عبد الناصر العايد
أصدر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI يوم الاثنين تقريره السنوي للعام الفائت 2022، وجاء فيه أن الإنفاق العسكري العالمي سجل رقماً قياسياً، إذ بلغ 2,24 تريليون دولار، أو 2,2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومع أن التقرير يكشف حقائق مهمة في بعض جوانبه، إلا أنه يغفل بسبب طبيعته كتقرير مالي، وقائع ذات أهمية أيضاً، تُطمس أحياناً، تحت وطأة قاعدة البيانات الهائلة جداً التي يعتمد عليها، بحيث يصبح اعتماده مؤشراً إلى صراع وتوتر محتمل هنا أو هناك، أمراً فيه بعض المجازفة.
يقول معدو التقرير المذكور، إنه يشير إلى الإنفاق الحكومي على القوات والأنشطة العسكرية الحالية، بما في ذلك الرواتب والمزايا، والنفقات التشغيلية، ومشتريات الأسلحة والمعدات، والبناء العسكري، والبحث والتطوير، والإدارة المركزية والقيادة والدعم، والمساعدات العسكرية لدول أخرى. لكنه لا يطور مؤشرات للتفريق ما بين الإنفاق كعملية مراكمة للأسلحة والمعدات والذخائر، وبين الإنفاق الذي يرفع كفاءة الجيوش ويوفر لها بنية تقنية وصناعية مستقلة. كما أنه لا يتطرق كثيراً إلى تلك النفقات الكبيرة التي تخصصها جيوش العالم المتقدم للتطوير والابتكار التقني، بينما تخصص نسبة ضئيلة جداً من نفقاتها للأسلحة لأنها تنتجها بنفسها.
وأبرز الأمثلة على ذلك، حالة المملكة العربية السعودية وإسرائيل، إذ احتلت السعودية للمرة الأولى المركز الخامس في الإنفاق العسكري مع 75 مليار دولار، بينما احتلت إسرائيل المرتبة 15 مع 23,4 مليار دولار، ولن يكون ممكناً فهم ميزان القوة بين الجيشين، الذي يميل لصالح إسرائيل طبعاً، سوى بأخذ عناصر التصنيع العسكري المحلي في الاعتبار، إضافة طبعاً للجزء المخصص في الميزانية العسكرية للتطوير والابتكار.
اتخذتُ معطيات التقرير التي تشير إلى النمو الكبير في الانفاق العسكري العالمي، ليبلغ مستوى العام 1989 وما قبل، للقول إن احتمالات الصدام عالمياً تعود إلى مستويات الحرب الباردة، لكن المؤشرات العسكرية حتى خلال الحرب الباردة تقول بأن زيادة القوى الكبرى لتسليحها وترساناتها العسكرية بشكل فائق تمنع وقوع الحرب، بل أن هذا هو الهدف الحقيقي من سباق التسلح العالمي، وهو الردع. وتسلح أوروبا مثلاً، على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا، يأتي من حيث مقاصده الفعلية للجم التطلعات الروسية غرباً، والتي أغراه بها استرخاء دول أوروبا المعتمدة على المظلة الأمنية الأميركية.
يتهم التقرير أيضاً روسيا بأنها محرك سباق التسلح الحالي في العالم، بسبب غزوها لأوكرانيا، ويركز على تصاعد التسلح في دول وسط وغرب أوروبا كاستجابة لذلك التهديد، ويتجاهل عن عمد المعطيات الخطيرة عن التسلح في آسيا البعيدة من هذا الصراع. فالإنفاق العسكري في الصين صعد بنحو عشرة في المئة، ويحل في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، فيما قفزت الهند إلى المرتبة الرابعة دولياً، وحلت السعودية للمرة الأولى في تاريخها في المرتبة الخامسة، كما جاءت كوريا الجنوبية واليابان في المرتبتين التاسعة والعاشرة وأستراليا في المرتبة الثالثة عشرة.
وتفيد هده المعطيات بأن التسلح ينزلق باتجاه جنوب آسيا، وكان يجب على التقرير اعتبار هذه المنطقة، أو الاستعدادات الأميركية لمواجهة الصين، هي المحرك الفعلي لسباق التسلح الجديد في العالم، لا روسيا. فالأخيرة، ورغم تبوئها المركز الثالث دولياً، إلا أنها قفزت اليه من المركز الخامس بسبب زيادة إنفاقها التشغيلي المؤقت في أوكرانيا، ومجمل انفاقها العسكر البالغ 81,4 مليار دولار لا يزيد سوى بنسبة ضئيلة عن إنفاق قوة إقليمية هي السعودية، وتقف بمفردها أمام دول أوروبا التي بلغ انفاقها العسكري 480 مليار دولار خلال العام 2022. وتفيد مراجعة السياسات والدعوات الأميركية، منذ عهد ترامب، بأن الولايات المتحدة نجحت في جر أوروبا لمواجهة روسيا والاعتماد على نفسها برفع مخصصات الدفاع إلى ما يوازي 2 بالمئة من الناتج الإجمالي، لتتفرغ واشنطن لمواجهة الصين.
إضافة إلى ذلك، أغفل التقرير نوعية الأسلحة التي يجري شراؤها بالمبالغ المعلن عنها، وأهمية ذلك تكمن في أن الأسلحة ذات الأسعار المرتفعة جداً، والتي تستهلك معظم الموازنات مثل الطائرات الحديثة غالية الثمن والغواصات والسفن الحربية الكبيرة، هي أسلحة ردع لا تستخدم فعلياً في معظم الدول المستهلكة. بينما تلعب الأسلحة الفردية والمتوسطة، ذات الأسعار التي لا تكاد تُذكر، دوراً محورياً في كافة الصراعات الساخنة في العالم، بما فيها الحرب الأوكرانية، حيث لم يزود الحلفاء، كييف، بطائرات حديثة أو سفن أو غواصات، وتقتصر الأسلحة المستخدمة في بؤر الصراع التي يقتل فيها العدد الأكبر من البشر على الأسلحة الفردية والمتوسطة، وهذا ما لم يلاحظه التقرير بشكل وافٍ.
من ناحية أخرى، لا تلحظ التقارير من هذا النوع، جهود التطوير الذاتي لبعض الأسلحة قليلة الكلفة، لكنها فعالة جداً في الحروب. فالتقرير أخبرنا ان الإنفاق العسكري التركي انخفض للعام الثالث على التوالي، ليصل إلى 10,6 مليارات دولار، بانخفاض قدره 26 في المئة عن العام 2021، لكنه لم يحتسب منتجات التصنيع الذاتي التركي وأثمانها في السوق، ولم يتطرق لقيمة صناعة المسيّرات الصغيرة في إيران ايضاً، وقيمتها الفعلية بعيداً من الأرقام، ولا خطورتها على الأمن والسِّلم العالمي.
قد يشكل تقرير استكهولم، إشارة إلى تزايد المخاطر وانعدام الأمن في العالم، وقد يحدد سبل مواجهتها في الغرب بأخذ الحيطة وزيادة الإنفاق العسكري. لكن بالنسبة للشرق الأوسط، فإن مؤشرات القلق تكمن في مواضع أخرى. فالصراع ومآسيه لا تحتاج إلى هذه المبالغ المهولة المذكورة في التقرير لتجعل حياة سكان المنطقة جحيماً لا يطاق. يكفي أن تتوافر بضع بنادق كلاشينكوف ومواد تصنيع العبوات الناسفة، لتندلع الحرب. فأسبابها الكامنة أبعد وأعقد من مشتريات السلاح، ويجري الانفاق على الحروب من دماء سكان ذلك العالم ومن أعمار ساكنيه، لا عبر الإنفاق المالي.