جسر – (خاص)
في عام 2014 وبعد شهور من سيطرة تنظيم “داعش” منفرداً على مدينتي الرقة، وقرب ما تسمّى بـ”دويرة الخضرة”، وهو المكان الذي يتجمع به بائعو الخضار، دار الحوار التالي بين مقاتل أجنبي من التنظيم، وامرأة مسنّة من أهالي المدينة:
- – يا حجّة البسي النقاب جيداً.. وجهكِ ظاهر.. لا يجوز يا حجّة.
- * يا ابني لابسته لابسته زين.. بس والله اختنقت من النقاب، وأريد أتنفس هوا.
- – يا حجّة، الآن تقولين إنكِ اختنقتِ، ماذا ستقولين عندما يأتي الصيف؟
- * يابا.. ليش أنتم ظالين هين للصيف الجاي؟
لم تكن السيدة المسنّة تتصوّر أن الحياة ستستمر تحت حكم هؤلاء الغزاة الغرباء القادمين من شتى بقاع الأرض، إلى الرقة، إلا أن عكس تصورها هو ما حصل، وبقي هؤلاء 4 سنوات في الجزيرة السورية والرقة خصوصاً، ولم ينتهِ وجودهم إلا بعدد ضخم جداً من القنابل والصواريخ “الذكية”، لتصبح المدينة عقب ذلك ركاماً ثقيلاً من الحجارة والبؤس.
أنتجت بضع سنوات من سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على مساحات واسعة ومدن كبيرة في سوريا والعراق، إحدى أضخم المشاكل الأسرية في المنطقة وأكثرها اتساعاً، ألا وهي مشكلة مجهولي النسب أو عديمي الجنسية من أطفال المقاتلين (المهاجرين) الأجانب، نتيجة زواجهم من نساء سوريات وعراقيات.
ترتبط المشكلة المذكورة ارتباطاً وثيقاً بمشكلة رديفة وهي أطفال المقاتلين الأجانب من زوجاتهم الأجنبيات، الذين ولدوا في سوريا أو جاؤا إليها من عائلاتهم، ورفض أو تلكؤ دولهم باستعادتهم إلى أراضيها. وتتصل أيضاً بمشكلة أُخرى وهي زواج الفتيات القاصرات، إلا أننا سنكتفي في هذه التقرير، بالإضاءة على مشكلة أطفال الأمهات السوريات، عديمي النسب أو الجنسية.
زيجات ملغّمة في الواقع الطارئ
بدأ تدفق المقاتلين العرب والأجانب إلى سوريا بدءاً من النصف الثاني من عام 2012، وبلغ عددهم مئات الآلاف خلال سنوات قليلة، قادمين من عشرات الدول، والجزء الأكبر منهم انضم إلى تنظيم “داعش” والجزء الآخر توزع بين تنظيمات راديكالية مسلحة أُخرى.
بعد قرابة سنتين على وجود التنظيم بالجزيرة السورية، تسير في شوارع الرقة مثلاً، فتشعر فعلاً بأنك في مكان شديد الغرابة، حيث تشاهد رجالاً مسلحين وأطفالاً من شتى الجنسيات والأعراق والألوان.. عشرات الآلاف من الخليجيين والمغاربة والمصريين والفرنسيين والصينيين والإيرانيين والأذريين والأتراك والألمان والبلجيكيين والماليزيين والأمريكيين والأفارقة… من كل مكان في الأرض.
دأب التنظيم على تشجيع مقاتليه على الزواج “مثنى وثلاث ورباع”، والكثير من المقاتلين استجابوا للدعوة وتزوجوا نساء من المنطقة، تحت ضغط الإغراء والترغيب في بعض الأحيان والترهيب في أحيان أكثر، فضلاً عن امتلاك “السبايا” اللاتي كن معظمهن من الإيزيديات والكرديات.. وقد يخطر بالبال أن مقاومة الترغيب والترهيب قبل حصول هذه الزيجات أمر ممكن، ولكن واقع الحال لم يكن كذلك، ولـ”داعش” سطوة مرعبة يطول الحديث عنها، ولا يمكن تشبيهها -لتقريب الصورة- إلا بسطوة نظام كيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
ونتج عن هذه الزيجات الكثير من الأطفال، الذين سرعان ما تحولوا خلال سنوات قليلة إلى مجهولي نسب، فمن المعروف أن المقاتلين الأجانب يمزقون جوازات سفرهم فور دخولهم البلاد، ويختارون لأنفسهم ألقاباً وأسماء مستعارة، من قبيل “أبو فلان الجزراوي” (أي من شبه الجزيرة العربية)، و”أبو فلان القوقازي” و”أبو فلانة الفرنسي”.. إلخ.
وفي بعض الحالات، كانت تنجب الزوجة أطفالاً من رجلين أو ثلاثة، لأن بعضهن كن يتزوجن من مقاتلين آخرين بعد مقتل أزواجهن في معركة أو غارة جوية. جميع ما سلف ذكره أكده تقرير لمجلس حقوق الإنسان نُشر عام 2019.
مجهولو النسب.. والمستقبل!
بعد القضاء على آخر معاقل تنظيم “داعش” الإرهابي في منطقة الباغوز بريف دير الزور، في آذار عام 2019، بدأت تطفو شيئاً فشيئاً مشكلة الأطفال مجهولي النسب على السطح في المجتمع بشمال شرقي سوريا، فالكثير من الأمهات أجبرن على التخلي عن أطفالهن تحت ضغط الأهل والمجتمع، وبعضهن اخترن أطفالهن وابتعدن عن عائلاتهن، في معركة “العار” التي كانت تطحن النساء وأطفالهن دون رحمة.
الأمر لم يتوقف هنا، واجهت النساء مشكلة كبيرة في مسألة الأوراق الثبوتية، على اعتبار أنهن كن طرفاً في عقد زواج غير رسمي طرفه الآخر مجهول تماماً، والأطفال كانوا نتيجة هذه العملية، وأصبح الأطفال من مكتومي القيد أو مجهولي النسب، وبالتالي أدى ذلك إلى حرمان الأمهات وأطفالهن من الكثير من الخدمات والمساعدات، بما فيها تلك التي تقدمها المنظمات الإنسانية الدولية، وفق ما أكدت مصادر محلية.
يقول الإعلامي عبد الخلف وهو أحد المهتمين القلائل بهذه القضية في شمال شرقي سوريا، إن “قضية أبناء المقاتلين الأجانب مشكلة معقّدة وشديدة الحساسية، ولذلك لا أحد يريد الخوض فيها، رغم أنها قضية حقوقية بالكامل تتعلق بمستقبل أطفال أبرياء لا ذنب لهم، وأمهات سوريات مقهورات لا يملكن من أمرهن شيئاً”.
وأردف أنه “نظرياً، تستطيع الأم السورية إن لم تكن تعرف والد طفلها واسمه، رفع دعوى أمام القضاء السوري لمنح جنسيتها لطفلها، لكن عملياً هذا لم يحدث قط”، مضيفاً: “وتنطوي هذه الخطوة على ما يمكننا تسميته جدلاً بالفضيحة الاجتماعية، وأيضاً على مخاطر اتهام الأم بالإرهاب، أو حتى الاعتقال التعسفي على يد قوات النظام.. أما في شمال شرقي سوريا فما زالت القوانين قاصرة، والسلطات المحلية والمبادرات القليلة التي أطلقتها المنظمات الإنسانية بالمنطقة، عاجزة عن التعامل مع المسألة كما يجب”.
يؤكد “الخلف” في حديثه لصحيفة “جسر” أنه ثمة العديد من النساء السوريات في مناطق الجزيرة السورية، يكابدن وحدهن جميع تفاصيل هذه المعضلة، وأعدادهن غير محددة بسبب غياب الإحصاءات، مرجحاً وجود مئات الأطفال مكتومي القيد من أبناء المقاتلين الأجانب في مناطق شمال شرقي سوريا.
من جانبها، تؤكد الباحثة رشا الطبشي، إحدى أبرز الناشطات السوريات في هذا الملف، أن “هذه المشكلة شديدة الأهمية لكن العديد من التحديات والعقبات تواجهنا، مثل صعوبة الوصول إلى أرقام دقيق عن حالات انعدام الجنسية، خاصةً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بسبب تعدد الجهات المسيطرة على هذه المناطق واختلافها وصعوبة التواصل معها، وأيضاً خوف النساء من مشاركة قصصهن، وعدم رغبة المجتمع المحيط بفتح النقاش حول هذه الحالات إما خوفاً من سلطات الأمر الواقع أو بسبب عدم اعتبار هذه القضية من ضمن الأولويات الكثيرة بالنسبة للنساء”.
لفتت رشا في حديثها لصحيفة “جسر”، إلى أن ردود الأفعال بعد طرح مشكلة النساء السوريات وأطفالهن من فاقدي الجنسية والنسب، لم تكن إيجابية في أغلبها “حيث كانت أغلب التعليقات تتمحور حول أنه يجب ألّا نخوض بهذه القضية كونها ترتبط بالدين، وهذا ليس دقيقاً بالطبع، إضافة إلى التعليقات المستمرة بأن القضية ليست أولوية وأن السوريين والسوريات الآن بحاجة للأمان وتأمين لقمة العيش والتعليم والصحة، متناسين تماماً أن حرمان الطفل من الجنسية يؤدي حتماً لحرمانه من كافة هذه الحقوق، عدا أن هذا الجيل من عديمي الجنسية سيورث أيضاً انعدام الجنسية للجيل القادم”.
الإعلام في واد آخر
المشكلة الموازية والأهم لكل ما ذكرناه آنفاً يتعلق بالإعلام السوري التابع للنظام والآخر الجديد الذي انبثق عن المعارضة السورية عقب الثورة، فكلا الجانبين يتجاهلان هذه المشكلة ولا يتناولانها إلا نادراً وبشكل عرضي يستنجد الإثارة.. إثارة تدور حول التوصيف الشهير والثقيل جداً، ألا وهو “أطفال داعش”!
خلال عملية بحث في وسائل الإعلام السورية، لم نجد فعلياً ما نتناوله بشكل جدّي في هذا التقرير، إلا بضع مواد صحفية قليلة، فثمة تجاهل غريب وغير مفهوم لهذه المشكلة، والإعلام السوري برأينا كان بطيئاً جداً في مجاراة التطورات والمنعطفات الاجتماعية الخطيرة في البلاد الناتجة عن سنوات الحرب الطويلة.
ولكن لحسن الحظ، وجدنا خلال عملية البحث أنه ثمة مبادرة أطلقها مجموعة من الباحثين والناشطين السوريين قبل سنوات قليلة، لتسليط الضوء على مشكلة معدومي الجنسية في سوريا، وحملت اسم “المبادرة السورية للقضاء على انعدام الجنسية”، وهذه نقطة مضيئة وربما وحيدة في هذا الشأن، إلا أنها لم تحظ أيضاً باهتمام من جانب وسائل الإعلام والجمهور في سوريا!
وأنتجت المبادرة المشار إليها بحثين مهمين للغاية يمكن الاستناد إليهما للحصول على معرفة أساسية وافية عن مشكلة أطفال المقاتلين الأجانب من الأمهات السوريات، الأول هو “بشر بلا حقوق” صدر عام 2021، والآخر “مئتان وستة وسبعون” صدر عام 2023.
تقول رشا الطبشي المسؤولة عن المبادرة، إن “الفكرة بدأت عام 2017، عندما قررنا في فريق ورشة، العمل على فيلم وثائقي، يتناول الآثار السلبية لزواج السوريات من المقاتلين الأجانب، وأولها مشكلة الأطفال عديمي الجنسية بسبب هويات الآباء المجهولة، ولكننا فوجئنا بأعداد الأطفال الضحايا في المناطق الخارجية لسيطرة النظام السوري، لذلك قررنا وقف إنتاج الفيلم والخوض عميقاً في هذه المسألة، قبل إطلاق مبادرة شاملة تركّز عليها”.
أجرى “فريق ورشة” عدة استطلاعات رأي واستبيانات -ضمن إطار المبادرة التي أطلقها- لمعرفة رأي المجتمع المحلي ورأي الفقه الديني والقانون بهذه الحالات، وأنتج عدة مواد بحثية وإعلامية بهدف رفع الوعي فيما يخص حق المرأة السورية في منح الجنسية، وتقليل الخطر الذي يهدد الأطفال عديمي الجنسية والاعتراف بهم، كما عملت المبادرة على دفع وتشجيع الناشطين والناشطات والمنظمات الحقوقية والمدنية، لتبني القضية، لكن ما زال الإعلام شبه غائب.
تعبّر “الطبشي” عن استياء كبير بشأن تعاطي وسائل الإعلام مع هذه القضية المهمة، وتقول إن “تعامل الإعلام السوري الموالي والمعارض مع مسألة حق المرأة في منح الجنسية كان من التحديات التي واجهناها منذ بداية عملنا. الإعلام بشكل عام، لا يكترث لهذه القضية لأنها تعتبر غير جذابة ولا تثير الجدل بالمقارنة مع قضايا أخرى..”.
تضيف قائلة إنه “بالنسبة للإعلام المعارض أو الإعلام البديل، فهو أيضاً يتعامل مع القضية من زاوية الإثارة ويغفل عن الجوانب الأكثر أهمية والمتعلقة بالتمييز القانوني وآثاره. أما إعلام النظام السوري، فهذه القضية ليست ضمن أجنداته بأي شكل من الأشكال.. أما بالنسبة لنا كمبادرة، وللتعامل مع هذه المشكلة، بدأنا بإنتاج المحتوى الإعلامي بأنفسنا، سواء من خلال فريقنا أو من خلال تشجيع الصحفيات على تناول هذا الموضوع بطرق مختلفة، وشمل ذلك إنتاج تحقيقات صحفية، وبودكاست، وبرامج حوارية وغيرها من المواد الإعلامية”.
الإعلامي عبد الله الخلف، قال إنه وانطلاقاً من اهتمامه بهذه المشكلة، عمل على إنتاج تقريرين صحفيين، الأول نُشر عام 2022 في موقع راديو “روزنة” بعنوان “عائدات من مخيم الهول.. بين الوصم الاجتماعي والحاجة لكل شيء”، والآخر هو “أبناء السوريات من مقاتلي تنظيم الدولة.. أطفال بلا هوية”، نُشر العام الفائت لصالح منظمة “العدالة من أجل الحياة”.
ويعتبر “الخلف” أنه “رغم التقصير الواضح للإعلام السوري في هذه القضية الحساسة ومثيلاتها، لكن المسؤولية لا تتحملها وسائل الإعلام بالكامل، بل ثمة جزء من المسؤولية على عاتق الضحايا أنفسهم”!
وأوضح أنه عانى كثيراً في البحث للوصول إلى الحالات الاجتماعية التي تناولها في التقريرين اللذين أنجزهما، حيث تتخوف الكثيرات من الأمهات من الحديث لوسائل الإعلام رغم كل الضمانات المقدّمة، وذلك بسبب تأثيرات “شبح العار” الذي يلاحقهن مع أطفالهن، ويؤكد أنه “إذا قلنا إن المجتمع كله ضحية لما جرى وليس فقط النساء، فهو أيضاً غير مرن، وليس منفتحاً بشكل عام على التعاطي مع الموضوع”.
لا حلول في الأفق!
يوجد عدد لا يمكننا تحديده بثقة، ولكنه كبير من الأطفال في شمال شرقي سوريا من مكتومي القيد (معدومي الجنسية)، يعانون وأمهاتهم من ظروف معيشية واجتماعية وقانونية كارثية. وفضلاً عن أن الإعلام بشقيه “الرسمي” والمعارض إضافة إلى المنظمات المعنية، لا يهتمون بهذه المشكلة كما يجب، فإنه لا توجد أي بادرة سواء من النظام أو من المعارضة لمنح الأطفال الجنسية استناداً إلى جنسية أمهاتهم السوريات، وهذا ما ينذرنا بكارثة مؤجلة ولكن حتمية، تتضخم في الظلام شيئاً فشيئاً على الصعيد الإنساني وأيضاً على الصعيد الإثنوغرافي.
وتوصلنا دروب جميع الأفكار المطروحة في هذا التقرير إلى حقيقة مفادها، أنه إذا لم يتم الإمساك بخيوط هذه المشكلة والإحاطة بها إعلامياً وحقوقياً وقانونياً، فهي ستنضم دون شك إلى بقية الكوارث الكثيرة التي أصابت الأسرة السورية خلال هذه الحرب التي يتعسّر على العقل الإنساني إدراك جميع كوارثها.
ورغم ذلك، فما زال في الوقت متسع للتحرك، فإذا ما تم تشكيل إطار وعي اجتماعي سوري حول المسألة، وبُذلت لأجلها الجهود من جانب المؤسسات والمنظمات والصحافيين والحقوقيين والمثقفين، فبالتأكيد لن يطول الوقت قبل تحقيق اختراق مهم فيها، سيقلل كثيراً من الآثار الكارثية لهذه المصيبة في مستقبل الأجيال السورية القادمة، الذين -وانطلاقاً من مسؤوليتنا الوطنية- لا يجب أن نورّثهم هذا الحمل الثقيل من المشاكل، فالتفكير بهم أصبح واجباً أكثر من أي وقت مضى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أولاد وفتيات أول هذه الأجيال ولدوا وكبروا خلال العقد الفائت، وسيصبحون آباء وأمهات خلال السنوات القادمة.
“يصبح المجتمع عظيماً عندما يزرع الناس أشجاراً، يعرفون تماماً أنهم لن يجلسوا في ظلّها”.. هكذا وصلتنا النصيحة من أهل الحكمة.