سمير كامل
عند التقاءِ نطفة أبيك ببويضة أمك، يتم تحديد جنسك وعرقك ودينك وطائفتك ومعتقداتك وتوجهاتك السياسية، ومن بعدها تكون أمام خيارين غير متكافئين، الأول -وهو الغالب- أنك ستتماشى مع كل ما رُتّب لك من قبل ولادتك، قد يكون لديك بعض الشكوك والتساؤلات لكنك ستنساها أو تتناساها أو تكتمها، أو ربما تعتاد العيش معها، أما الخيار الثاني فهو أصعب ما يكون، وهو التمرّد على كل القوالب المجهزة لك، ومحاربة الجميع وحيداً، كي تختار الهوية التي ترتاح بها دون أن تضطر لقصقصة ذاتك كي تتناسب مع ما هو متوفر من القوالب المقبولة.
وبما أنني بحكم المكان الذي ولدتُ فيه، وبحكم مكان ولادة أبي وأمي، فقد حُكم عليّ بأن أولد “مؤيداً” و”علوياً” قبل أن يفكر والداي في اختيار اسمٍ لي.
المؤامرة الكونية!
حين كنتُ طالباً في المدرسة الثانوية، كانت الأزمة السورية في بداياتها، ومثلي مثل أغلبية طلاب المدارس سيفرح بالتأكيد في حال غياب الأستاذ عن الحصة أو الخروج باكراً من المدرسة أو الغياب عنها، لهذا كنا نفرح كثيراً حين تبدأ الشائعات والتساؤلات بين طلاب المدرسة: “معقول بكرا في مسيرة؟ خلونا نسأل الأستاذ أحسن شي”، فيرد الأستاذ علينا بنبرته الجافة: “اسألوا المدير، أنا مالي علاقة”، وأتذكر تلك الفرحة العارمة حين يُعلن الأستاذ تعطيل الدوام في الغد، من أجل الذهاب في مسيرة مليونية مؤيدة، تؤكد على “الثوابت الوطنية” والوقوف إلى جانب القيادة في وجه “المؤامرة الكونية” التي تُحاك ضدّ الشعب السوري بمختلف أطيافه.
هنا تتجسّد النرجسية الجماعية في أبهى صورها، فنحن -لا سمح الله- لم نخطئ في بناء أسس الدولة والقانون والمؤسسات وإن أخطأنا فهو ضمن الحدود الطبيعية (حتى بأوروبا في فساد)، كلّ ما يحدث هو “مؤامرة” لأنهم لا يريدون لسوريا أن تتقدم وتتطور!
حقيقةً لم يُخرجنا أحدٌ بالقوة في مسيرات مؤيدة، ولكن!
أذكر تماماً كل تلك الهتافات المؤيدة التي كنا نصدح ونهدر بها، ثم أعود بعدها إلى المنزل لأشاهد التلفاز على القنوات العربية والعالمية، حيث يصف محللوها ومذيعوها المسيرات المؤيدة على أنها خرجت “بالإجبار” أو أنّ المؤيدين خرجوا “تحت التهديد”، حقيقةً لم يُخرجنا أحدٌ بالقوة ولم يستعملوا معنا أي وسيلة إجبار، ولكن!
عقودٌ من التخويف والقمع والظلم، كانت كافيةً لغسيل دماغ أجيال، وكل جيل يغسل دماغ الجيل الذي يليه، فعن قناعةٍ تامة كان أساتذتنا ومعلماتنا يطلبون منا الخروج في مسيرات مؤيدة، وإن لم يأخذ هذا الطلب شكلاً واضحاً، لأنه من وجه نظرهم هو الأمر الطبيعي والبديهي الذي ينتظرونه ولا ينتظرون أي شيء آخر أبداً.
السلطة ليست طائفية!
فبحكم وجودنا في بيئة ريفية علوية موالية حتى النخاع، لم يكن الأساتذة بحاجة إلى التجييش أو إثارة العواطف والغرائز، فالخوف من السلطة كان قد عشّش في جينات آبائنا، وانتقل إلينا عبر الجينات والبيئة والمدرسة والأحاديث والقصص التي تُروى عن معتقلين علويين من القرى المجاورة، مكثوا في السجون السورية حوالي عقدين من الزمن، وتعرضوا لكافة أشكال التعذيب الجسدية والنفسية دون إجراء أي محاكمات، لأنه وحسب التعبير الشعبي “كمشوهم عم يحكو بالسياسة” في إشارةٍ إلى الخلاف المعروف الذي وقع بين شقي حزب البعث العراقي والسوري، ومن هنا زُرع الخوف في قلب كل من يجرؤ على “الكلام في السياسة”، فالنظام لن يرحمه أبداً ولن تشفع له ميوله المؤيدة أو طائفته العلوية، فآلة الحكم الاستبدادية في سوريا ليست طائفية كما تُروِّج أو يُروَّج لها، إنها تستغل الطائفية من أجل القمع وتغذية النزاعات وتربية الأحقاد من أجل الاستفادة منها، وإذا ما اعترض مصالحها شخصٌ أو فئة فلن يهمها أي اعتبار سوى مصلحتها.
نحن العلويين في ورطة!
حقيقةً لا يعرف أحدٌ الورطة التي وُضعت فيها الطائفة العلوية، لقد استغلّ طرف الحكومة أو النظام خوفها السحيق من الآخر، ورهابها من الخوازيق العثمانية، فقد حُشيت الرؤوس على مر العقود بمجازر السلطان سليم وحادثة سقيفة بني ساعدة، وسب الإمام علي بن أبي طالب على منابر الدولة الأموية، إنني أتذكر حين كنتُ طالباً في الصف العاشر وقد دخلت مدرّسة مادة الفلسفة، وبدأت بالبكاء والصراخ: “مين مطلع عني إشاعة إني سنية؟! مو عيب عليكم تحكو بهي القصص، كلنا ولاد بلد واحد”.
لقد كانت المدرّسة علويةً من إحدى القرى البعيدة، ولكنّ جملة “كلنا ولاد بلد واحد” لم ترق لأحد الطلاب، فأخذ يُناقشها بغضبٍ واضحٍ وختم قوله: “يا آنسة، هدول ضلو يسبو الإمام علي 200 سنة عالمنابر!”، ورغم محاولة آنسة الفلسفة تهدئة النفوس ونشر التسامح لكنها قُوبلت بتعصبٍ وحقدٍ من طرف طالبٍ لم يكمل الثامنة عشر من عمره، أي أنه لا يزال طفلاً، هنا يبرز دور التعليم الديني للأطفال في إذكاء نار الحرب السورية، وهذا لم يقتصر على طائفةٍ بعينها بكل تأكيد.
وفي مقابل آنسة الفلسفة ذات الفكر النير والقلب المتسامح، يدخل مدرس اللغة الإنكليزية ذو الأربعين عاماً بجثته الضخمة ورأسه الأقرع، وبعد نهاية الدرس يفتح حديثاً صريحاً حول الأزمة والأوضاع الراهنة الميدانية والاقتصادية، والعمليات العسكرية التي كانت على أشدها في سنة 2014، حيث علّق على عمليات التعفيش بقوله: “كل العساكر مامعن ياكلو، وعم يفوتو لمناطق غنية، شو ناطرين منهن؟! بعرف عسكري قرايبي جاب معو من حلب شاحن موبايل من أحد البيوت!”.
هذه الكلمات كان يقولها أستاذٌ ومدرسٌ، يفترض منه أن يكون قدوة لطلابه في العلم والأخلاق، وفي الثانية قبل الأولى! هذا ما يؤكد على عمق الأزمة السورية، التي تتجاوز موضوع خلافٍ سياسي أو صراع بين معارضة وموالاة، فلا يكتفي بتبرير عمليات التعفيش “أي سرقة المنازل التي هجرها سكانها بسبب الحرب”، بل تجاوز ذلك بكثير، حين قال إنّ الطرف الآخر يربي أطفالهم على قتلنا كعلويين، لذا نحن يجب أن نربيكم على ذلك أيضاً، وعلى فرض أن هذا ما يحصل عند بعض الجماعات الدينية المتشددة، فمتى ستنتهي هذه الحلقة المفرغة من الحقد والكره والقتل، فكما يقول المهاتما غاندي: “إذا كانت الإساءة تُقابل بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة؟!”.
هل للتعليم الدينيّ دور؟
رغم انتماء أستاذ اللغة الإنجليزية وآنسة الفلسفة إلى البيئة الاجتماعية والدينية والمذهبية والطائفية والجغرافية ذاتها، كلاهما علويان، ولكنهما يُمثلان فكرين مختلفين تماماً، لا بل متناقضين ومتضادّين.
وهذا ما يمكن أن نرجعه (جزئياً وليس بالمطلق) إلى التعليم الديني العلوي الذي يقتصر على الذكور دون الإناث، فعندما يبلغ الذكر الطفل تتم سرقة طفولته وتلقيمه معتقداتٍ وأفكار أيديولوجية كبيرة على مستوى وعيه (الأمر ذاته في الكثير من الأديان والطوائف) ، أما الأنثى فيتم إهمالها أو تهميشها من الناحية الدينية فتبقى على فطرتها، وهذا الكلام نسبيٌّ ولا ينطبق على الجميع، فيوجد الكثير من الذكور الذين تمردوا على الأفكار الدينية ورفضوها عن بكرة أبيها، ويوجد إناثٌ متزمتات رغم عدم تلقيهم أيّ تعليمٍ دينيّ.
وحتى نبسّط جزءاً من تعقيد الكارثة السورية التي وضعنا فيها النظام، كان شقيق آنسة الفلسفة هذه عسكرياً في الجيش السوري، وقد قُتل في إحدى المعارك، لقد كان مؤمناً أنّ ما كان يقاتل لأجله هو قضية عادلة، ليس لأجل أبناء طائفته وإنما لأجل جميع أطياف الشعب السوري، وربما كان قائد كتيبته أو مجموعته كذلك، لكنّ من هو فوقهم جميعاً كان يستغلهم لأجل بقائه على سدة الحكم، وكان يؤجج في داخلهم تلك المشاعر الطائفية والدينية والوطنية (بغض النظر عن أحقيتها)، بعد أن أتم عملية غسل أدمغتهم في البيت والعائلة والمدرسة ومعسكرات الطلائع والاجتماعات الحزبية والجرائد والتلفزيون الرسمي والوحيد واتحاد الطلبة والنقابات، وغيرها الكثير من الأدوات التي استغلها لإخراج أجيالٍ مؤدلجةٍ وجاهزةٍ للموت من أجل كرسي السيد الرئيس.
يمكنني القول إننا كسوريين على مختلف طوائفنا ومذاهبنا وانتماءاتنا غرقنا في دوامة تجرفنا نحو الأسفل بكل ما لديها من قوة، وأصبحنا نشبه نظرية القرود الخمسة، فما إن جاء قردٌ جديد وحاول الصعود نحو الموز، منعته القردة من ذلك، دون أن تعرف لماذا، هكذا تربينا، هكذا تعلمنا، هكذا تعودنا…
وفي النهاية، كما أنّ السُّنة ليسوا كلهم “داعش”، فالعلويون ليسوا وحوشاً وليسوا ملائكة، إنهم بشرٌ فيهم الصالح والطالح، فيهم المؤمن والملحد والربوبي واللادينيّ، فيهم السارق والزاني والعفيف والطاهر، فيهم السكير والعربيد والعابد والزاهد، فيهم الموالي والمعارض والرماديّ، فيهم من يهتف بحياة أبناء الطبقة الحاكمة ويفديهم بروحه ودمه، وفيهم من يستيقظ صباحاً وهو يشتم أسلافهم وأولادهم وأحفادهم (وقد كثروا في الآونة الأخيرة)، فيهم من شارك في عمليات التعفيش وأصبح من أمراء الحرب، وفيهم من رفض أن يأخذ ما ليس له، ولعن وشتم كل من يفعل ذلك أو يبيعه أو يشتريه أو يساهم في ذلك من قريبٍ أو بعيد، فيهم من يحب القهوة بسكر وفيهم من يحبها بدونه، فيهم حتى من لا يشرب “المتة” أبداً ويعاديها ويهزأ من شاربيها.
المصدر: رصيف 22