جسر – صحافة
فيما ركزت التحليلات والتقارير التي تناولت مؤخراً، سابقة استهداف إسرائيل لميناء اللاذقية، فجر الثلاثاء، على الأبعاد الأمنية والسياسية، غاب البعد الاقتصادي قصير الأمد، والاستراتيجي بعيد الأمد، المتعلق بطموحات إيران على ساحل المتوسط.
فطهران التي خسرت إدارة ميناء اللاذقية، وتحديداً منه، محطة الحاويات، عام 2020، بضغط روسي مدعوم بتهديدات إسرائيلية، لم تتخل منذ ذلك التاريخ، عن انتهاج سبل مختلفة للحصول على موطئ قدمٍ في الميناء ذاته. سواء كانت تلك السبل، غير علنية وغير رسمية، وفي مقدمتها التهريب، واختراق شركة ميناء اللاذقية. أو كانت علنية ورسمية، من قبيل تدشين خط للنقل التجاري البحري بين الشواطئ الإيرانية وميناء اللاذقية.
وتأتي الضربة الإسرائيلية الأخيرة في سبيل تقويض الجهود والمساعي الإيرانية تلك، بعد أن توسعت مروحة الاستهدافات الإسرائيلية، في الآونة الأخيرة، لتطاول بشكل مكثف مسارات النقل البرّي والجوي، بين إيران وسوريا، تحت عنوان وقف تمرير السلاح الإيراني إلى حزب الله وأذرع إيران بسوريا.
ولفهم المشهد من كل زواياه، قد يكون من المفيد الإضاءة أكثر على تفاصيل خسارة إيران، رسمياً، لميناء اللاذقية، في صيف العام 2020. ففي ربيع العام الذي سبقه، وعد رأس النظام بشار الأسد، الإيرانيين، بمنحهم ميناء اللاذقية، مقابل منح الروس استثمار ميناء طرطوس، لـ 49 عاماً. لكن وعد الأسد ذاك، لاقى امتعاضاً روسياً، أيدته تهديدات إسرائيلية صريحة باستهداف ميناء اللاذقية -المتنفس التجاري البحري الأول لسوريا- إن هو بات بإدارة إيرانية. ونجحت تلك الضغوط في ثني الأسد عن منح الميناء للإيرانيين، وتم تمديد عقد إدارة محطة الحاويات بالميناء لصالح الشركة المستثمرة له منذ العام 2009، -شركة محطة حاويات اللاذقية الدولية-، والتي تساهم فيها كل من مجموعة CMA CGM، ثالث أكبر شركة في العالم بمجال النقل البحري والخدمات اللوجستية، والتي يقودها ورثة رجل الأعمال الفرنسي – اللبناني، من أصول سوريّة، الراحل جاك سعادة، وشركة “سورية القابضة” التي تمثّل استثمارات نخبة من رجال الأعمال السوريين المقيمين والمغتربين.
وكانت سلطات النظام السوري قد ماطلت في تمديد عقد شركة محطة حاويات اللاذقية الدولية، منذ انتهاء مدته في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وحتى صيف العام 2020، حيث كان الصراع الروسي – الإيراني داخل أروقة نظام الأسد، يدور على أشُده، بغية حسم مصير استثمار محطة حاويات الميناء ذات القيمة الاقتصادية الاستراتيجية. وكانت الخاتمة لصالح الروس، إذ مدد النظام للشركة المشار إليها، لـ 5 سنوات.
محطة الحاويات تلك، هي التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية بضرباتها، فجر الثلاثاء، وهو ما يعني تنفيذاً إسرائيلياً للتهديدات المعلنة منذ العام 2019، وبضوء أخضر روسي، إذ يقع الميناء على مسافة قريبة جداً من قاعدة حميميم الروسية في ريف اللاذقية.
تنفيذ التهديدات الإسرائيلية القديمة، جاء نتيجة مساعي إيران التي لم تتخل، منذ صيف العام 2020، عن العمل على كسب موطئ قدمٍ لها في الميناء، رغم خسارتها لإدارته، رسمياً.
ولميناء اللاذقية قيمة استراتيجية بعيدة الأمد، في الحسابات الإيرانية. فهو يشكل خاتمة طريق تجاري مُتخيل، تراهن إيران على تدشينه يوماً ما، لينطلق من أراضيها، عبر العراق، وصولاً إلى ساحل المتوسط، الأمر الذي سيؤهلها لتكون مركزاً رئيسياً لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، والتي تسعى لربط الشرق بالغرب، عبر طرق برية وبحرية.
وفي سبيل ذلك، عملت إيران جاهدةً على تحقيق الخطوة الأولى من حلمها بالربط السككي بين أراضيها وساحل المتوسط، عبر مشروع خط سكك الحديد الذي من المزمع أن يربط محافظة البصرة العراقية بإيران، عبر منفذ الشلامجة الحدودي، في اتفاقٍ مع الحكومة العراقية. أما الأفق البعيد لهذا الخط، فينتهي في ميناء اللاذقية على المتوسط، وفق الحسابات الإيرانية.
إلا أن عوائق نوعية جعلت الربط البرّي، السككي أو الطُرقي، بين إيران وسوريا، عبر الأراضي العراقية، غير مجدٍ من الناحيتين الاقتصادية والأمنية، على حدٍ سواء. من أبرز تلك العوائق، الاستهداف الأمريكي والإسرائيلي المتكرر لقوافل السلاح الإيراني المزعومة عند الحدود العراقية السورية. إلى جانب تعرض الطرق البرية داخل البادية السورية، التي تربط الحدود العراقية بساحل المتوسط، لهجمات تنظيم “الدولة الإسلامية”. فيما تخضع باقي الطرق البرية، المارة عبر منطقة الجزيرة السورية، لسيطرة “قوات سورية الديمقراطية” المدعومة أمريكياً، أو سيطرة قوى محسوبة على روسيا.
وبذلك تلاشت آمال إيران في النفاذ برّاً إلى المتوسط، بوصفه طريقاً لتهريب السلاح للقوى المحسوبة عليها، من جانب، وطريقاً لتهريب بضائعها ونفطها، التفافاً على العقوبات المفروضة عليها، من جانب آخر.
ومع ارتفاع تكلفة النقل الجوي، واستهداف المطارات التي تستخدمها إيران في سوريا (مطار دمشق الدولي، ومطار تي فور)، بات النقل البحري، السبيل الوحيد لتحقيق الغايتين، العسكرية – الأمنية (تهريب السلاح للمليشيات المدعومة من إيران)، والاقتصادية (تهريب البضائع والنفط).
وهكذا، ذهبت إيران في رهاناتها إلى الربط البحري بين موانئها، والشواطئ السورية. ففعّلت في ربيع العام الجاري خطاً بحرياً –تجارياً- يربط بين ميناء بندر عباس، وميناء اللاذقية. وفيما يُعتقد، على نطاق واسع، أن السفن الإيرانية المحملة بالبضائع التجارية والغذائية، القادمة إلى ميناء اللاذقية، تحوي سلاحاً، تصوّب الضربة الإسرائيلية الأخيرة على البعدين الاقتصادي والأمني، معاً. وتضرّ بمصالح إيران الاستراتيجية بعيدة الأمد.
فإيران التي انتقلت بخط التهريب من ميناء طرطوس، إلى ميناء اللاذقية، بعد أن أُحيل الأول لإدارة روسية عام 2019، تتعرض اليوم لتحدٍ يتعلق بإيجاد مسارٍ مختلفٍ لنقل بضائعها وسلاحها، إلى الأراضي السورية، ومنها، إلى لبنان أيضاً. فالإسرائيليون أرسلوا، عبر إعلامهم، رسائل واضحة لرأس النظام في دمشق، أن عليه أن يبعد الإيرانيين عن ميناء اللاذقية، أو أنه سيصبح هدفاً دائماً على قائمة بنك الأهداف التي تستهدفها إسرائيل، دورياً، على الأراضي السورية. الأمر الذي سيُضرّ بشدة، بالاقتصاد السوري، المتعثر أساساً، نظراً لأن ميناء اللاذقية، هو المتنفس البحري الرئيس الذي تستورد البلاد من خلاله معظم حاجاتها غير النفطية.
أما إذا عجز الأسد عن ذلك، فهذا يعني ربما، خروج ميناء اللاذقية، تدريجياً، من قائمة المواقع الاقتصادية الحيوية بسوريا، لصالح ميناء طرطوس، الخاضع للاستثمار الروسي. وهو خيار، لن تقبل به حاضنة الأسد الطائفية –العلويون-، الذين ينشط الكثيرون منهم في أعمال تجارية ولوجستية، مرتبطة بميناء اللاذقية، بصورة أساسية. وهكذا، يبدو أن الأيام المقبلة ترجح خسارة إيران، مجدداً، لميناء اللاذقية.
المصدر: موقع المدن