جسر: ثقافة:
يمكن رصد تحوّل مهم في طبيعة التطلعات الاجتماعية في المجتمعات الأكثر تقدماً، القادرة على جعل قيمها الثقافية ذات صفة عالمية، فبعد أن كان الأفراد يجدون أنفسهم في مواجهة سلطة أو مؤسسة ما (المصنع، العائلة، المدرسة، السجن، إلخ) تحاول ضبطهم ودفعهم لبذل أقصى طاقاتهم، جسدياً أو ذهنياً، أصبح نظام التحفيز والعقوبة أكثر مرونة وقدرة على العمل خارج المؤسسات الانضباطية. وانتقلت بؤرته إلى داخل الذات الفردية نفسها. لم يعد يوجد في زمننا كثيرٌ من الجدران التي يجب تحطيمها، وهو هاجس السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، الذي وجد نهايته السعيدة بالصور الاحتفالية لسقوط جدار برلين.
اليوم أصبحت مسؤولية المشاكل والإحباط والتعاسة الاجتماعية تُلقى على الفشل الفردي، سواء كان فشلاً مادياً يعيق التمتع بالخيرات الاقتصادية والقبول الاجتماعي، أو أخلاقياً يحمّل الناس، بسبب «امتيازاتهم» المتوارثة، أو أنماط حياتهم، جانباً كبيراً من كوارث وشرور العالم. تنتشر في هذا الجو مشاعر الذنب والندم، ما يعطّل الفعالية الذاتية والاجتماعية بشكل كبير. فتتحول المجالات التي كانت ميداناً للتفاؤل الإنساني في الشرط الحداثي، مثل العلم والسياسة والثقافة، إلى نذر للتشاؤم وبث الذعر: كل ما في مسيرة الإنسانية يقودنا بشكل محتم نحو الكارثة، ما لم نسع للخلاص. هذه الانفعالات السلبية، التي يمكن اعتبارها إعادة إنتاج معاصرة لعقيدة «الخطيئة الأصلية» المسيحية، تحوي جوانب أخرى أكثر تعقيداً، ولها وظائف أيديولوجية يتفاوت تأثيرها بين فئة اجتماعية وأخرى، ومثل كل تصور أيديولوجي فهي تشير إلى وقائع معينة بشكل غير مباشر، وتخفي أخرى.
الحمقى في النعيم
يستعير المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك، في مقالة نُشرت مؤخراً، صورة وردت في «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توما الإكويني: المسيحيون الصالحون، أهل النعيم، سيكون بوسعهم رؤية عذابات الخطاة في الجحيم، كي يستمتعوا بنعيمهم أكثر. ليس هذا نوعاً من التلذذ السادي بآلام الآخرين، بحسب الإكويني، بل إدراكاً للعدالة السماوية، التي لا يكتمل النعيم الأبدي إلا بمعرفتها. ولكن هذا التصور قد يقودنا، وفق جيجيك، لمفهوم «المتعة المؤلمة» لدى جاك لاكان. النعيم بحد ذاته ممل ومعقّم أكثر من اللازم، لا بد من الوعد بمزيد من المتعة، وهذا الوعد لا يتحقق إلا بمراقبة آلام الآخرين. ومقارنتها بالملذات التي تتمتع بها الذات. بهذا المعنى يستطيع «سكان العالم المتقدم المرفهون» تحمّل سعادة جنتهم الاستهلاكية الخاصة، من خلال رؤية الانتهاكات والحروب والقمع وغيرها من سيناريوهات الرعب لدى من «يعيشون هناك»، خارج تلك الجنة، ما يجعلهم يشعرون بروعة زمانهم ومكانهم. إلا ان أهل الجحيم ليسوا فقط منكوبي العالم الثالث، بل أيضاً «غير الصالحين» من أصحاب امتياز العيش في الدول المتقدمة: الشعبويون واليمينيون والعنصريون، الذين يتم تحويلهم إلى فيتيش Fetish يصبّ عليه «الصالحون» جام غضبهم، ليستمتعوا بروعتهم الأخلاقية، كما في حالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. البعد الاستيهامي الأهم في هذه الأيديولوجيا هو نقاطها العمياء، فهي تخفي وقائع أساسية، وتقي من طرح الأسئلة الأهم: لماذا وكيف أصبح شخصٌ مثل هذا رئيساً في مجتمع ليبرالي منفتح؟ ولماذا تغدو الظواهر الشعبوية من وقائع العصر؟ يُقرّع الصالحون الملاعين أمثال ترامب وماثيو سالفيني وفيكتور أوربان على المشاكل التي لا يضطرون لمعالجتها بأنفسهم، مثل الهجرة والعبء الضريبي على الفئة الوسطى، والتوتر بين ضرورات النمو الاقتصادي والانتقال البيئي. يغرقون في الارتياع الأخلاقي النرجسي لإخفاء المشكلة الاجتماعية والطبقية. هنا يستعير جيجيك مقولة هيغل: «الشر يكمن بالضبط في النظرة التي ترى الشر حولها في كل مكان».
ربما فات جيجيك، في تحليله الطريف هذا، ملاحظة جانب ملازم لاستمتاع من يسمّيهم «الحمقى في النعيم». وهي أن «المتعة المؤلمة» قد تنعكس ضد الذات أيضاً، فلا تكون رؤية عذابات الآخرين كافية لوحدها لتلافي الشعور ببرود المتعة، بل قد يتطلب الأمر أيضاً لوم النفس، والغرق بمشاعر الذنب والخطيئة، وما تنتجه من آلام، حقيقية أو مفتعلة. هكذا يتم تجنب الندم والألم اللذين يأتيان بعد اللذة عادةً، وتحويلهما إلى جانب محايث ومدمج في عملية الاستمتاع نفسها، ما يعطيهما معنىً متسامياً، ويحقق وظيفة إخفاء أيديولوجي أكثر مراوغة: نحن سيئون ومذنبون، نعرف ذلك ونقوله دوماً، وبذلك ندفع مقدماً ثمن لذاتنا. يصبح هذا الوعي بديلاً مُشبعاً للذات الفردية، عوضاً عن مواجهة الوقائع والمشاكل الأكثر تعقيداً، ويحافظ على استقرار العوالم المذنبة السعيدة.
تسليع الخطايا
يخاطب جيجيك على الأغلب، وغيره من كتّاب وفلاسفة الثقافة الشعبية، الجمهور القادر على متابعتهم مادياً وثقافياً: متعلمو الطبقة الوسطى العليا، الذين يعنيهم شراء الكتب وحضور الندوات الثقافية. قد يكون كثير من هؤلاء متمتعين بالنعيم الاستهلاكي المذكور أعلاه، ولكن في الواقع ليس كل سكان «الدول المتقدمة» من حمقى النعيم. في ألمانيا مثلاً، بلد «الشعراء والمفكرين» (مقالة جيجيك منشورة بالألمانية) لا تتجاوز نسبة الجامعيين 17% من السكان. ويحدد الأصل العائلي والطبقي بشكلٍ قاسٍ مصير كل مولود جديد في البلاد. مع تزايد مقلق لنسب التفاوت الاجتماعي، وظواهر الفقر وانهيار حقوق العمل. بعبارة أخرى فإن البورجوازية المعاصرة، من الأكاديميين والتقنيين والعمالة الماهرة، هي الحامل الأساسي لأيديولوجيا الذنب/الرضا الأخلاقي الذاتي. وهذا يساعد في فهم أسباب الانتشار العالمي لهذه الأيديولوجيا، فلطالما كانت مدن الغرب الكبرى ذات تأثير عابر للحدود والثقافات.
يترافق تغير أنماط حياة وعمل هذه البورجوازية مع تحول في شكل إنتاج وتلقي الأيديولوجيا، لم تعد الأجهزة الأيديولوجية مؤسسات راسخة ذات خطاب إلزامي متماسك، بقدر ما أصبحت مُنتِجاً لسلع أيديولوجية، يؤدي استهلاكها لتحقيق شعور أفضل. مشاعر الذنب والذعر نفسها صارت لها خطوط إنتاج متعددة: دور نشر ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية ومراكز أبحاث، تبرع في مداعبة الأوتار الأكثر حساسية لدى الفئات المستهدفة. هكذا تصبح صور الجبال الجليدية الذائبة، وأطفال المجاعات، وحرائق الغابات عناصر أساسية في مجتمع الفرجة البورجوازي. ورغم أنها كثيراً ما تنقل وقائع حقيقة، إلا أنها تخفي أكثر مما تكشف، فهي تعتمد على استثارة الانفعالات التطهرية أكثر مما تدفع إلى التفكير العقلاني.
تساهم طبيعة هذه السلع الأيديولوجية في جعل النقاش في الحيز العام أكثر صعوبة وتعذراً، فما دامت الذات الفردية هي من تراقب نفسها ضمن أطر من التحكّم المرن، وتستهلك الأيديولوجيا بغرض الإرضاء الذاتي، فلا مجال لبروز مجال اجتماعي متماسك، يلعب فيه التواصل عبر اللغة وتبادل الحجج الدور الأساسي في صياغة التوجهات العامة. تنغلق الذوات الفردية على ما تستهلكه من صور وأفكار ومنتجات، بوصفه علامة على الانتماء الاجتماعي لفئة متميزة أخلاقياً، تُبرز، عبر استهلاكها نفسه، مدى قدرتها على اجترار خطاياها بتلذذ مثير للاستغراب.
العنب الحامض
لتسليع الانفعالات السلبية نتائج أبعد من مجرد تحقيق الرضا الفردي، فهو يؤدي إلى كبح الرغبة في التضامن الفعلي مع الآخر. الشفقة المستعلية تجاه «الضحايا»، والإدانة الدائمة للذات والآخرين، بنزعة تطهرية وارتيابية، لا تنفع إلا بخلق الأعداء، وتعيق نشوء الانفعالات الأكثر إيجابية، مثل الرغبة في المحبة والفرح، الضرورية للتضامن بوصفه مبدأً اجتماعياً وسياسياً. إدانة الرغبة الإنسانية، بوصفها استغلالية أو تمييزية أو مدمرة للبيئة، أي نموذجاً لأنانية البشر وميلهم للخطيئة، وهو ما تلتقي به الأيديولوجيا المعاصرة مع عقيدة الخطيئة الأصلية، يلعب دوراً أساسياً في تمويه آليات القمع والاستغلال الفعلي في المنظومة الرأسمالية المعاصرة، بمركزها وأطرافها. يرى الكاتب النمساوي روبرت بفالر أن الوعد القديم للتحديث بتعميم مكتسبات «الرجال البيض الأنكلوسكسون البروتستانت» على بقية الفئات والشعوب، تراجع لمصلحة الدعوة للتخلي المتبصر عن المكتسبات المادية، بوصفها خطايا لا تُغري بالاتباع. تهتف النخب المستفيدة بالفئات المحرومة Be yourself (كونوا أنفسكم)، أي أبقوا على حالكم، فما تعيشونه من معاناة وفقر واضطهاد وبنى أبوية قد يكون ميزةً لكم عنّا، نحن من قادتنا الرغبة إلى ارتكاب الخطايا. يُرجع بفالر ذلك لكون الوصول لعنب المكاسب صار صعباً، لدرجة أن ثعالب الأيديولوجيا المعاصرة، حسب تعبيره، باتت تدّعي أنه شديد الحموضة. قد يبدو هذا المنظور متحاملاً بعض الشيء، ولكنه يساهم بفهم دور الأيديولوجيا بخلق استيهامات نازعة للتضامن، مثل سياسات الهوية و»السياقات الثقافية» وصناعة الضحية. وهي مفاهيم لم تكن ستشهد هذا الانتشار لولا التغيرات في نظرة المجتمع البورجوازي الغربي لنفسه والعالم. لا ينفي هذا أن قضايا مثل العنصرية والتمييز ضد المرأة وحماية البيئة هي قضايا محقة وملحة، ولكن المنظور الغالب حالياً في تحديدها ومعالجتها يقود في أحيان كثيرة إلى نتائج عكسية. مواجهة هذا النوع من القضايا يتطلب برأينا مزيداً من الشجاعة الاجتماعية والفكرية، بدلاً من الغرق في ملذات الإرضاء الذاتي.
٭كاتب من سوريا
القدس العربي 6 أيلول/سبتمبر 2019