الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

شارك

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

الأب باولو المُبشَّر بالفشل(4): جماعة الخليل

عبد الناصر العايد

بعد فترة وجيزة من ترميم أجزاء من دير مار موسى المهجور، وتوفير شروط الحياة الأولية، شرع الأب باولو دالوليو بإعادة الحياة “الروحيّة” للمكان عبر تأسيس جماعة الخليل الرهبانية العام 1991.

ولأن القانون الكنسي كان يفرض على الأب باولو (وغيره من الرهبان) التنقل من مكان إلى آخر، فقد واجه مشكلة مع رؤسائه في الفاتيكان، بسبب رغبته في البقاء في دير مار موسى، وتطوير جماعته ودعوته، وأدى ذلك إلى خروجه من الرواق الرهباني لمدة ست سنوات، كي لا يقع في “العصيان”. والخروج من الرواق، فرصة تمنح عادة للراهب ليراجع قراره من ناحية، وللرؤساء الروحيين كي يفحصوا صواب حكمهم من ناحية أخرى، وبالنتيجة، وبعد ست سنوات، استطاع باولو أن يقنع الفاتيكان بجدوى عمله وأهميته، فجدد لبقائه في الدير على رأس الجماعة الرهبانية، التي أعادت انتخابه كرئيس لها حتى خروجه من سوريا العام 2012.

وتضم الجماعة، إضافة للرجال والنساء، خليطاً من المسيحيين السوريين السريان والكاثوليك والمارونيين..، بلغ عددهم الأقصى سبعة، إضافة إلى رهبان متمرنين وضيوف بشكل دائم.

تمارس الجماعة طقوسها الدينية علناً وتسمح لأي ضيف من أي دين كان، بمشاركتها القداس الالهي، وجميعها تؤدى باللغة العربية ووفق الطقس السرياني المحلي.

يعمل أعضاء الرهبانية في خدمة ضيوف الدير بكل ودّ وتفانٍ، في ما يسمونه “الضيافة الإبراهيمية”، ويعرفون من كثب معظم الضيوف والزوار الذين يترددون على المكان، وتربطهم بهم علاقات محبة متينة. تراهم يتحركون بنظام دقيق طوال النهار، من إعداد طعام الإفطار في الصباح الباكر والتجهيز للصلاة، إلى العمل الشاق في رعاية شجيرات الزيتون أو غسيل الأغطية والشراشف في منامات الزوار، إلى إعداد الجبن واللبن في المشغل الصغير. لكن، لا يمضي يوم لا تلمح فيه هذا الراهب أو ذاك، وقد حمل حقيبته المتواضعة على ظهره، وعصاه، واتجه إلى إحدى المغاور المجاورة للدير، ليقضي هناك أياماً متواصلة من السكون في “الخلوة” الروحية، التي يعيد خلالها فحص ضميره وتنقية روحه. كما بإمكان المرء أن يسمع عند الغروب، عزف الناي البديع للراهب جورج، الذي يختار لنفسه مكاناً منعزلاً ومرتفعاً ليبث أنغامه التي ترخي على المكان الصحراوي المنعزل لمسة روحية فريدة.

يوفر الدير إقامة طويلة لمن يشاء، خصوصاً لمن يرغب في عيش التأمل الروحي، سواء تعلق الأمر بأسباب دينية أو غير ذلك، وباستثناء احترام قواعد بسيطة ومقبولة تهدف الى الحفاظ على طابع المكان الديني، لا تترتب على الزائر أي التزامات، فالإقامة والطعام مجانيان بالكامل، لكن الدير يقبل بعض الهبات المتواضعة التي تودع في صندوق الصدقات المثبت عند المدخل الرئيسي.

عندما قضيت في الدير فترات متقطعة، لكن طويلة نسبياً، كان في إمكاني تمييز عناصر مخابرات يقطنون ويختلطون بزوار الدير بشكل دائم، يتنكرون في هيئة ضيوف. وأخبرني الراحل ميشيل كيلو، أن جماعات المعارضة، خصوصاً من اليساريين، كانت ترسل العديد من أعضائها المطلوبين للاختباء في الدير، وكان باولو لا يتردد في التغطية عليهم هناك، لمنع اعتقالهم والتنكيل بهم.

وإطلاق باولو، اسم الخليل، على جمعيته الرهبانية، ليس اعتباطياً، بل أنه في صلب الرسالة التي نذر نفسه لها، وهي الانثقاف(*) في العالم الإسلامي، والبحث في الجذور الأولى المشتركة للعقائد الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، والمآلات التي تتوق للانتهاء إليها، والتي يجد أنها جميعاً تنتظر الحدث ذاته “نهاية يفتتحها ملكوت السلام والعدالة، ويؤسسها المُنتظر بطرق مختلفة، لكنها متشابهة عند أبناء إبراهيم كلهم، فاليهود ينتظرون المسيح، والمسيحيون ينتظرون عودة المسيح، والمسلمون ينتظرون المهدي”. ويجد في المحصلة أن اختلافات الأديان الثلاثة، ترسمها برامج سياسية متنوعة، تقدم رؤى مختلفة حول مستقبل العالم برمته. إلا أن ثمّة الكثير من العناصر المشتركة على الصعيد الرمزي في ما بينها، يحاول اكتشافها وجعلها مادة للحوار، ولغة رجاء مشترك ترعاه مسؤولية سياسية مشتركة وتؤتمن عليه، وهو مُصرٌّ على تسميتها “مسؤولية إبراهيمية”.

تستمر جماعة الخليل اليوم في عملها بعد فقدان مؤسِّسها ورئيسها، لكن الدير عاد إلى السبات بالتدريج، ولم يعد يضج بتلك الحياة العامرة، أو ترتاده قوافل الزوار، لكن الإرث المادي والروحي الذي تركه الراحل الكبير، يكفي لإعادة وتصعيد الحياة، في هذا الجزء من المسار المتصاعد الذي بدأه شارل ده فوكو ولويس ماسنيون وآخرون، والذي أخذه باولو إلى مستوى جديد وفارق عبر “انثقافه” الشجاع في قلب العالم الإسلامي، بجسده وعقله وروحه، بالضد من رغبة المتشددين في كلا العالمين الاسلامي والمسيحي. ولعل جثمانه الذي ربما يكون قابعاً في مكان ما من بادية الجزيرة السورية، يصبح ذات يوم ضريحاً مقدساً، يبنى عليه ما حلم بأن يكون الخطوة التالية بعد دير مار موسى، أي “كنيسة المسلمين”.

(*) الانثقاف: مفهوم كنسي، يُقصد به تجذر الإيمان والمبادئ المسيحية “ثقافياً” في المجتمعات التي يحلّ فيها.

المصدر: المدن

شارك