جسر – صحافة
فيما يتم الترويج بكثافة لتبعات اقتصادية عاجلة لزيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، في أوساط الإعلام الموالي للنظام، تتجلى أكثر فأكثر، ملامح أشهرٍ مُنتظرة أشد قسوة على السوريين، من التي سبقتها، إذ تبدو أن معيشتهم في طريقها للمزيد من التدهور في مدى زمني منظور لا يقلّ عن سنة من الآن، على أقل تقدير.
ومن المفهوم، لماذا يحاول النظام استغلال زيارة وزير الخارجية الإماراتي من زاوية اقتصادية ترويجية، فهو يحاول إطالة أمد “صبر” السوريين على معيشتهم المنهارة، عبر إقناعهم بأن “الفرج” الاقتصادي، قاب قوسين أو أدنى. لذلك نجده قد أوفد سريعاً، وزير اقتصاده على رأس وفد يضم رجال أعمال سوريين إلى الإمارات، علّهم ينجحون في جذب المستثمر الرسمي والخاص، إلى كعكة الاستثمار بسوريا المُدمّرة. في الوقت الذي يحاول فيه إعلامه الإيحاء بحراك اقتصادي إماراتي باتجاه سوريا، قد بدأ بالفعل، عبر الضجيج الذي أحاط خبر توقيع اتفاق بين مؤسسة توليد الكهرباء الرسمية وبين ما وُصف بأنه “تجمع شركات إماراتية” لإنشاء محطة توليد كهرضوئية، باستطاعة 300 ميغا واط، في ريف دمشق.
خبر الاتفاق، الذي حضر توقيعه، وزير الكهرباء بحكومة النظام، وفق الصور التي نشرها الإعلام الموالي، لقي استخفافاً من جانب مصادر إعلامية معارضة نظراً لأن المعلومات المتاحة عن الشركات الموقّعة على الاتفاق، تشير إلى أنها لا تملك خبرة سابقة في هذا النوع من المشاريع، كما أن ممثل الشركة ليس مسجلاً كرجل أعمال، ناهيك عن أن الحاضرين لتوقيع الاتفاق، وفق المصادر المعارضة، كلهم أشخاص سوريون بعضهم مقيم بالإمارات.
وبعيداً عن مدى أهمية الاتفاق، وهل يمثّل حقاً عودة للاستثمار الإماراتي إلى سوريا أم لا، يبقى السؤال الذي قد يشغل بال السوريّ العادي القابع تحت سيطرة النظام: متى ستُفرج هذه الضائقة المعيشية التي استحكمت بصورة خانقة في السنتين الأخيرتين؟ وفي محاولةٍ للإجابة، يمكن القول أنه حتى لو سايرنا بروباغندا النظام، بأن أموال الخليجيين بدأت بالتدفق على سوريا، فهذا يعني أن تباشير انعكاس تلك الأموال على عجلة الاقتصاد السوري، لن تبدأ في الظهور قبل سنة من الآن. يأتي هذا التقدير من خبرة قديمة. ففي مطلع القرن الحالي، وحينما كانت سوريا تتمتع بعلاقات إقليمية أفضل بمرات مما هي عليه اليوم، كان انتقال أي مشروع استثماري من مرحلة الاتفاق المبدئي إلى مرحلة “التشميل” –التنفيذ-، يتطلب في أدنى الحدود، عاماً كاملاً. ما سبق يعني أن الأشهر القليلة القادمة، وصولاً حتى خريف العام القادم على الأقل، ستكون أشد وطأة على السوريين، من سابقاتها، تحديداً، بعد موجة رفع أسعار حوامل الطاقة الأخيرة.
وكي نتمكن من تقديم صورة أكثر دقة لما ينتظر السوريين في المدى المنظور (خلال سنة من الآن)، من المفيد الاستشهاد ببعض المعطيات المثيرة للاهتمام التي قدمها موجز للسياسات صدر عن برنامج مسارات الشرق الأوسط، في تشرين الأول/أكتوبر الفائت، حول التبعات المترتبة على القطاعات الاقتصادية وعلى الأفراد في سوريا، جراء سياسة خفض الدعم على المشتقات النفطية.
الموجز الذي أعده جوزيف ضاهر، الخبير في دراسات التنمية، لفت الانتباه الى نقطة مهمة، كثيراً ما تغيب عن بال محللي السياسات الاقتصادية للنظام. وهي أن الأخير كان يخطط للتخلص من عبء دعم حوامل الطاقة، منذ نهاية العقد الأول من القرن الحالي، حينما أعلن المسؤولون السوريون في مناسبات عديدة أن معظم المشتقات النفطية ستُباع بسعر السوق بحلول العام 2015. لكن أحداث العام 2011، وما تلاها من تطورات، دفعت النظام إلى إبطاء هذا المسار، قبل أن يسرع الخطى باتجاهه مجدداً منذ أكثر من عامين، متذرعاً بآثار الحرب و”الحصار” والعقوبات الغربية ونقص النفط، بصورة جعلت الكثيرين ينسون أن رفع الدعم كان استراتيجية مُعتزمة لدى النظام منذ ما قبل العام 2011.
لكن، كيف انعكست سياسة خفض الدعم عن المشتقات النفطية في السنتين الأخيرتين، على حياة السوريين؟ في معرض إجابته، يقدّم موجز السياسات المشار إليه، أمثلة تفصيلية عن آثار كارثية على الزراعة والصناعة في البلاد. ذلك أن جزءاً كبيراً من المزارعين والصناعيين، خرجوا فعلياً من السوق، أو خفّضوا حجم إنتاجهم إلى أقل من النصف، جراء عجزهم عن تحمل تكاليف الإنتاج.
وقد تفيد بعض الأمثلة والأرقام في تقديم صورة أكثر دقّة عن المشهد الاقتصادي بسوريا، اليوم. فقد تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بالتبغ في سهل الغاب (محافظة حماة) إلى أقل من النصف، خلال عامٍ واحدٍ فقط. فيما تراجعت زراعة الخضار والفواكه بنسبة 60 إلى 70%، وفق تصريحات لمسؤول نقابي رسمي.
أما انعكاسات رفع الدعم على تكاليف المعيشة فكانت أكثر وضوحاً. ففي تموز/يوليو الفائت، انعكس رفع سعر المازوت المدعوم على تكاليف النقل الشهرية للأُسرة المكوّنة من ثلاثة أفراد يستخدمون سيارات الأجرة والسرفيس في دمشق، بنسبة138%، لتصبح بحدود 100 ألف ليرة سورية شهرياً – الحد الأدنى للأجور 71 ألف ليرة سورية شهرياً-.
وأدى ارتفاع سعر المازوت وتضاعف سعر الخبز، في تموز/يوليو الفائت، إلى ارتفاع تكلفة سلّة المواد الغذائية بنسبة 40%، لتصبح بحدود 766 ألف ليرة سورية. فيما قفز متوسّط كلفة المعيشة للأُسرة المكوّنة من خمسة أفراد في دمشق، بين شهري تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر من العام الجاري –أي خلال شهرين فقط-، بنسبة تقارب الـ 50%، ليصبح بحدود 1.7 مليون ليرة سورية. فيما يغطي الحد الأدنى الشهري للأجور أقل من 4% من التكاليف المعيشية.
النتائج الموجزة آنفاً، والتي يفصّلها أكثر موجز السياسات المشار إليه أعلاه، تناولت بصورة رئيسية، نتائج موجة رفع أسعار حوامل الطاقة، وبعض المواد المدعومة كالخبز، في تموز/يوليو الفائت. هذه النتائج قد تتيح لنا تصور ما سيحدث لكلفة معيشة السوريين الشهرية في ضوء الموجة الأخيرة من رفع حوامل الطاقة، التي أطلقها النظام قبل عشرة أيام، حينما رفع الأسعار المدعومة للغاز المنزلي بنسبة 130%، وللغاز الصناعي بنسبة 300%، وللكهرباء بنسب تتراوح ما بين 100 و800%.
في ضوء ما سبق، لا يمكن للسوريين القابعين تحت سيطرة النظام، الرهان على تبعات اقتصادية إيجابية لانفتاح بعض الدول العربية على نظام الأسد، في وقت قريب. بغض النظر عما يروجه إعلامه بهذا الخصوص. بل على العكس من ذلك، عليهم أن يستعدوا لانخفاض جديد، وكبير، في قدرتهم الشرائية، ويعني ذلك، المزيد من انكماش الاقتصاد وتباطؤ عجلة الإنتاج، خلال سنة من الآن، في أقل تقدير.
المصدر: موقع المدن