جسر: رأي:
فيما تريدها أنقرة معركة عسكرية منخفضة الضجيج قدر المستطاع، حتى يستتب لها الأمر، يدفع خصومها لجعلها معركة سياسية وإعلامية حامية الوطيس. ولعل جلسة مجلس الأمن التي عقدت بعد يوم من انطلاق معركة “نبع السلام”، بطلب من حلفاء أوروبيين لتركيا في “حلف الناتو”، والتي اجهضت بفيتو مزدودج من واشنطن التي تسيطر فعلياً على الأراضي التي تغزوها تركيا، ومن موسكو التي تستخدم ورقة معارضة التدخل الأجنبي وحماية السيادة، ابلغ دليل على تعقيد تلك المعركة، وما سينجم عنها سياسياً.
في قراءة سريعة للمجريات الميدانية في اليومين الأولين من المعركة، يمكن القول إنها ما زالت ضمن الأطر المألوفة لبدايات كلاسيكية لأي معركة: اهداف محضرة مسبقاً، تمهيد جوي ومدفعي لتحييد التحصينات وحقول الألغام والمخاطر غير المرئية من الأرض؛ أي فتح الطريق للقوات البرية لتعبر بسلاسة إلى الأهداف التي لا يمكن التعامل معها جواً. وبالفعل تدفقت أرتال من “الجيش الوطني” السوري، الذي هو بمثابة الأقدام التركية على الأرض، في المناطق المفتوحة المحيطة بهدفي العملية، وهما مدينتا رأس العين وتل ابيض. وبدأ طرفا النزاع بالتصعيد الإعلامي في إطار الحرب النفسية، معلنين عن انتصارات باهرة وخسائر بالغة في صفوف الطرف الآخر، لا يمكن التأكد منها بدليل قاطع.
في اليومين المقبلين، يتوجب على القوات التركية والموالية لها، أن تدخل المدينتين، لتثبت مزاعمها بحصول تقدم مهم، وعلى “قوات سوريا الديموقراطية” أن تعرض صوراً للقتال الشرس المزعوم من طرفها، لتثبت قدرتها على المقاومة، وهذا ما سيزيد من سخونة الأجواء المحيطة بميدان الصراع.
المناطق التي تم التقدم إليها تثبت ما سبق ونشرناه؛ من أن العملية ستقتصر على تل أبيض ورأس العين، وصولاً إلى الطريق الدولي أربيل-حلب، أي بعمق متفاوت بين ثلاثين وخمسة وثلاثين كيلومتراً. وقد جربت القوات التركية، الخميس، الامتداد شرقي رأس العين، فحلق الطيران الأميركي فوق بلدة الدرباسية محذراً من تجاوز الخطوط المرسومة.
الطيران التركي ما زال يقوم بمهماته من المجال الجوي التركي، وهو ليس بحاجة إلى التوغل أكثر من ذلك لقرب الأهداف، التي هي بمتناول المدفعية أيضاً. واساساً لم يكن في المنطقة التي تم التوغل فيها حتى الآن الكثير من العوائق، فالانفاق والتحصينات دمرت إبان العمل الاميركي على انشاء المنطقة العازلة، وفق اتفاق الآلية الأمنية، و”قسد” انسحبت منها، عدا عن إن جولات الخبراء الاتراك هناك مع الدوريات الأميركية، كانت قد كشفتها تماماً، واصبح الدفاع عنها بلا جدوى، من وجهة نظر حرب العصابات التي يخوضها الأكراد، لافتقادها عنصر المباغتة.
المعركة ستكون أصعب عندما ستحتاج القوات المهاجمة إلى ما يُعرف عسكرياً بـ”الابرار الناري” القريب من طيران الجيش، أي بالحوامات الهجومية، والمقاتلات التكتيكية. وهنا سيظهر تحديان، الاول هو التقييد الاميركي على الطيران التركي فوق الأراضي السورية، والثاني الاحتمال القائم بامتلاك “قسد” لمضادات طيران، كالصواريخ المحمولة على الكتف، والمدفعية المضادة للطيران، بما يكفي للتعامل مع الطيران على علو منخفض.
عامل تقييد الطيران سيلعب دوراً ايضاً في عرقلة عملية قطع امدادات “قسد” التي لا بد منها لتعزيز قواها وتعويض الخسائر. فإذا لم يكن بوسع الطيران التركي الضرب في العمق، فإن ذلك سيعزز من فرص الأكراد بالصمود.
المعلومات الاستخباراتية، وصور الأقمار الصناعية، التي يمكن تقديمها لـ”قسد” ستكون مفيدة جداً ايضاً، ووفقها يمكن لمدفعيتها البعيدة أن تدمر الأهداف الثابتة. وكان لافتاً أن القوات التركية لم تُخيّم في تل أبيض، داخل الأراضي السورية، ليل الخميس/الجمعة، بل انسحبت إلى مخيم سليمان شاه شمالي مدينة اقجة قلعة التركية، وذلك على الأغلب خشية استهدافها بمدفعية “قسد” بعيدة المدى، بناء على معلومات استخباراتية دقيقة.
وعلى الرغم من وضوح المعادلة العسكرية ظاهرياً، وميلانها بشكل كبير لصالح الجيش التركي سواء لناحية العدد أو العتاد، أو حتى لناحية تضاريس ميدان المعركة، إلا ان هامشاً كبيراً من عدم اليقين يخيم على المشهد. فلا أحد يستطيع ان يتكهن بنوع ومدى الدعم الذي يمكن أن تتلقاه “قسد” من خصوم تركيا في الاقليم والعالم، من المتعطشين لرؤية الجيش التركي غارقاً بالدم، ورؤية اردوغان شخصياً، مهزوماً.
سياسياً، سارعت واشنطن لاشهار الفيتو في وجه بيان أعده الاوروبيون ضد التدخل التركي، وكان بإمكانهم الاكتفاء بعدم التصويت، تماشيا مع موقفهم المعلن بكونهم ليسوا مع أو ضد العملية، لكنهم يدركون جيداً أن موسكو ستستخدم الفيتو لتسجيل سابقة لدى انقرة، وارادوا أن يقولوا انهم ايضاً مهتمون بعلاقتهم مع الاخيرة. وهذه تبقى على كل حال لعبة مفهومة من العاب السياسة، لكن الأخطر يدور في الأروقة، فنظام الأسد الذي صعّد ضد تركيا عند بدء العملية، عاد للتنصل من مهمته المفترضة وهي “الدفاع عن الأرض والسيادة السورية”، وقال إنه غير معني بالدفاع عن “مليشيا” خانته.
ويأتي هذا في سياق عرض طرحته موسكو، ويتضمن التوسط بين انقرة والاكراد، وبين الأكراد ودمشق، وبين أنقرة ودمشق. والوجهة يحددها الأكراد، الذين سترتب روسيا أمورهم، ولا شرط لها سوى خروجهم من تحت العباءة الاميركية. لكن قادة “قسد”، يبدون حتى اللحظة، غير منجذبين للوساطة الروسية المعلنة، ويفضلون عليها وساطة أميركية غير معلنة، لحل ملف أكراد تركيا عبر التفاوض مع حزب “العمال الكردستاني”، وهو ما جرى بعضه خلال الصيف الماضي، وكاد الامر يصل إلى اطلاق سراح عبدالله اوجلان، لكنه عاد وتعثر.
ايران التي تستعد للعبث بدورها باستقرار شرق الفرات، انطلاقاً من قواعدها في ديرالزور والبوكمال، تبدو راضية عن هذا الضغط التركي على الوجود الاميركي هناك، والذي يمثل العقبة الجديّة الوحيدة أمام مشروعها التوسعي. وتطلق طهران تصريحات حمالة أوجه، خشية أن تسفر العملية في النهاية عن صفقة تركية-أميركية توطد من قوة انقرة في سوريا، وتضعها في صراع نفوذ مع طهران شرقي سوريا.
أما الاوربيون الذين وضعهم ترامب بقراره هذا أمام امتحان صعب، وهو إما ان يشاركوا في النفقات والالتزامات الاميركية في سوريا، أو أن يبيع المنطقة لاردوغان، فإنهم يتوسلون الحل من خلال الضغط عليه بالملف الإنساني. لكن جهودهم ستذهب سدى، إن لم يدعمهم بقوة الجناح الرافض للانسحاب داخل الإدارة الاميركية ذاتها، وهذا يمثله جنرالات البنتاغون، الذين يشهرون ورقة عودة “داعش”، والتمدد الايراني، وتآكل مصداقية الولايات المتحدة وتصورات القوة عنها لارغام ترامب على التراجع.
ومن شأن تآزر هذين الموقفين، الأوروبي المكتسي بالانساني، والعسكري الاميركي الذي يهدد بالمخاطر المحتملة في حال الانسحاب من سوريا، أن يغير الموازين، وربما يبلغ حد اجبار الرئيس الاميركي على العودة عن المنحة المعطاة لاردوغان، وهي تل أبيض ورأس العين، والاكتفاء بحملة تركية تدمر بعض الأهداف ثم تنسحب نهائياً، أو تكتفي بحدود اتفاقية اضنة المعترف بها وهي خمسة كيلومترات عمقاً.
المعركتان العسكرية والسياسية شرقي الفرات ما زالتا مفتوحتين على كل الاحتمالات، وطرفاها، سواء التركي أو الكردي، ليسا سوى عاملين من جملة عوامل أخرى، تساهم بصياغة المخارج النهائية.
المدن ١١ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩