مصعب الحمّادي
من المدهش أن يعيد التاريخ نفسه ويجلدنا بسياطه لا لشيء إلا لأننا قصّرنا في فهم تجارب مرّت علينا ومضت دون درسٍ أو تحليل.
في كتاب “إبراهيم اليوسف وصفحات من تاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا”، نجد أن الإخوان المسلمين استغلوا حالة الاستعصاء السياسي في سوريا بعد انقلاب حافظ الأسد عام ١٩٧٠ ليطرحوا بضاعتهم نفسها التي طرحوها في ثورة عام ٢٠١١ وهي: التحريض الطائفي.
عزيزة جلّود، مؤلفة الكتاب هي زوجة النقيب إبراهيم اليوسف، المتّهم الرئيسيّ في قضية مذبحة المدفعية الشهيرة في تاريخ سوريا عام ١٩٧٩. والكتاب برمّته عبارة عن مذكّرات شخصية، لكني أعتقد أن قراءة تلك المذكرات مهمّة لكل باحث سياسي سوري، فدون هذه الشهادة النادرة من الصعب فهم ما حصل من حوادث طائفية في سوريا بعهد حافظ الأسد.
تأثّر إبراهيم اليوسف، وعدنان عقلة، ومروان حديد، ومعهم آلاف الشبّاب السوريين، بفكر الإخوان المسلمين، وأغراهم التشخيص الإخواني المُبسَّط لمشاكل سوريا في تلك الفترة، وهي مشاكل تنبع كلّها -حسب الإخوان المسلمين- من أن الرئيس حافظ الأسد علويّ، بما يوحي أن كل شيء سيكون على ما يرام لو تمّت إزاحته وجيء برئيسٍ سنّيّ وتمت إقامة دولة إسلامية، لا أحد يعرف كيف يكون شكلها!
هكذا ببساطة ضاع جيلٌ كامل ودخلت سوريا في أتون محرقةٍ طائفية طرفها الأول حافظ الأسد وممارساته الطائفية في الأمن والجيش والحياة، وطرفها الثاني الإخوان المسلمون الذين واجهوا الطائفية بمثلها، فعملوا على إيقاظ الغرائز الدينيّة لدي آلاف الشباب السوريين بحجة التصدي للنظام.
من المعلومات الجديدة التي نطالعها في كتاب عزيزة جلود أن حافظ الأسد استغلّ حرب عام ١٩٧٣ مع إسرائيل ليعمل على تسريع وتيرة تطييف الجيش السوري، فقد تمّت ترقية الضباط العلويين برتبات شرف بينما حُرم الضباط السنة، حتى المتميزون منهم، من ذلك. كما تغيّرت معايير القبول في الكليّات الحربية وصارت النسبة الغالبة من الطلاب المقبولين هي من الطائفة العلوية تحديداً. عانى النقيب إبراهيم اليوسف من جرحٍ شخصي كبير، وقاسمه تلك المرارة الكثير من الضباط السنة الذين رأوا زملاءهم العلويين يصبحون قادةً عليهم، مع أن الكلّ كان له دوره في الحرب. كما أنهم استشعروا خطر تطييف الجيش السوري وإغلاق أبواب الجيش أمام السنة وباقي فئات الشعب السوري، وجعلها مشرّعةً أمام العلويين تحديداً. كما مُنعوا من الصلاة في الجيش، وعُوقبوا عليها عندما أصرّوا على أدائها.
كانت ممارسات نظام حافظ الأسد هي “الفعل” الطائفي، وتكفّل الإخوان بالقيام بردّة الفعل. كان النظام هو الصوت، والإسلاميون هم الصدى.
وهكذا جاءت الاستجابة الشافية لمظلمة الضباط السنّة في الإيديولوجيا الطائفية للإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية، كالطليعة المقاتلة، حيث استغلّ الإسلاميون حالة النقمة تلك وعملوا على مزيدٍ من التجييش الطائفي بحيث بدا نظام حافظ الأسد والإسلاميون فريق عملٍ متكامل؛ وجهان لعملةٍ واحدة.
وبدلاً من تقديم رؤيةٍ سياسية مدنية متقدمة، أشاع الإخوان المسلمون بين السوريين أن نظام حافظ الأسد هو نظام علوي كافر، يطرد المدرّسات المنقبات من الوظيفة، وينقل المدرّسين المتدينين إلى وزارة التموين. يمنع الصلاة في صفوف العسكريين، ويشجّع الضباط العلويين على سبّ الذات الإلهية… إلخ.
ومقابل ذلك، طرح الإخوان المسلمون فكرة “الحاكميّة لله” التي تأثر بها إبراهيم اليوسف ورفاقه، فنذروا أنفسهم -كما صرح اليوسف في مقابلةٍ نادرة- إلى “إكمال هذا الطريق حتى ترتفع راية لا إله إلا الله”.
وفوق كلّ ذلك، قدّم الإخوان المسلمون شعاراتهم للمقاومة التي لم تختلف كثيراً عن شعاراتهم اليوم: “الله غايتنا، ومحمد قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أحلى أمانينا”.
ولما قَدحت الشرارة، وتورط إبراهيم اليوسف ورفاقه بالعنف الطائفي، تبرّأ الإخوان المسلمون منهم على العَلَن، وهرولوا وراء حافظ الأسد للتفاوض على المشاركة في السلطة. بل وتعاونوا مع النظام بتسليم لوائح بأسماء الشباب المنتسبين إليهم ليتم اعتقالهم.
تصف الكاتبة قوة جماعة الإخوان في تلك الفترة فتقول: “كان ينضم لها خيرة الشباب المؤمن المتديّن في سوريا، وكانت تسعى للحكم بالدعوة التي تهيء الشعب لقبول تشريع الله”.
وكشفت جلّود أن غالبية قيادات الإخوان المسلمين كانوا يتسابقون للقاء النقيب إبراهيم اليوسف، الذي قاد تمرداً مسلحاً في حلب لأكثر من سنة بعد مذبحة المدفعية، لكنهم أنكروا كلّ معرفةٍ به بعد مقتله.
في عام ٢٠١١ وما بعد، ارتكب الإخوان المسلمون نفس الخطيئة. اتبعوا سياسة التحريض الطائفي، فاعتبروا أن ثورة الكرامة هي استمرار لأحداث القرن الماضي، وأشاعوا بين شباب الثورة المتحمّسين أن الثورة هي جهادٌ في سبيل الله للقضاء على النظام العلماني الكافر وتأسيس الدولة الإسلامية. وعندما بدأت المحرقة ورفد الإخوان بفكرهم ومالهم وسلاحهم كل الفصائل المتطرفة، بما فيها النصرة وداعش، شوّهوا ثورة الحرية والكرامة، بل قتلوها، وتركوا الشباب لغياهب الموت المجّاني أمام آلة النظام الحربية، وأسرعوا يبيعون الدماء للنظام وإيران في جنيف وسوتشي وأستانا على أمل المشاركة في الحكم.
فعل الإخوان المسلمون ما فعله النظام بالضبط. التجييش الطائفي لفئةٍ معينة من الشعب السوري بغية الوصول للحكم، في حالة الإخوان، والبقاء في الحكم في حالة النظام. ثم خرج الشعب السوري وحده خاسراً من بين هذه المعمعة.
وها هو بشار الأسد اليوم يرفل بتضحيات طائفةٍ أفنت شبابها لأجله، بينما يتركها في وحول الفقر والعزلة، وها هم الإخوان يعيشون في مدن أوروبا وبريطانيا وأمريكا مع أولادهم وأحفادهم، ويتاجرون بما بقي من “مناطق محررة”. يسكنون في الدول “الكافرة” ويعملون على تأسيس الخلافة الإسلامية في أعزاز وسرمدا!
لكنّ سوريا هي أرض الحضارات العريقة الضاربة في التاريخ وهي أكبر من إجرام نظام الأسد، وأوسع من الفكر العصابيّ لجماعة الإخوان المسلمين.