«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

شارك

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

«أنقاض الأزل الثاني» لسليم بركات… ومضة مختلَسَة من الزمن

جسر: ثقافة:

العدم لا يُفنى ولا يُخلَّق، العدم لوحات تُرسَم عشواء بإطارِ ما يُكنى بأنقاض الشيء أو الكائن. والمعضلةُ هذه، خلقها زمنٌ لقيط يُعرَّف بعقارب ساعةٍ قائمةٍ على تلةٍ، هي ما بقيت لتُعيد للحكاية بدايتها، شجونها، مأساتها، تاريخها، شخوصها، متنورين أو مُعتمين تحت الشمس أو في الظلّ، يُجابهون دوران العقارب حتى تصل إلى ريشةٍ تمتهن الحفرَّ لُغةً والخيالَ قيّافاً للموت أو خلقاً لحياة أو سرداً لوجعٍ مُختمِرٍ في يقين الكُرد، عبر محطات وجعهِ وجرحه وخيانتهِ وضحية الغدّر، كلّها ملتحمة في فرانكشتاين كردي هائم في ضباب وجوده.

يستلُ سليم بركات قلمهُ الرصاص ملتقطاً نشارته في خلقِ حياةٍ مُربِكة، مُتشابكةٍ، فجائيةٍ في روايته «أنقاض الأزل الثاني» كاتباً الأزل بدمٍ يُلوِّن شرقنا، ومؤكداً دوامهُ، يلتقط من التاريخ الحديث للكُرد ومضةً مؤقتةً سرقوها من الزمن والقدر، وخُلِّدت في أغنية (ولات) أي الوطن بصوت سارا ميمان مُغنية الأوبرا المُحْدَّثةِ في عهد جمهورية مهاباد من أشعار الشاعر (هجار) قبل أن يردّدها نهر (صابلاغ )عبر خرير ماءهِ المتحوِّل دماً: «فاقترن صوت سارا بتاريخ مهاباد، الذي اختزله الخذلان الجغرافي إلى سنةٍ واحدة من مقام الزمن الأرضي». إنها مهاباد روح الحياة التي خلقها سليم، مهاباد في أولمبياته إلى الله شعراً والآن تراجيدية تعبَّقُ ورودها المحمّرة بالحسرات التي تخلفها السياسة في مصالحها.

الناجون الخمسة

يُؤطر سليم بركات هذه الحياة في هضبة (كاييي خودان) أي (ثور الله) المُطلّة على قربة سيدروك منبت الآثار، فبما سبق لمنقبي آثار أوروبيين، أحدهم مدفون هناك، وسليم يُكمِّل مخطوط جوناثان هارولد المنقب المدفون، ويكرُّ على ساحة (جارجرا) الحاملة لحبال الشنق للقاضي محمد قائد جمهورية مهاباد، ليظلّل الحقُّ شجرتهُ على خمسة ناجين يغادرون الساحة على مهل ببغالهم التترية، شفافين غير مرئيين يُسطرُّون سيّرة الحياة الموعودة في الرواية: «الظهورُ والاختفاء بذرتان للنشأة الواحدة. لربّما حدّث أن المشيئة أخفت صورهم وهم يعبرون ساحة الإعدام، ظلّلهم الحقّ بشجرة». خمسة ناجيين أو الأدق فارين إلى مجهول ينتظر، ليسوا خمسةً عاديين، وإنما هم دويّ الصوت والرسائل في زاوية قلب القاضي محمد: شريف رندو بريدهُ، زينو ميفان مُغنيه يسيرون: «وهم يحملون في عظامهم عزيف الحذر مُذ فرّوا من مهاباد ذات العويل المرتطم كالفراش بسراج الغدر». هو غدرُ البلاشفة ختماً على حقّ الفُرسِ الإيرانيين، مصنوعٌ من مزيج ذهب أسود يُسيَّلُ لعاب المتخفي في شعارات الأممية الخاوية من الحياء: «لم يكن من أملٍ للقاضي محمد، بعد ما فتح الشاه البهلوي لستالين ممّراً إلى حدائق الذهب الأسود». مقابل هذه الحدائق: «سلمت الكرملن عنق القاضي الدّمث إلى مطحنة العصف الفارسي». هكذا هي جذور الأممية تحفرُ في الأرض شعاراتٍ متشابكة لتبعث سُمّاً في روحها حين يُقدَّم لها ثمنٌ بخس.

سليم الكردي يُداعب عضلة قلبهِ المرتعِشة متجاوبةً مع هزات الحِبال المُتدلية من العواميد، وسط حديقة الإعدام التي نبتت في أطرافها رؤوس متكسرةِ الأعناق كمّا الكُرد في كلِّ تخوم كردستان آنذاك والآن، حيث لا داعي لأن يكون الحدث مرئياً، فقط يكفي أن ترتعش العضلة في رُسُلِها الهواء والغيم وتُرجمانها البرق لتطفو: «دويُّ انهيار جمهورية مهاباد التي ظلّل تخومها السحاب بضع مئات من الأيام، أنضج الكمأ في مجاهل التيه من بحيرة (وان) إلى الخابور ومن تبريز إلى دجلة دويُّ الدم رجَّ الأثداء الصخرية لمنابت الكُرد وقوَّض هيكل المشيئة». يعود سليم في الفصل الأول إلى الخمسة بعد أن وصلوا إلى هضبة ثور الله على تخوم سيدروك، قرية كريم بيرخان اللاهث بحثاً عن تورية يردُّ بها على مُغني ضيوفٍ جُدّد سكنوا الضفة الغربية من نهر دجلة من آل رستم بابك، بصوت يصيح باسم صابلاغ نهر مهاباد المدمى بدمِ سارا ميمان وحمير مهاباد، مستبقاً لوصول الخمسة الفارّين في حدثٍ يُداري به سليم الحياة بوجهٍ آخر وبحدثٍ آخر يشدُّ إليه أحداثاً بعيدة عن ما كان عليه الخمسة، ليُحيك منها ما يقدُّمه المجهول في نهاية المطاف تكرمةً للدم الجاري في عروقهم حتى الآن في غيظ من شرق قائمٍ على النزف. بهذه الآلية يُحاكي سليم طبخة الصوت حين يتهادى إلى أسماع الخمسة المُطلين على سيدروك صوت جميل فاركو الأعمى من آل بيرخان، ويُحاكي صوت نوَّل النسيج صنيعة آل بيرخان مُنتظرين الصباح ليلجوا القرية استراحةً قبل مُضي. كلُّ ذلك ينحته بلغةٍ شاعرية حتى وإن كان عن موقف ما أو شخصٍ يقوم بفعل ما: «في الصباح المتأخر نهض الأعمى من مرقده لصق الجدار، هو والسكون ارتديا قفطانيهما متسللين مع بعضهما الى الساحة ذات الضوضاء.. حتى وصلا باب مضافة كريم أغا حيث افترقا: تبدّد السكون عائداً إلى حلمه الأزلي وبقي الأعمى يكادُ يتحسس الباب…».

معارج التفاصيل

سليم مبتعداً عن المصائر المنتظرة، قافزاً على متاهاتها، يسردُّ تفاصيل يوميات الحياة العادية في مضافة بيرخان بوجود الخمسة بعد وصولهم، بدون أن يُسألوا عن مقدَّمهم أو وجهتهم في احترام لعرفِ الكُرد: «لا يُسأل المتستر أو المطارد». تفاصيل مدوِّخة عن الطعام وإعداده، عن الإوز وردّات أفعاله، وعن الغناء ومنابته ومن ثم البحث عن كلمات تخلّق التورية على غناء مغني رستم بابك بحسب زينو ميفان أحد الخمسة. إنها لعبة سليم وموروثهُ الأبكم في اقتناء هذه التفاصيل، أخذاً بيد القارئ وكأنه أعمى بعيداً عن حبكة المتاهة المتخفية في ما وراء ما خلفهُ الخمسة من منابتهم وهوياتهم وما خلفوهُ من أعداء نصبتهم الفُجاءة في اقتفاء أثرهم، ليُعيد من ثم إلى الدم سيرتهُ الحقّة.

يصطاد الكاتب بصوت نينو سارين وبكلماتهِا، أثر قيّاف زادة بزربادي، شهبور نظمي دليل زادة وراء الخمسة الناجين من حبال الموت، ثأراً شخصياً لا حميّةً شاهنشاهية، ثأراً لوالده من شريف رندو قاطع عقبي والده جلال بزربادي في خيانته لائتمان الرسائل المدونة بحبر الحذر من القاضي محمد في عقل رندو، يغوصُ سليم بمرجعيته اللاواضحة تفاصيل عمل القيّاف شهبور باعتباره (فانتازي) الخيال، شفافا، يولجُ أرواحاً في الجماد كالحصى وزرق العصافير، وكأنه كيميائيٌ غذائيٌ بالدراسة من خلال التركيبة التي تُخرِّجُ بها الطيور فضلاتها بحسب ما النقطة في الطريق، من روث الحيوانات، وبحسب ما تقذف به من كلأً طبيعيٍّ أو علف مُخضَّر، لكن بدون أن يترك المواربة في الفصل الثاني الذي يؤسس فيه لمأتم ومرٍّ، وما سيأتي عن الخمسة، وعن تفاصيل ما كانوا عليه، ومن ثم المطاردة من قبل قافلة زادة للثأر من شريف رندو.

الأغنيات الباقيات

وتبقى الومضة الحقيقية الكاشفة، كامنةً في رسولي كريم بيرخان بحثاً عن الأشعار، ليغنيها ابن جميل فاركو الأعمى، علي، بعد أن أخذ العمر بصوت الأعمى، وهما أي الرسولين يلاقيان القافلة وهما متجهان للثأر ذهاباً وإياباً وهما قد قاما بالثأر. إلا أن ما يضيفه سليم إلى الفصل هو الاستراحة الشعرية على لسان نينو سارين في انتظار الغياب متجسداً في زوجها سربست:
«يا من أنا قسمة روحك في تدبير الله
يا مهبط قلبي، قلب الشرايين الصلب،
كم أكون قوياً لأن الأرض التي تحملك تحملني أيضاً،
كم أكون عاصفاً لأنك لي».

الرسولان مانو ساروخان الاستاذ، وجكرو عمشة الدليل، أهزوجتا سليم في الحفاظ على كردية الكردي في البحث عن الفرح، متجسداً في الأغاني، بعد أن دكَّ الألم والموت جنبات الكرد من أراضي كردستان المبعثرة تحت نير المصالح والاتفاقات الطارئة بين دول لا تتفق إلا على الكرد: «مراوح حديد من أوروبا». كناية عن قصف ديرسم الكردية من قبل الأتراك، يقابله صبرٌ لا يدركه إلّا إله: «إلهي لقد امتحنت قلبي كثيراً». على لسان الكردي.

الأزل الآخر

في الفصل الثالث من الرواية المُكنَّى: بمحاكاة العدم، حيث يُقدِّم سليم سيناريو لسينما الأكشن ويُدرِّب الطرقات والمشافهات والمصادفات في لملمة أجزاء الحدث عدماً. فالنهايةُ مُضرجة بالخفاء في الدم، حسبما تدلُّ عليها ظلّال الأنفاس المبعثرة في زوايا كلمات الرواية، وما بين أسطرها، وما يستشعرهُ القلب الدائخ في جنبات الكلّ، حيث اللوحة الأخيرة فسيفساء البدء والنهاية مروراً بروح الروح المحتجزة في الأنقاض بأصواتٍ وتنهداتٍ وكلماتٍ ولغةٍ.. تدلُّ الأنقاض إلى ما خُفيَّ تحتها: الأغاني في دفتر الأستاذ مانو، والكلمة العارية على لسان دليله جكرو، العزلة في بيادر الحبّ الهائم على قلب أغا قرية نينو، لنينو، القصائد المبرقعة من أنفاس نينو سارين، الطريقُ الحامل لزوج نينو في متاهة تأخره وقرقعة قلبها بالموت وتزمير قلب أغاها، في تغير هواء الحبّ بغاز الحلّ، الآثار الملتصقة بخيال قلب زاهد نوري ترجمان زادة، البراءةُ المختزلة في بئر قلب راميسان ابنة كريم بيرخان، البيت الراقص في كرم قلب بيرخان، التأخير المتمهل إلى حتفهِ على قلوب الخمسة بغال وراكبيها، اللعثمةُ العائدةُ على لسان قلب سرعو أحد أعيان كريم في تشويش ذبذبات قلب جميل فاركو، الساحة في سيدروك المهيأةِ قلبُها للجرح الأول، قلب الطلقة الأولى من زادة على رقبة زينو ميفان ومن ثم الأجساد المُتهالكة في قلب تدبير بيرخان، والخلاص في قلب السكون من دقائق الخرس على الأجساد المرمية قلوبها بالفجاءة، الظفرُ في أخذه مكان شهبور، عودةٌ إلى مغاليق المكنون في الحقد، مانو وجكرو في لقائهم بالصدفة المظلّلة بالموت في حملهم لأغنية الغيم الخالدة.

هكذا يحاكي سليم العدم انطلاقاً من وصول القافلة إلى هضبة تطلُّ على سيدروك في جهة وفي جهة أخرى صوت زينو ميفان يشدّو على مسامع الموت الواصلة إلى أذني زاهدان، حدثا الهضبة يهيئان للموت فستانهُ والآخر يؤنس فجاءتهُ، يسيران معاً متوازيين لكنهما يلتقيان بإذن الموت في دويِّ صباح الليلةِ القَدَر. في كلِّ هذا الموت يستذكر سليم مآثر أجداد الكرد، حيث يأخذ من زينوفون الإغريقي موت الإغريق على يد الكردوخي ويوزِّع بهارات فكاهة الثانوي في سيجارتيِّ سرعو وفاركو الزرنيخيتين المُحضَّرتين لموت كلّ منهما لخلاص التنافر الأبدي.

«لقد أصابهم من الكردوخي أولئك الموعودين الكرد بحروب مسطرة على دروع الظاهر والباطن ما لم يذوقوه من نواعير الدم التي أدارتها ثيران أمراء فارس المستنجدين الأقوياء لقاء الذهب». «الهواء مغموسٌ في سُمن الغزلان». على لسان سرعو في إشارته إلى سيجارة الخلاص مع ضدّه فاركو. هكذا يكون سليم قد أنهى مخطوطة منقب الآثار جوناثان هارولد في حين يزاوج بين الكردي ومصيره في تاريخ ليس ببعيد، حيث المكان يعثرُ على زمن لقيط والزمان يعثر على مكان لقيط ليكتمل مع الساعة الأكيد: «ريثما يتحرك عقرباها على الأكيد المشرِّف على العدم». وكأنه يستحضر أجداد الكرد (الكردوخيين) عامري الإمبراطورية الميدية كأزلٍ أول في القرن السابع قبل الميلاد، ليخلُّقَ الأحفادُ الكرد جمهورية مهاباد كأزلٍ ثانٍ في العصر الحديث مُرممين الأنقاض من نهب العدم.

٭كاتب سوري

القدس العربي 10 أيلول/سبتمبر 2019

شارك