جهاد بزي
لم يكن قد بقي إلا الزلزال ليقول السوريون إنهم رأوا كل شيء. زلزال يبدأ في سوريا وتركيا، ويتمدد لتموج الأرض بهم حيث هم، في كل قارات لجوئهم.
كانوا، كلما أمطرت السماء عليهم صواريخ وبراميل، يصرخون إلا أحد لهم إلا الله. وانتهوا كذلك، لا أحد لهم إلا الله وأنفسهم. لم يتخلَّ الله عنهم، وليس يجرّبهم، فقد اكتفوا من التجربة. لكنه، في عليائه، صامت يفضل عدم التدخل في شؤون الكوكب السياسية والطبيعية. هي الأرض بذاتها هذه المرة، تساهم في المذبحة المروّعة لا لكي تعطيهم درساً، فقد اكتفوا أيضاً من الدروس. لا تتدخل لتعظهم. جميعنا، غرباً وشرقاً، ساهم، كلٌّ على طريقته، في وعظهم وقتلهم وإهمالهم والتمييز ضدهم وإنكارهم وطردهم وتجريدهم من أقل حقوقهم. جميعنا تطوع في إيذائهم. لكنها أمّنا الأرض، فهل يفيدهم أن يعتبوا عليها إذا تختارهم لتجتثهم بشراً وحاضراً ومستقبلاً من جديد؟ تتطوع ضدهم بعنف توراتي يجعلهم يقفون محنيين كعلامة استفهام هائلة تمتد من التراب إلى السماء: لماذا؟ ماذا بعد؟
كان ينقصهم فقط كارثة طبيعية في وطنهم وبلد لجوئهم، كي تصل إلى منتهاها، كل هذه القسوة في العيون التي رأت. إيلاف حكت عن الفوضى العارمة في عمليات الانقاذ وعن التفريق بين جثث “مهمة” وأخرى “عادية” تحت الركام. عن طبقية حتى في التعاطي مع تلال من فتات الباطون والحديد. قالت كثيراً في الفيديوهات التي راحت تبثها مباشرة، وهي تبحث عن شقيقها أبان وزوجته شهد. يجهد السوريون في تسمية أولادهم. أبان وإيلاف وشهد. إيلاف التي تجمّع الأسوَدُ تحت أظفارها طلبت من السوريين ألا يتأملوا كثيراً، فالمأساة أعظم من آمالهم. لا يقلل من حجمها المعجزات الصغيرة المتفرقة التي تصورها الكاميرات. إيلاف ستنعى لاحقاً شهد وأبان شقيقها الذي هو وحيدها وسندها وعائلتها.. في عيني إيلاف مرارة ستبقى عالقة هناك، في الهواء الباقي فوق الزلزال وفوق سوريا. في عينيها سؤال عن هذا الظلم العبثي لن يجرؤ على الإجابة عليه أحد، إلا بحمد لله الذي قدّر وما شاء فعل..
المأساة هائلة. هي نفسها على الأتراك كما على السوريين. لكن وطأها على السوريين أقسى. وطؤها أقسى على زيد الآتي من واشنطن بعد ساعات على الزلزال ليبحث عن أمه، وليساعد ما استطاع في النبش عن ناجين بأكثر ما يستطيع. نجت شقيقته صدفة. وزيد الذي قُتل أبوه وشقيقه قبل أعوام في قصف النظام على بيت العائلة في سوريا، وقبلهما قتلت داعش شقيقاً آخر له، سيكتب بعد أيام من الانتظار، أنه حاول أن يهيل التراب برقّة على جسد أمه في المقبرة الجماعية للغرباء، في الأرض الغريبة.
وطؤه أقسى الزلزال على عائلات ماتت بكامل ناسها، فلم يعد لديها من يتعرف عليها ليدفنها. وطؤه أقسى على الجرحى والمشردين الجدد في البلد الغريب، وبيتهم الثاني يسقط، ولا يعرفون كيف يداوون جروحهم ويبدأون من جديد. وطؤه أقسى على السوريين لأنهم الغرباء، ولأنهم المشردون في أطراف الأرض، ولأنهم تشتتوا. وطؤه أقسى على الغريب حين تنهار سماء غريبة على رأسه لتدفنه في أرض غريبة.
والشتات أكثر ما يشبه الأرض الرخوة، يغوص فيها ناسه بين بلاد إقامتهم، حيث لا اللغة لغتهم، ولا الأمكنة تحمل ذكرياتهم. الأرض رخوة حيث الأحلام تختلط فيها أرصفة المدن الجديدة بحارات وروائح ووجوه وجدران عتيقة. والأحلام قد تكون عزاء مؤقتاً لكنها لا تدمل الشروخ العميقة في القلوب. الأرض رخوة، حيث الذي يصنع حياة جديدة في البلد البعيد، لديه غريب آخر، يعيش في بلد آخر، ولديه غريب ثالث، ما زال في البلد الأم، مسقط الرأس، سجين أو مفقود، أو مجرد اسم على لائحة انتظار. لديه عائلة صغيرة من المستحيل لمّ شملها، ومن المستحيل قطع حبال السرّة معها. لديه عائلة لا يفهم الغرب البارد أنه قد لا يحتاج في ليالي صقيعه غيرها، ولو في أحلامه. وطؤه أقسى على من لا يجد مفراً مما هو فيه.
هكذا يأتي الزلزال على السوري، ليس كقدر فحسب، بل كقدر فوق قدر فوق قدر. كطبقات مبنى وقد انهار. إلى أين يفر السوري من قدره إذاً، وهو ما انفك يعاود المجيء بلؤم كل مرة أشد؟ أين ينتهي اغترابهم، ومتى؟ إلى أين يفر السوريون من أقدارهم وقد اجتمعت أقدارهم عليهم؟ أين يذهبون؟ كيف يطيبون خاطرهم المكسور؟
المصدر: المدن