حازم الأمين
متغيران هائلان عصفا بالمنطقة في بداية هذا العام، أولاً استدارة رجب طيب إردوغان نحو “غريمه” بشار الأسد، مع ما رافق هذه الاستدارة من انقلاب تركي على جماعات الإخوان المسلمين بدءاً بمصر ومروراً بتونس ووصولاً إلى سوريا، وثانياً حكومة ثيوقراطية في إسرائيل باشرت مهامها بغزوة ايتمار بن غفير لباحة المسجد الأقصى، وأتبعتها بمشروع قانون يعطي الحكومة صلاحية التدخل في تركيبة المحكمة العليا في إسرائيل، وهو ما اعتبره القضاة ضربة قاضية للنظام القضائي واستيلاءً على أعلى سلطة قضائية.
والحال أن المتغيرين يشتغلان لوحدهما، من دون أن تهيئ القوى المعنية بهما نفسها لما يمكن أن يجرا عليها من نكبات، ونعني هنا الدول والقوى التي من المفترض أن المتغيرين يمليان عليها تموضعاً مختلفاً. فالأنظمة المعنية بهاتين العاصفتين هي عبارة عن كتل سلطوية صماء، لا تصيبها العواصف، ولا تحدث فيها تغييراً. المصائب ليست بالنسبة لهذه الأنظمة تهديداً لوجودها، والعالم يجري من حولها كما لو أنه سديم متوجه نحو كوكب آخر. نحن نتحدث هنا عن سوريا وعن لبنان، ولكن أيضاً عن مصر والعراق والأردن. لا بل أن غبطة أصابت بعض النخب الحاكمة في تلك الدول، نظراً لما تشكله هذه الانعطافات من مخاطبة لنماذجها في الحكم وفي التعسف.
للمتغيرين السالفين مهمة تفسر الغبطة التي أثارها في نفوس المنظومات المشرقية الحاكمة. حكومة ثيوقراطية في إسرائيل تخاطب من دون شك تطلع النظام السوري إلى مشهد يستعصي على التغيير. مشهد ينكفئ فيه النزاع إلى الداخل الفلسطيني، وتقتصر السياسة في ظله على غارات دورية وصامتة تقوم بها الطائرات الإسرائيلية على مواقع إيرانية في سوريا. أما أن يبادر إردوغان لفتح صفحة جديدة مع الأسد، فهذا ما قد تقتصر نتائجه على مزيد الدماء السورية المراقة على هذا المذبح المستجد. فهرولة إردوغان نحو نظام متصدع ومهترئ ولا يلبي أي مصلحة تركية باستثناء ما يمثله من صلة وصل مع موسكو فلاديمير بوتين، هي قرينة جديدة على أن لا ثابتة في هذه المنطقة إلا الأنظمة، وشبكة مصالحها، لا مصالح مجتمعاتها.
لكن المرء إذ يستقبل المتغيرين يشعر أن ثمة ما يجمعهما. حكومة أحزاب الصهيونية الدينية في إسرائيل، وإردوغان في دمشق. ربما الوجوه المراوغة لهذين المشهدين. إردوغان وبن غفير، وبينهما بشار الأسد. ويمكن رسم مشهد مواز يلوح فيه وجه بوتين يتوسط وجها بنيامين نتانياهو وعلي الخامنئي.
إنهم أبطال الحقبة المقبلة، ووجوه الزمن المشرقي المنتظر. أما من ستسحقهم عواصف هذا الزمن، فهم الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون، ناهيك عن الأكراد في سوريا وفي تركيا.
ثم أن الباحث عن تشابه بين إردوغان وبن غفير لن يعدم الكثير من الوقائع. خصم إردوغان الانتخابي رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وفي هذا الوقت كان بن غفير يتحدث عن قانون غريب عجيب لإعدام الأسرى الفلسطينيين. وفي الوقت الذي يدفع فيه إردوغان نحو حظر حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد في تركيا، تلوح من تل أبيب مشاريع قوانين تتيح للجنود استعمال الرصاص الحي، وأخرى تجرم المثلية وتحاصر مجتمع الميم عين. لكن المصادفة تأخذنا أيضاً إلى بداية تقارب بين أنقرة وتل أبيب افتتحت باستئناف تبادل السفراء.
للمرء أن يشعر أن ثمة صلة بين هذه الوقائع. إنه “زمن الردة” وهو زاحف على منطقة محاصرة بالانهيارات. وهي انهيارات لم تبقِ على شيء إلا على أنظمة جعلت تستنسخ نفسها على نحو أسوأ مما بدأته. إسرائيل انتقلت من اليمين الصهيوني إلى الصهيونية الدينية، وأنقرة من إخوانية “العدالة والتنمية” إلى الإردوغانية غير المقيدة بغير طموح السلطان.
لفلاديمير بوتين بصماته هنا، وهي وإن كانت أوضح بما يتعلق بتقارب تركيا مع نظام الأسد، إلا أنها حاضرة على نحو ضمني بالمتغير الإسرائيلي، ذاك أن حكومة يمين ديني في إسرائيل ستكون أقل حساسية حيال أدواره في سوريا وفي إيران وأيضاً في أوكرانيا. صعود اليمين في أي مكان في العالم سيكون بمثابة ارتداد عن مهمة ردع طموحات بوتين التوسعية.
حقبة قاتمة تنتظرنا، هي تتويج لمسار من الهزائم والتواطؤ والانهيارات، لكن انعكاساتها ستتجاوزنا. فبين اقتحام بن غفير لباحة المسجد الأقصى، وإعادة قصرية للاجئين السوريين، ستسيل أنهار من الدماء، وهي ستفيض عن المشرق.
لا يقوى المرء على دفع هذا السيناريو طالما أن العالم يشيح بوجهه عن منطقة لطالما كانت بطن ولادة للانفجارات.
المصدر: الحرة