لنا”.
وتنقل الصحيفة عن دكتور تركي في جامعة إسطنبول عضو في حزب “الوطن” قوله بأن لقاء سوتشي، أظهر مرة أخرى، بأن مصالح روسيا وتركيا تطابقت على معظم الإتجاهات. ورأى أن البلدين سيعترضان على” السلوك العدواني” للولايات المتحدة في سوريا، ولذلك لم يتبق لدى موسكو وأنقرة بديل آخر غير الشراكة الإستراتيجية.
صحيفة القوميين الروس”sp” نشرت نصين، نقلت في أحدهما عن أردوغان تصريحه في طائرة العودة من سوتشي أن تركيا سوف تطلق في المئوية الأولى لتأسيس تركيا الحديثة العام 2023 مركبة فضائية تحط على سطح القمر. وهي بحاجة إلى شريك على خبرة فضائية، بحثت الصحيفة مع خبير علمي روسي إمكانية أن يكون أردوغان يلمح إلى الشراكة مع روسيا في الفضاء أيضاً.
النص الثاني كان بعنوان “وراء الكادر: بوتين وأردوغان تساوما على القرم وقره باخ وإدلب السورية؟” تتهم الصحيفة في النص بوتين بتنازلات ثلاثة لأردوغان: إختلال ميزان التبادل التجاري الكبير لصالح تركيا؛ تغاضي بوتين عن تصريح أردوغان بعدم الإعتراف بالقرم روسياً؛ السماح “لأحفاد الإنكشاريين” بالدخول إلى حديقة روسيا الخلفية القفقاز، في إشارة إلى وقوف تركيا وراء أذربيجان بانتصارها على أرمينيا في قره باخ.
وتقول الصحيفة أنه كان يمكن تقديم هذه التنازلات مقابل إدلب “الصغيرة لا غير”، لكن أردوغان بقي على موقفه، مما يعني أن الموقف في شمال غرب سوريا سوف يتوتر قريباً، ويبدو أن أنقرة كانت بحاجة لكسب الوقت، “وقد كسبته”.
صحيفة “NG” استبقت اللقاء بيومين ونشرت نصاً بعنوان “تألق وفقر سياسة أردوغان الخارجية”، وقالت بأن تركيا تبدأ مباريات لا تستطيع لعبها حتى النهاية. وتشير إلى أن كمال أتاتورك أوصى تركيا بثلاث ثوابت في سياستها الخارجية: عدم التدخل في شؤون العرب؛ ألا تصبح تابعة للغرب وتتجنب تحالفاته؛ أن لا تدخل في نزاع مع روسيا. وتؤكد كاتبة النص في الصحيفة بأن أتاتورك لم يربط هذه الثوابت بزمن معين، بل إعتبرها ركائز السياسة الخارجية التركية. لكن ولا واحدة من هذه الثوابت تم الحفاظ عليها على النحو الذي أراده أتاتورك، ولم يفضِ ذلك إلى رفعة تركيا.
ويمكن النقاش بشأن الفوائد التي تحصلها تركيا من عضوية الناتو، لكن ينبغي الحديث أيضاً عن الإمكانيات التي حرمت منها. وهذه الإمكانيات كانت متوفرة لتركيا، لكنها لم تكن مقبولة من الولايات المتحدة وبريطانيا بالدرجة الأولى. فقد فُرضت على تركيا نظرية أمن تقول بأن الإتحاد السوفياتي عدو، الناتو هو الحماية، أوروبا هي المستقبل. وسنحت لتركيا فرصة نادرة مع سقوط الإتحاد السوفياتي، إذ كان بوسعها أن تهب لملأ الفراغات الجيوسياسية التي تشكلت بعد خروج روسيا من الجمهوريات السوفياتية السابقة.
تقول الكاتبة بأن تركيا الآن منخرطة في عمليات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ولم ينته نزاعها مع اليونان وفرنسا في البحر المتوسط، كما حصدت نتيجة هشة في حملة القفقاز التي انخرطت فيها كلياً واستبعدت في النهاية عن التحكم بالوضع هناك.
وترى الكاتبة أن تركيا تجد نفسها في وضع حرج تسببه شبكة العمليات السياسية الخارجية غير المنتهية . وقد إنخرطت تركيا في الحرب السورية، حيث تتكبد هناك خسائر، وتحد حرية حركتها الإتفاقيات مع روسيا والويات المتحدة. وهي لا تستطيع الخروج من الحرب، إذ أنها سوف تفقد في هذه الحالة القدرة على إدارة ملف المسألة الكردية، مما يشكل تهديداً لوحدة أراضيها.
وتتساءل الكاتبة ما إن كان أردوغان قادراً على تذليل كل هذه المخاطر والتهديدات التي تحدثت عنها، وتقول بأن أردوغان معروف بقدرته على إتخاذ القرارات اليائسة، لكن بريطانيا والولايات المتحدة ستعملان ما بوسعهما للحؤول دون خروجه من الوضع الصعب، بل ستدفعانه إلى إتخاذ خطوات كارثية أكثر.
المصدر: المدن