في الوقت الذي يشهد فيه التوازن الإقليمي في الشرق حالة من الفوضى، ينبغي على القادة الإقليميين والمجتمع الدولي على حد سواء متابعة العلاقات بين تركيا وإيران عن كثب. ففي حين اتسمت العلاقة بين طهران وأنقرة تاريخياً بالاضطراب، فإن المصالح المشتركة الحالية بينهما قد أفرزت نوعا جديدا من التعاون بين البلدين.
وفي الوقت الذي قاطع فيه العالم كله إيران بعد اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، استمرت تركيا في علاقاتها الطيبة مع طهران، وذلك على الرغم من أن العلاقة بين البلدين اتسمت في بعض الأحيان بالصعود والهبوط، وهو ما يعكس التاريخ الطويل والمعقد لكلا البلدين. ومع ذلك، أصبح اتجاه العلاقات بين البلدين مؤخرا يميل أكثر نحو التعاون، حيث تجلى ذلك في الجهود الكبيرة التي بذلتها تركيا لحل التوترات المتعلقة ببرنامج طهران النووي منذ عام 2006. كما دعمت تركيا الحكومة الإيرانية رسمياً خلال الاحتجاجات التي هزت إيران في ديسمبر 2017.
تقف تركيا اليوم أيضا إلى جانب ايران في مواجهة العقوبات الدولية المتصاعدة ضدها، واتخذت مؤخرا موقفاً حاسماً من موضوع تصفير إمدادات الطاقة الإيرانية، وقد عبر عن ذلك صراحة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلوا عندما قال أن “الاقتراح بشراء النفط من أي دولة أخرى غير إيران هو تجاوز للحدود“ “،وذلك في خطاب وجهه مباشرةً للولايات المتحدة الأمريكية، التي ترتبط بتوترات كبيرة اليوم مع تركيا، على خلفية عزم تركيا شراء منظومة صواريخ 400 S من روسيا.
ويرجع الدعم الأخير من قبل تركيا لإيران إلى أن أنها لا تزال تنظر إلى إيران على أنها أداة مفيدة لتحقيق أهدافها وطموحاتها الإقليمية، ففي الوقت الذي اتخذت فيه إيران الكثير من المواقف المضادة لتركيا في العديد من القضايا والمشاكل، وتحديداً في العراق وسوريا، لم تقابلها تركيا بالشيء نفسه، وذلك نظرا لقناعة صانع القرار التركي بأن إيران لا يمكن التفريط بها، فسياساتها الطائفية هي من جعلت أبواب الشرق الأوسط مشرعة أمام تركيا، كما سمحت لها بلعب أدوار سياسية تحفظ من خلالها مصالحها القومية، وتبني نفوذاً سياسياً واقتصاديا راسخاً في المنطقة.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا – الذي جاء إلى السلطة في عام 2002- يستند في أيديولوجية حكمه اليوم إلى استحضار التاريخ الذي شهد صراعات مستمرة بين الدولتين العثمانية والصفوية، إلا أن الواقع الجديد القائم على المصالح المشتركة بين البلدين قد ساهم في زيادة التقارب بينهما. ومع ذلك، لا ينبغي اعتبار تلك السياسة بمثابة تخليًا تاما عن العلاقات التاريخية العدائية بين البلدين. فمع استمرار إشارة حزب العدالة والتنمية لإيران باعتبارها “الصفويين”، واستمرار إيران بإظهار تركيا كقوة معادية، لا يمكن للمرء أن يتوقع تقاربًا تامًا بين الأعداء التاريخيين.
ومع ذلك، فأنه على ما يبدو أن حزب العدالة والتنمية يسعى حاليا إلى تأجيل الصفحة التاريخية الخاصة بإيران، لضرورات استراتيجية، حيث أصبحت تركيا تنظر إلى إيران على أنها الحصن الأخير الذي ينبغي أن يبقى صامداً في وجه النفوذ الخليجي المتصاعد والتدخلات الأمريكية المتقطعة، ولابد من دعمها وتعزيز وجودها الإقليمي في المناطق التي تشهد تطبيقاً فعلياً لهذه المخططات، وتحديداً في العراق وسوريا.
ومن المفارقات أن النموذج السياسي الإيراني إلى يسعى إلى إنشاء ما يسمى ب “الهلال الشيعي” ، قد قدم خدمة كبيرة لتركيا، ففي الوقت الذي تطرح فيه الدولتان نفسيهما، بأنهما يمتلكان مشروعاً سياسياً إسلامياً “شيعي ثوري – إسلامي صوفي“، نجد أن نجاح المشروع السياسي التركي جاء على حساب إخفاقات المشروع السياسي الإيراني، فالصورة الطائفية التي قدمت بها إيران نفسها، أدت إلى عزلها إقليميا وزيادة عدم الاستقرار داخليا .ومن ثم، سمح ذلك لتركيا بأن تدخل هذه المجتمعات من الباب الواسع، لتطرح نفسها بأنها البديل السياسي الناجح، والقادر على تبني القضايا الإسلامية والعربية.
أضف إلى ذلك، الدور الكبير الذي لعبته الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حماية وإدامة الأمن القومي التركي، وذلك من خلال دورها في إجهاض التجربة الكردية في العراق وسوريا واحتواءها ، ودورها في الأزمة القطرية الخليجية، وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لدولة قطر القريبة من تركيا. كما لعب إيران دورا مؤثرا في ربط الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط بالأهداف التركية، وذلك على الرغم من أن هذه العلاقة لا تزال محفوفة بالمخاطر في بعض النواحي. علاوة على ذلك، قد تدفع التوترات الأخيرة بين إيران والولايات المتحدة أنقرة – وهي حليف للولايات المتحدة في الناتو – إلى المزيد من التقارب مع إيران.
إلى جانب ما تقدم تتشارك تركيا وإيران المخاوف بخصوص الدور الاستخباري الإسرائيلي في أذربيجان، ولهذا يسعى كلا البلدين إلى توظيف النفوذ المذهبي والقومي في هذه الدولة التي باتت تتمتع بعلاقات متنامية مع إسرائيل تقوم على وجهة نظر مشتركة تعتبر إيران بمثابة تهديد وجودي. جاءت مجمل الهجمات الاستخبارية التي تعرضت لها إيران في الأونة الأخيرة عبر أراضي أذربيجان، وهو ما يشير إلى إدراك البلدين إلى إمكانية استغلال أذربيجان ضدهما مستقبلاً. وردا على تلك العلاقة، سعت تركيا إلى تقوية علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع باكو، في حين تتولى إيران دوراً في مكافحة الجهود الاستخبارية الإسرائيلية هناك. ومن ثم، وضع التحالف العسكري والأمني التاريخي مع أذربيجان، تركيا في موقع فريد فيما يتعلق بتبادل المعلومات الاستخباراتية المضادة مع إيران.
إن بقاء النظام الإيراني واستمراره يمثل مصلحة كبيرة بالنسبة لتركيا التي تدرك جيدا أن الضغوط الدولية المتصاعدة ضد إيران اليوم، هدفها تغيير النظام السياسي هناك. ومن ثم، ترى تركيا أن أي نظام سياسي جديد قادم في إيران، سيكون قريباً من الغرب، بل والأكثر من ذلك سيكون قومياً علمانياً بامتياز، وهو ما يفرض محددً أخر على الأمن القومي التركي، كون تركيا ستكون حينها أمام تحديين، أولهما غياب نظام سياسي إسلامي أعطى قوة دفع كبيرة للأدوار التركية في المنطقة بسبب أدواره السلبية، وثانياً مجيء نظام جديد قريب من الغرب، ولا يستبعد أن يستخدم ضدها، ولهذا فإن ضرورة المحافظة على الجمهورية الإسلامية يشكل مصلحة قومية عليا لتركيا.
وفى جميع الأحوال، يوضح النهج الذي تتبعه تركيا في ما يتعلق بعلاقاتها مع إيران كيف أنها استفادت من ظروف إيران من أجل تعزيز أهدافها، ومن المتوقع أن تستمر في تعزيز تلك الروابط مع إيران لتحقيق مصالحها المتمثلة في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية.
معهد واشنطن ١٧ تموز/يوليو ٢٠١٩