نجم الدين النجم
خلال أسابيع قليلة، ألقت الحرب المشتعلة بين إسرائيل وحركة “حماس” الإسلامية الفلسطينية، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، بثقل تأثيرها على الدول العربية والإقليمية، وذلك لما يحمله الصراع العربي – الإسرائيلي من جذور سياسية وتاريخية ودينية عميقة ومتشابكة.
وأثرت الحرب سياسياً بشكل أكثر وضوحاً على الدول المركزية في الشرق الأوسط، حيث وضعت مصر تحت ضغط خطر احتواء موجة جديدة وعالية من اللاجئين الفلسطينيين، إلى الأبد، وأفسدت اتفاقاً تاريخياً كان يجري الحديث عنه بين الرياض وتل أبيب، يشتمل كما أُشيع على حل للمسألة الفلسطينية. وعسكرياً، وسّعت الحرب نطاق الهجمات المتبادلة عند الحدود الإسرائيلية مع لبنان وسوريا، وامتدت ألسنة النار إلى مناطق شمال شرقي سوريا الهشّة، والتي يبدو أنها الأكثر قابلية لاستقبال تأثيرات خطرة، في المستقبل القريب.
بشمال شرقي سوريا، تواصل الميليشيات المدعومة من إيران هجماتها المكثفة على القواعد العسكرية الأمريكي، منذ اندلاع حرب غزّة، ونفذت عشرات الهجمات، ما تسبب بإصابة العديد من الجنود، فضلاً عن الأضرار المادية في القواعد المستهدفة، والأمر ذاته يجري في العراق أيضاً. ولئن كانت هذه الهجمات أمراً معتاداً تكرر مئات المرات خلال السنوات الماضية، إلا أنها حملت معها خلال الأسابيع الأخيرة رسائل مختلفة، ووضعت “الصراع” بين طهران وواشنطن في الشرق الأوسط، في إطار مختلف.
صحيفة “واشنطن بوست”، أوصلت قبل أسبوع، أصواتاً مُحبَطة وغاضبة في مكاتب “البنتاغون”، إزاء السياسة الأمريكية الحالية، في التعامل مع الهجمات المتتالية التي يشنها وكلاء إيران في سوريا والعراق. بعض المسؤولين الأمريكيين في وزارة الدفاع، اعتبروا أن هذه الاستراتيجية “غير متماسكة”، والضربات الانتقامية ضد الميليشيات فشلت بتحقيق هدفها.
هذا الخبر الذي يتحدث عن حالة الاستياء والغضب في “البنتاغون”، لم نقرأه من قبل، وليس عادياً من حيث معناه ولا توقيته، فقد أظهر حالة الحيرة لدى الإدارة الأمريكية في التعامل مع إيران، في خضم حالة توتر تسود منطقة الشرق الأوسط، نتيجة حرب إسرائيل وحماس، وما تبعها من تصريحات إيرانية متناقضة المضمون، بعضها ينطوي على تهديدات بتوسيع الصراع وفتح المزيد من الجبهات بالمنطقة، وأخرى تتنصل من المسؤولية عن سلوك الميليشيات التي تدعمها في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
تجّلت الاستراتيجية الأمريكية المتخبّطة في التعامل مع إيران وأذرعها بالمنطقة، في خبرين آخرين نشرتهما الصحافة خلال الأيام القليلة الماضية، أولهما تحدث عن تجديد واشنطن السماح لإيران بقبض 10 مليارات دولار من العراق، ثمناً للإمدادات الكهربائية الإيرانية. أما الخبر الآخر كان على لسان نائبة المتحدث باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، عندما أجابت بوضوح، أن بلادها “تركّز على احتواء الصراع وعدم اتساعه إقليمياً”، في سؤال عن سبب إحجام الجيش الأمريكي عن ضرب إيران الداعمة للميليشيات.
كل هذه المستجدات تعيدنا إلى حقيقة سياسية صعبة التغيير، مفادها أن أميركا تحت إدارة “الحزب الديمقراطي”، لن تجابه الشرور الإيرانية بالدرجة المطلوبة، طالما أنها تصدر عن الميليشيات وليس عن إيران بحد ذاتها! والفاصل بين سلوك إيران وسلوك ميليشياتها، يبدو أنه مرئي فعلاً بالنسبة لإدارة الرئيس بايدن، التي تواصل -في علاقتها بإيران- النسج بكثافة على “شعرة معاوية” المستعادة، بعد مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض، وتلاشي أفكار “الحزب الجمهوري” من السياسة الخارجية الأمريكية فيما يخص الشرق الأوسط.
تريد إيران وميليشياتها ترويج دعاية جديدة ومكلفة أمام جمهور حلف “الممانعة والمقاومة”، بأنها تقود حرباً ضد القوات الأمريكية، تماماً مثلما تفعل “حماس” ضد إسرائيل، وذلك بهدف التخفيف من الحرج البالغ الناتج عن مطالبات جمهور “المقاومة” بدخول جميع أطراف الحلف للمعركة المحتدمة في غزّة، إلا أن هذه الدعاية تزيد الحرج الأمريكي أيضاً، الذي بدأ يطفح غضباً في مكاتب البنتاغون.
ولا مفر من التذكير والقول، إن الولايات المتحدة أخطأت عندما سمحت عام 2019 لتركيا والفصائل التابعة لها، بالتوغل في شمال شرقي سوريا، والسيطرة على مناطق استراتيجية بريفي الحسكة والرقة الشماليين، الأمر الذي هدم أحد أعمدة الاستقرار القليلة في مناطق الجزيرة السورية، الساعية لاستكمال عملية النهوض من جحيم “داعش”، خصوصاً أن هذا الخطأ تزامن في تلك الفترة مع أخبار تتمحور حول قرب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. تكرار الخطأ الأمريكي أصبح محتملاً في قادم الأيام، والتساهل مع إيران وميليشياتها والسماح لها بفتح دوائر حرب جديدة -سواء كانت حقيقية أو دعائية- كفيل بتشويه صورة الوجود العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في سوريا، فضلاً عن ضرب ما تبقى من أعمدة الاستقرار في هذه المنطقة التي تزداد هشاشة تحت قيادة “قوات سوريا الديمقراطية”، والتي تترقب فيها روسيا ومعها النظام السوري وكذلك تركيا و”داعش”، توفّر أي مساحة للتحرك والسيطرة.
بالتأكيد، واشنطن ليست مطالبة بضرب طهران، لكنها مطالبة وبشدة، بحماية صورتها ومصالحها والتزاماتها وحلفائها، خصوصاً في مناطق شمال شرقي سوريا التي تحتمي بالدرجة الأولى بالوجود العسكري الأمريكي فيها، من محيط عسكري شديد العدائية، مثل تركيا والنظام السوري وتنظيم “داعش” ووكلاء إيران. الوجود العسكري الأمريكي الباهت في سوريا، بحاجة ملحّة تفرضها الوقائع، إلى جميع ألوان الحدّة السياسية والعسكرية ضد الميليشيات المنفلتة والقوى الطامحة بكل ألوانها، ولا فرق في هذا المقام بين التشكيلات التابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” والنظام السوري وروسيا وتركيا و”داعش”.