جسر: متابعات:
عكس التصعيد السياسي والميداني بين إسرائيل وإيران السقف الخطر الذي بلغه التنافس على منطقة شرق المتوسط، وهو ليس التنافس الوحيد على المنطقة؛ هناك تنافساتٌ بين قوى دولية وإقليمية عديدة أخرى، إلا أنه الأكثر حدّة ومباشرةً في ضوء العوامل السياسية والميدانية التي دفعت الدولتين إلى الدخول في مرحلةٍ دقيقةٍ وحرجة وضعتهما أمام الاختيار بين التوافق على مخرج والمواجهة المباشرة.
ليس العداء بين إسرائيل وإيران جديدا، بدأ مع إسقاط الشاه عام 1979، وتبنّي قيادة الجمهورية الإسلامية في إيران الوليدة خياراتها السياسية من منطلقاتٍ دينيةٍ، ترى في الخارج القريب والبعيد عدوا وخطرا داهما، من الحصافة قطع التواصل معه، والاستعداد لمواجهة خططه ومؤامراته، لأنه لن يترك الثورة الإسلامية تستقر، وتحقق أهدافها في إقامة نظامها الخاص، نظام الولي الفقيه، وإدارة شؤون البلاد وفق مقتضياته، وخسارة إسرائيل حليفا مهما: الشاه الذي وقف معها في مواجهة العرب وزوّدها بالنفط، وطرد النظام الجديد سفيرها وقدّم سفارتها لمنظمة التحرير الفلسطينية لتحويلها إلى سفارة لفلسطين.
تعاطت قيادة الجمهورية الإسلامية مع الخارج بشك وخوف، على خلفية هواجسها من تكرار التجربة التاريخية المرّة: احتلال وهيمنة وسيطرة خارجية، دليلهما الرئيس ما حصل لحكومة محمد مصدق عام 1953، حيث تم إسقاطها بانقلاب بريطاني أميركي مدبّر، ورأت، بعد قطيعتها مع الولايات المتحدة، في التلويح باستهداف إسرائيل، طفلها المدلل، ورقة رابحة، لكبح أي تحرّك أميركي ضدها؛ فحرّضت العرب والمسلمين على محاربتها؛ وعملت على تطويقها بقوى وأذرع موالية، حزب الله في لبنان؛ ومليشيات الحشد الشعبي في العراق، ومتحالفة، حركتا حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ونشر وحداتٍ من الحرس الثوري الإيراني على حدود الجولان السوري المحتل، وتعزيز هذا الانتشار بُعيد انفجار الصراع السوري. وهذا أجّج الصراع على النفوذ بينهما في المنطقة، غير أن ما يميز المواجهة الراهنة سعة ساحتها وتعدّد أدواتها، حيث انتقلت من منع وصول أسلحة إيرانية إلى حزب الله إلى العمل على تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل صريح، بالإعلان عن المسؤولية عن الهجمات على مواقع إيران وأذرعها في سورية ولبنان والعراق، والتحرّك دبلوماسيا لعزل إيران ومحاصرتها، والعمل على دفع الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية والصاروخية.
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصعيدا إسرائيليا واسعا ضد القوات الإيرانية وأذرعها في سورية والعراق ولبنان: أربع غارات بطائرات مُسيّرة على مخازن أسلحة للحشد الشعبي في العراق، قصف قافلة شاحنات تنقل صواريخ دقيقة لحزب الله قرب بغداد، قتل 22 عنصرا، 19 إيرانيا من فيلق القدس، ولبنانيين من حزب الله وسوري، خلال غارة على بلدة عقربا قرب مطار دمشق الدولي يوم 24/8/2019، وتفجير طائرة مُسيّرة قرب مكتب لحزب الله في الضاحية الجنوبية ببيروت، وقصف مواقع للجبهة الشعبية- القيادة العامة في البقاع الأوسط، يستخدمها حزب الله لتهريب الأسلحة من سورية إلى لبنان، وقتل قائد في مليشيا عراقية قرب القائم غرب العراق، خلال 18 ساعة. “لم يعد الأمر متعلقا بالوجود الإيراني في سورية، ولكن بشبكة إيران في المنطقة”، وفق المحللة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، راندا سليم. وهذا، بالإضافة إلى كشفها أسماء الإيرانيين العاملين على تطوير قدرات حزب الله الصاروخية؛ لجعلها أكثر دقة، وإعلانها المشاركة في التحالف البحري الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيله لحماية الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب، وفق وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في جلسة سرية في الكنيست يوم 6 أغسطس/ آب الماضي، وتسريب معلوماتٍ عن وجود غواصات إسرائيلية في مياه الخليج العربي لاستخدامها عند الحاجة، ما أثار المخاوف من الانزلاق إلى مواجهة إقليمية شاملة.
أقامت إسرائيل إستراتيجيتها على ثلاثة عناصر متكاملة، أولها منع إيران من الاستقرار في المنطقة عبر الضربات المتتالية التي ستضطرها إلى إعادة الانتشار والتنقل الدائم، “لم تعد لإيران حصانة في أي مكان”، و”تعمل قواتنا في كل مكان ضد العدوان الإيراني”، وفق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. ثانيها العمل على إبقاء الخطر الإيراني في صدارة الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي؛ والإبقاء على الضغوط على إيران من أجل ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: عزل إيران؛ التقارب مع دول الخليج؛ إبعاد الملف الفلسطيني عن الطاولة. ثالثها العمل على الإبقاء على وجود أميركي كبير في المنطقة، وعلى استمرار التوتر بين الولايات المتحدة وإيران.
اعتبرت إسرائيل التوسع الإيراني في الشرق الأوسط تهديدًا كبيرًا لأمنها القومي، خصوصا في العراق، حيث تخطط إيران لإنشاء جبهة جديدة، تضاف إلى الجبهات القائمة حاليًا في سورية ولبنان وقطاع غزة، لاستخدامها ضدها عند الحاجة، وشروعها، في الشهور الأخيرة، في تعزيز قوة المليشيات العراقية الموالية لها، في أعقاب تكثيف إسرائيل هجماتها على الوجود العسكري الإيراني في سورية، بتزويدها بدءا من أواسط عام 2018 بصواريخ باليستية أرض – أرض من نوع “زلزال” و”فاتح 110″، ومداها بين 200 و 700 كيلومتر، ما يعني أن في مقدورها الوصول إلى أي هدف في إسرائيل من نقاط تمركزها في غرب العراق، هذه الصواريخ أكثر تطوّرًا ودقةً في إصابة الهدف من التي يملكها حزب الله اللبناني، وطائرات مُسيّرة، فتحركت لمواجهته مستفيدة من الدعم الأميركي الكبير لموقفها، ومن معطيات المرحلة؛ حيث قيّد الضغط الأميركي الشدّيد على إيران حركتها واضطرها إلى ضبط ردودها على إسرائيل، كي لا تؤثّر سلباً على إدارتها لاشتباكها مع الولايات المتحدة، في ضوء قناعة إسرائيلية راسخة أن الضغط الاقتصادي غير كافٍ لردع إيران، من جهة، وتخوّفها، من جهة ثانية، من تقلبات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وإعلاناته المتكرّرة عن استعداده للقاء الرئيس الإيراني، حسن روحاني، للاتفاق على حل.
ركزت إسرائيل، خلال سنوات الصراع في سورية وعليها، على ضرب وإحباط محاولات الانتشار الإيراني في سورية ذاتها، باستهداف قوافل السلاح المرسلة إلى حزب الله، وقد عكس إقدامها على شن الهجمات في العراق رغبتها في الحيلولة دون أن تشكل التعزيزات الإيرانية للمليشيات العراقية الموالية قوة مؤثرة في مسرح عمليات جديد غير الجبهة اللبنانية التي تواجه فيها حزب الله. غير أن الهجمات الإسرائيلية على مواقع إيران وأذرعها في سورية ولبنان والعراق لم تحدث الأثر السياسي المطلوب، في ثني إيران عن الاستمرار في محاولات تعزيز وجودها العسكري في سورية والعراق، وعن وقف نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله عن طريق سورية، فالهجمات لا تستهدف الأرض الإيرانية، ومعظم الضحايا ليسوا إيرانيين، وإنما عرب أو أفغان أو باكستانيون، ما يجعلها غير ذات تأثير على الشعب الإيراني، وأنها (إيران) لم تكتف بعدم تغيير سياستها، بل وشجّعت أذرعها على التمسّك بمكتسباتها مهما كلّفها ذلك، فوجود أذرع مسلحة تابعة لها في المنطقة يشكل رادعا لأميركا وإسرائيل يمنعهما من ضربها، من جهة، ويوفر لها، من جهة ثانية، أوراقا تفاوضية قد تمكّنها من استدراج أميركا وإسرائيل إلى الاعتراف بنفوذها في المنطقة، أو في سورية على أقل تقدير. وما المحاولة الفاشلة لإطلاق طائرة مُسيّرة ضد إسرائيل من منطقة عرنة، الواقعة على سفح جبل الشيخ من فريق من فيلق القدس الإيراني (قالت إسرائيل إنها دمرت المصنع الإيراني الذي يجهز الطائرات الإيرانية المُسيّرة في بلدة عقربا قرب مطار دمشق الدولي، والذي كان فريق من خبراء فيلق القدس يعالج فيه مشكلة الحمولة الزائدة التي أعاقت إقلاع هذه الطائرة، بغارة جوية، قيل إن الغارة دمرت المصنع وملحقاته، بما في ذلك مبنى لمبيت الفنيين الإيرانيين الذين لقوا حتفهم) ومواصلتها بناء ترسانة الصواريخ الدقيقة في لبنان، وتخطيطها لمناورات بحرية مع روسيا في المحيط الهندي نهاية العام الحالي؛ ردا على التحالف البحري الذي تحاول واشنطن تشكيله لحماية الملاحة في مضيق هرمز، والحديث عن السماح للغواصات النووية الروسية باستخدام ميناءي بوشهر وشابهار، قاعدتين أماميتين في المواجهة مع الولايات المتحدة، إلا تعبير عن تغييرها نمط ردها على العمليات الإسرائيلية والضغوط الأميركية، وتصميمها على التمسّك بأهدافها ومواقفها والمواجهة في سبيل تحقيقها.
المؤلم أن هذا الصراع على النفوذ بين إسرائيل وإيران، وبين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا كذلك، يتم على أرض دولٍ عربية تعتبر نفسها دولا ذات سيادة، من دون أن يكون لها رد فعل مناسب أو خطة للرد والردع والخروج من حالة انعدام الوزن.
العربي الجديد 4 أيلول/سبتمبر 2019