عبد الناصر العايد
لكل فكرة أصيلة مكان، وقد اختار الأب باولو، دير مار موسى الحبشي، وطناً ومقراً لدعوته.
انتظم باولو الشاب في سلك الرهبانية عندما كان في التاسعة عشرة من عمره، وفي العام 1975، التحق بالرهبانية اليسوعية “الجزويت” كراهب مبتدئ، ويقول باولو أنه تلقى في الخلوة “الاغناطية” دعوة الرب المؤلفة من خمس نقاط: البقاء في الرهبانية، ومغادرة بلاده لخدمة الرب في العالم الإسلامي، والاهتمام بالفقير خاصة مَن يعاني الفقر الروحي، والاستعداد للعذاب في سبيل الله والقريب، وأخيراً قال له: “وبالفشل أبشّرك!”.
في صيف 1982، زار بلاد الشام، وتزامن زيارته مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فتطوع هناك مع مندوب الفاتيكان كمسعف، ثم انتقل إلى سوريا حيث زار منفرداً دير مار موسى، الذي كان خربة بعيدة عن المعمورة، لا يقطنها أحد، لكنه وقع وكسرت ساقه، فبقي هناك وحيداً لمدة عشرة أيام مع بومة تسكن بين الأحجار المتهدمة، وفي هذه الأيام العصيبة قرر أن يرمم الدير ويجعله مقراً لدعوته الرهبانية التي كان يفكر طوال الوقت بتكوينها.
بعد انجاز دراساته في إيطاليا، توجه العام 1990 إلى دير مار موسى مجدداً، وتفرغ لترميمه ابتداء من 1991، وظل يعمره حتى فارقه آخر مرة العام 2012.
يقع دير مار موسى في جبال القلمون على بعد 15 كيلومتراً شرقي النبك (80 كيلومتراً شمالي دمشق)، وكان برجاً رومانياً لمراقبة طريق التجارة، بني في القرن الثاني الميلادي على طنف صخري يرتفع 1320 متراً عن سطح البحر، وحين صار البرج مهجوراً، بدأ الرهبان المنقطعون للعبادة في الجبال المجاورة يرتادونه كل يوم أحد لإقامة القداس الجماعي، حيث تشير الكتابات الجدارية إلى أن بناء كنيسته الحالية يعود إلى حوالى العام 1058م. وقد استمرت الحياة الرهبانية فيه حتى العام 1831م، حين هجره آخر الرهبان، وحوّله الرعاة ملجأ لهم ولمواشيهم، لكن أهالي المنطقة ظلوا على تبجيلهم للمكان، وواظبوا على زيارته بورع، وأوكلت شؤونه إلى كنيسة مطرانية حمص وحماه والنبك للسريان الكاثوليك.
تقول الرواية الرسمية المتداولة، إن موسى كان ابناً لملك من ملوك الحبشة، أراد والده أن يزوجه ويعده لخلافته، فرفض، إذ كان مشغولاً بالبحث عن اليقين الروحي، وهكذا غادر بلاده إلى مصر، وزار فلسطين، ثم ترهَّب في دير مار يعقوب قرب بلدة قارة السورية، ورحل إلى الوادي المسمى الآن باسمه، واعتزل في مغاوره. وفي خضم النزاعات المذهبية بين مسيحيي ذلك العصر، قُتل الراهب موسى على أيدي جنود الإمبراطور الروماني، ووصل خبر مقتله إلى الحبشة فأتى رسول ليأخذ جثمانه إلى مسقط رأسه. وقد شَقّ على سكان المنطقة مفارقة قديسهم، وحين فتحوا قبره، وجدوا إبهام يده اليمنى منفصلاً عن الجثمان، وكانت تلك علامة مقدسة، على ما رأى أصدقاؤه الرهبان، فاحتفظوا بها كذخيرة مقدسة، وما زال ذلك الإبهام محفوظاً في كنيسة النبك السريانية، ويفترض أن ذلك كله جرى في نحو القرن السابع الميلادي.
أسس باولو جماعة رهبانية مختلطة من الرجال والنساء في الدير، تقوم على مفهوم الضيافة الإبراهيمية، وقد لاقت هذه الدعوة نجاحاً مدهشاً، فالناس يتوافدون على الدير من داخل سوريا وخارجها.
محور حياة الجماعة الرهبانية والضيوف، هي ساعة التأمل الروحي في المساء، حينما تفترش الجماعة ورئيسها الأرض المغطاة بسجاد صوفي بسيط محلي الصنع، بهدوء تام على أضواء الشموع، في قاعة العبادة الرئيسية التي ما زالت تحمل نقوشاً ورسوماً قديمة جداً، رممها متخصصون. تلي ذلك قراءة نصوص مقدسة بصوت رخيم وبعربية متقنة، ثم تعزف موسيقى مناسبة، وبعض الترانيم الكنسية. وإذا ما حضر عازف أو مغن بين الضيوف -وكثيراً ما يستقبل الدير زائراً أو أكثر من هؤلاء- فانه يشارك في الطقس الجليل بما يناسبه.
الضيافة تتم في ظروف مريحة ببساطتها، ويتيح الدير لمن يرغب ويحتاج إلى المكوث مدة طويلة لأجل التعبد والتأمل الشخصي والمشاركة في حياة ورسالة الجماعة، كما يمكن التطوع لبضعة أشهر. ويشارك المتطوع في رعاية شجيرات الزيتون النابتة والمستزرعة هنا وهناك، وقطافها أثناء الموسم، وفي حَلب قطيع الماعز الجبلي الصغير، أو صناعة الجبن في المشغل الذي أنشئ داخل أحد الكهوف المطلة على البرج.
بنى باولو وجماعته، التي، حين زرتُ الدير، كانت مؤلفة من سبعة نساء ورجال، ما يشبه القلعة الروحية على ذلك الطنف الصخري من حجارته، تتضمن عشرات غرف الإقامة، ومرافق كاملة للطعام والنظافة، ومكتبة كبيرة وثرية للغاية بلغات عديدة، وقاعات كبيرة يمكنها استيعاب مؤتمرات متوسطة الحجم، بعمارة محلية كاملة. وكان باولو يواظب على شراء النوافذ والأبواب العتيقة من بلدة النبك وجوارها لاستخدامها في الدير، كي يمنحه الطباع المحلي بأكبر قدر من الأصالة.
قُدّر عدد زوار الدير العام 2009 بثلاثين ألفاً، من مختلف القارات والدول والأديان والجنسيات، وأقيمت فيه ندوات كثيرة بخصوص الحوار المسيحي–الإسلامي، وشارك أعضاء جماعة الخليل بالفعاليات والمؤتمرات والأنشطة كافة المتعلقة بهذا الشأن.
حصل باولو من وزارة الزراعة السورية على وصف “محمية” للمنطقة المجاورة للدير، وهي منطقة جبلية جرداء ذات مناخ صحراوي قاس، وبدا بزراعتها بأشجار ونباتات المنطقة، وأقام فيها بعض المنشآت الضرورية مثل السدود السطحية وخزانات المياه، لكن في مطلع العام 2010، ألغت وزارعة الزراعة السورية ما يدعى بمحمية دير مار موسى الطبيعية، بقرار غير معلل. ومع أن الحكومة السورية لم تتكبد أي مبالغ في سبيل إنشاء أو إدارة المحمية، إلا أنها أصدرت ذلك القرار الذي يبيح الرعي والبناء وغيره من النشاطات المدمرة للبيئة الصحراوية الهشة، بعدما أضحت المحمية موئلاً للعديد من الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض في تلك المنطقة، بشهادة دارسين أنجزوا أبحاثاً علمية هناك.
وقد بذل الأب باولو في تلك المرحلة جهوداً مضنية لإعادة الوضع القانوني للمحمية، والذي لم يستطع معرفة سبب إلغائه، لكن عدداً من المسؤولين لمحوا له بأن نشاطاته وتصريحاته أزعجت القيادة السياسية.
لم يكن باولو جاهلاً أو متعامياً عن ممارسات النظام بحق السوريين، فقد عاصرها، من ذروتها في حماة العام 1982، وفي العقود الثلاثة التالية، حتى أنه ساهم في إخفاء بعض المعارضين السياسيين والحقوقيين المعارضين الملاحقين من قبل النظام، والمهددين بالخطف والاختفاء القسري والتعذيب والقتل.
ويبدو أن نشاطاته وتصريحاته وأفكاره التي بثها بثقة من خلال “دير مار موسى” الذي ازدادت شعبيته وشهرته سنة بعد أخرى داخل سوريا وخارجها، قد أصبحت مقلقة للنظام، فالأفكار التي بدأ الدير بالتحول الى نقطة إشعاع لها، مثل الحوار، وثقافة الاختلاف والاعتراف بالآخر، والدعوة إلى اللاعنف والإصلاح، حولته الى فضاء عام محرّم ومرفوض في سوريا. فهذا النوع من الأماكن خطر، لأنه يتيح تجمع الناس، ويقود حتماً إلى وعي سياسي وحقوقي اجتماعي غير مسموح به.
كان باولو ينادي علناً برفع سقف الحريات العامة في سوريا، وهنا جرى استهدافه على نحو شخصي، وسلطت عليه أجهزة أمن النظام مجموعة من افسد رجال الدين المسيحيين المرتبطين به، لكنهم لم يتمكنوا من زعرعة مكانته الدينية، ولا التأثير في شعبيته التي، على العكس، تصاعدت كثيراً.
وقد وصلت أعمال تلك الفئة من رجال الدين المرتبطة بالأجهزة الأمنية للنظام السوري، إلى حد تفسير نظريته حول الأصل الإبراهيمي للأديان السماوية الثلاثة، إلى أنه نوع من التطبيع مع اسرائيل، واتهموه بالسعي لإقامة مؤتمر مسيحي إسلامي يهودي في دير مار موسى، والتخابر مع جهات صهيونية، وصولاً إلى اتهامه بالجاسوسية ضمناً. وتعرض بسبب ذلك إلى مضايقات أمنية، واستُدعي إلى عدد من أجهزة الأمن للتحقيق، لكن التحقيقات لم تفض إلى شيء في حينها، وهو فهمها على أنها إنذار أو تحذير.
في شتاء 2010، وصل باولو الى منزلي قرب دمشق من دون أن يتصل مسبقا كعادته. كان في تلك الأيام، آية في الإحباط والحزن، فالمحمية التي أفنى سنوات في استزراعها، اجتاحها الرعاة من سكان المنطقة البسطاء بقطعانهم، ودمروا بذرة الحياة التي انبثقت في تلك القفار. كانت عيناه تغرورقان بالدموع وهو يتحدث عن الأنواع النباتية الحيوانية والطيور المحلية التي وجدت في المحمية ملاذاً لها وعادت للتكاثر، بعدما كادت تنقرض، وكيف أن من دمروها هم من كان يجب أن يدافعوا عنها لأنهم أبناء الأرض! لكنه فسّر الأمر على أنه بتحريض من أجهزة المخابرات ومن رجال الدين المسيحيين الفاسدين الذين يتحسسون رؤوسهم بعدما بدأ وضع سلوكهم الشائن تحت الضوء الفاحص.
كان باولو في ذلك اليوم مطلوباً لأحد الأجهزة الأمنية، وقبل توجهه إلى هناك، أودع في بيتي كيساً يضم وثائق، قال انها تؤكد تورط رجُلَي دين مسيحيين كبيرين في قضايا تحرش بأطفال في الكنيسة، وأنه يعمل على الملف بعلم السلطات الدينية في الفاتيكان. وطلب مني عدم فتح الوثائق إلا في حال تغييبه، وإيجاد طريقة لنشرها. ثم عاد في اليوم ذاته، وأخبرني أن التحقيق تضمن هذه المرة تحذيراً له من التطرق بالإشادة إلى نجل المفتى كفتارو الذي اعتقل في ذلك الحين لأسباب مجهولة، وكان صديقاً للأب باولو، الذي استعاد وثائقه وغادر وهو يقول أن الآتي سيكون سيئاً، لكن… لتكن مشيئة الله.
المصدر: المدن