إياس اليوسف
تنبع أهمية الثقافة في المجتمع من أنها تشكل الوجدان الفردي أو الجماعي للمجتمعات وكذلك تعمل على تشكيل الضمير الذاتي للفرد أو للمجتمع الذي ينتمي إليه وهما ما يقدمان معا (الوجدان والضمير) بتوجيه بوصلة السلوك للفرد والمجتمع، لذا تعتبر الثقافة بالنسبة لأية دولة بمثابة الإطار النظري لمعتقدات الفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه ويعيش فيه ويتحدد جوهر الثقافة وفقا لعمقها التاريخي، ولقدرة الفرد أو الشعب صاحب هذه الثقافة في دفاعه عنها والتمسك بها في وقت الشدائد والمحن والأزمات، وإن الثقافة المتحضرة حقيقة هي تلك التي يؤمن أفرادها بالتوازن بين مطالب الفرد ومطالب المجتمع هي الثقافة التي يسعى المجتمع في ظلها إلى تحقيق العدالة بمعناها الشامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
في بداية التسعينيات نشطت الحركة الثقافية في سوريا بسبب الهدوء النسبي الأمني قياسا إلى ما كانت عليه في سنوات الثمانينيات ذات القبضة الحديدية للنظام التي أطبقت على أعناق الشعب السوري نتيجة قيام حركه الإخوان المسلمين بثورة مسلحة ضده مركزها مدينة حماة امتدت نارها إلى معظم مدن سوريا كحلب ولإدلب ودير الزور، فدارت حرب أمنية عسكرية قاداها حافظ أسد وشقيقه رفعت ضد الأخوين المسلمين والشعب السوري حرب لا مثيل لها في تاريخ العصر الحديث، فهدموا ستين بالمئة من مدينة حماة بطائراتهم ودباباتهم وقتلوا عشرات الآلاف من الأخوين واعتقلت أجهزة مخابراتهم الآلاف منهم ومن بقية أفراد الشعب المتعاطفين معهم، فضلا عن هروب عشرات الآلاف منهم وعنا ومن مثقفي سوريا إلى خارجها، ويبدو أن راسمي سياسة حافظ الأسد أشاروا له بعد هذه الفترة المقفرة ثقافيا إلى نشر فكر مضاد للإسلام السياسي بأبواق نظامه الثقافيه ومنح مساحة من حرية التعبير والرأي لرموز الفكر والثقافة في البلاد من أساتذة الجامعات والأدباء لعقد الندوات الفكرية والأدبية في مؤسساته الثقافية.
وقد استمر هذا الحراك إلى ما بعد التوريث لبشار الأسد، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلا، إذ في العام 2006 وما تلاه أغلقوا النوادي الأدبية والفكرية الخاصة كنادي الأتاسي وندوة الثلاثاء وغيرها.
كما ألغيت تراخيص المجلات والصحف التي منحتها الأجهزة الرقابية رخصا بأوامر من بشار الأسد، كصحيفة الدومري ومجلة أبيض وأسود وغيرها من الصحف والمجلات كما اعتقلت الأجهزة الأمنية جميع أعضاء إعلان دمشق في تلك الفترة وصدرت بحقهم أحكام بالسجن تراوحت ما بين السنتين إلى خمس سنوات، وبدأت التضييق والتشديد على حرية التعبير والرأي مما حدا بالمثقفين والأدباء المستقلين الانسحاب من المشهد الثقافي السوري ليحل مكانهم أشباه المثقفين، بل لنقل مثقفي النظام وأبواقه وشريحته الثقافيين، مما جعل الجماهير المتابعة للشأن الثقافي يحجمون عن أية مشاركة في أي نشاط ثقافي يقام في مؤسساته الثقافية كالمراكز الثقافية وفروع اتحاد الكتاب العرب.
هذا كله كان قبل اندلاع الثورة السورية ربيع العام 2011، وذلك بسبب تفاهة وسطحية ما كان يطرحه أبواق السلطة من أدب سقيم يمدح ويمجد النظام وقائده، أو فكر يراد منه تكريس نظرية المؤامرة الكونية وتخوين من قام بالثورة، وحين انطلقت الثورة اضطر الكثير من الأدباء والمفكرين والفنانين إلى الهجرة خارج سوريا ومن بقي منهم اعتقله النظام بسبب معارضته لسياساته القمعية الإجرامية التي يمارسها ضد الشعب لإخماد نار ثورته، مما أفرغ المسرح الثقافي من كل أدب وفن وفكر حقيقي، وليعتلي خشباته مثقفي النظام ومؤيديه وشريحته من الكتاب والإعلاميين والصحافيين للدفاع عن جرائمه ولتعليلهم قمعه الشعب ولتسويق مقولات كاذبة صنعتها أجهزته الأمنية كنظرية المؤامرة والحرب اﻷ صوليه والوهابية والداعشية في البلاد وغيرها من الأكاذيب، أما الرماديون سيما الذين كتبوا الشعر الهابط باسم الحداثة، أو ممن حافظوا على القصيدة الخليلية في كتابة الشعر فنراهم كانوا يذهبون بعيدا عن الواقع السوري البائس، فيختارون أغراضا شعرية ينهزمون فيها من مواجهة حقيقه الواقع الجماهيري في سوريا، كنظمهم لقصائد الغزل والوصف والمدح، أو نحو الغرض الوطني الذي تفوح منه رائحه الزيف والنفاق، وكأن ما أصاب المجتمع السوري من ويلات وجرائم وحشية على يد النظام والجيوش المحتلة التي استدعاها رأس النظام لتحميه ولتسند كرسيه الذي كادت الثورة أن تطيح به لا تعنيهم بشيء.
وما يحدث الآن للثقافة في العاصمة دمشق لا يحتاج عناء كبيرا من أحد لمعرفته فما إن نقرأ عناوين نشاطات المراكز الثقافية عند مرورنا مصادفة من أمام إحداها أو نتصفح موقعا لها على مواقع التواصل الاجتماعي يعلنون فيها عن أمسية شعرية لشويعر أو شويعرة لا يزالان في بداية ألف باء كتابة الشعر وحين يدفعك الفضول أحيانا لارتياد إحدى هذه الأمسيات فسترى العجب، إذ نجد ضحالة وسطحية مضمون ما يلقى في هذه الأمسيات من قصائد أو قصص أو محاضرات فكرية أو قلة عدد الحضور الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وجلهم من أقارب
الشاعر أو القاص أو المحاضر وبعض موظفي المركز الثقافي.
أما الظاهرة الأكثر تفاهة المتفشية في سوق ثقافة دمشق فهي حفلات توقيع الكتب في قاعات المراكز الثقافية واتحاد الكتاب العرب لكاتب أو شاعر ينشد شهرة زائفة من خلال هذا الضوء الباهت الذي سيسلط على عمله من خلال هذه حفلة، والمتتبع للكتب الصادرة في السنوات العشر الأخيرة بين عامي و2021 و 2011 في سوريا سيجد أنها منشورات تقليدية تغيب عنها الحداثة والتجديد وهما صفتان تكدان تلاصقان مضامين ما كتب في تلك الفترة، خلوها من كل إبداع أو مضمون فكري عميق وغاية أصحابها انتهازية استنفاعية بحتة كالاستفادة من بيعها إلى مؤسسات ثقافية أو تعليمية أو لاستخدامها استكمالا لأوراق ثبوتية سيتقدم بها الكاتب إلى اتحاد الكتاب العرب ليصبح عضوا لتزداد الأبواق التي تزعق لصالح النظام بوقا، أما المكتبات العريقة في دمشق فنجد أغلبها قد أغلقت أبوابها وما تبقى منها كمكتبة النوري في وسط العاصمة وغيرها من المكتبات في حي الحلبوني نجد أن كتبها يغلب عليها القدم وأغلبها مطبوع قبل العام 2011 وحركه بيعها لا يتجاوز عشر كتب في الأسبوع وربما في الشهر وروادها في تناقص كبير لأسباب عديده نذكر منها سطحية وتفاهة محتوى ما ينشر من كتب وغلائها، والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري بسبب الغلاء الذي طال كل شيء مما يجعل الناس ينصرفون عن شرائها والاتجاه نحو ما هو ضروري لأسرهم.
وكل ما ذكرناه انعكس على انتشار الثقافة ومحتواها وموضوعاتها في سوريا، أضف الى ذلك استئثار جيل الانتهازيين من مثقفي السلطة بالساحة الثقافية ولاسيما أعضاء اتحاد كتاب العرب الأمر الذي جعل الطرق تغلق أمام الشباب المبدعين، وكل ذلك من أجل تغييب أصوات المثقفين التي تنشد النور وتدعو لحرية وكرامة الإنسان.