البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

شارك

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

البالون صيني.. لكن الاختبار أميركي

عبد الناصر العايد

استسهل المعلقون استخدام القول الدارج “بالون اختبار”، لتوصيف حادثة المنطاد الصيني المعلق في السماء الأميركية منذ أيام وحتى لحظة كتابة هذا المقال. لكن التوصيف الدقيق للحالة ربما يحتاج تعديلاً طفيفاً في العبارة النمطية، وهي أن البالون صيني، لكن من يُجري الاختبار هم الأميركيون، من خلال وضع المنطاد تحت الضوء، وتركه معلقاً في السماء عرضة للفرجة والتأويلات، وافتعال أزمة دبلوماسية مع الصين للإعلان عن بدء حقبة المواجهة لا المنافسة.

ولأن هذه الحادثة تعتبر روتينية في عالم الجاسوسية، فقد كان بإمكان الأميركيين أن يتعاملوا معها بالطريقة الكلاسيكية في هذه الحالة، وهي قبول الرواية الصينية بكون المنطاد معدّاً لأغراض دراسة الأحوال الجوية وخروجه عن السيطرة، ثم إنزاله على الأرض بذريعة تهديده لحياة الناس في حال سقوطه فجأة، ودراسته بعناية، ثم إعلان النتائج أو الضغط بها سراً أو علناً على بكين في حال الاكتشاف أنه قمر تجسسي. فلماذا اختارت واشنطن السبيل الآخر، وهو إبقاء المنطاد معلقاً ومعروضاً للمواطنين الأميركيين ووسائل الاعلام العالمية طوال هذا الوقت؟

مهما كان نوع المنطاد، يمكن إنزاله بأمان إلى الأرض، فهو كرة هائلة الحجم مملوءة بغازات خفيفة الوزن مثل الهيليوم، ويؤدي إحداث ثقب محدود في جداره إلى نفاد الغاز تدريجياً وانخفاضه ببطء حتى يلامس الأرض. على سبيل المثال، فقدت كندا السيطرة على منطاد مشابه تابع لمصلحة الأرصاد الجوية العام 1998، فأرسلت طائرة إف-18 أحدثت خرقاً فيه بطلقة مدفع من عيار 20 ملمتراً، وراح المنطاد يفقد الغاز وينخفض ببطء حتى لامس الأرض بعد ستة أيام من دون أن يحدث أي خسائر. وتالياً، فإن عدم اتخاذ إجراء مثل هذا، من الطرف الأميركي، فالقصد منه هو جعل هذا العرض المثير مستمراً أطول وقت ممكن لأسباب مجهولة، وإن كان يمكن التكهن بها، فليس بينها على الإطلاق التخوف من إحداثه أضراراً أو خسائر بشرية.

إن النظرية الأقرب إلى المنطقية في الحالة المنظورة حالياً، هي أن المنطاد مجرد جهاز صيني آخر أفلت من السيطرة، شأنه شأن القمر الاصطناعي الصيني الشهير. والسبب الذي يدعونا لقبول هذه التفسير هو أنه ليس من المعقول أن تتجسس الصين على الولايات المتحدة التي تملك وسائط الاستطلاع والإنذار المبكر الأكثر تقدماً في العالم، بجهاز يبلغ حجمه ما يوازي حجم ثلاث حافلات كبيرة، ولديه ألواح كبيرة جداً لتوليد الطاقة الشمسية، ومرئي بالعين المجردة من مسافات بعيدة. فهذه المعطيات لا تمت لأعمال الجاسوسية الحديثة بصلة، إلا في حال كان المنطاد بالفعل تجسسياً عسكرياً، لكن بأسلوب التجسس من الفضاء القريب، أي من خارج الأجواء الأميركية، وفي هذه الحالة لا بد أن أجهزة توجيهه تعطلت فجأة، كما يحدث عادة مع الأجهزة الصينية. أو أنه واجه ظروفاً جوية غير متوقعة، خصوصاً أن خبراء الأرصاد أفادوا بأن تيارات الرياح في طبقات الجو العليا التي تعتمد عليها أجهزة التوجيه الذاتي في المناطيد الحديثة كانت مضطربة، هذا الشتاء، ولم تكن مواتية لعمل تلك الأجهزة، فانجرف المنطاد نحو الأجواء القارية الأميركية.

إذا أراد المرء أن يمضي وراء الفرضيات البعيدة من الاحتمال، وهي أن المنطاد صيني وتجسسي وموجه مباشرة للتحليق في الأجواء الأميركية، وعلى علو منخفض يجعله عرضة للكشف، فإن هذا لا يمكن أن يُفهم سوى من زاوية كونه تحدياً صينياً للولايات المتحدة، ودعوة لها لفتح نقاش علني حول التجسس عبر الفضاء والغلاف الجوي الذي يسبح فيه المنطاد الصيني. فالجميع يعرف أن الولايات المتحدة تراقب البر والبحر والجو في الصين، بانتباه شديد، مستخدمة مستويات عديدة من أجهزة المراقبة، تبدأ من أجهزة التجسس تحت البحر، وعلى الأرض وعبر الأقمار الاصطناعية في الفضاء، ومؤخراً يجري الحديث عن جيل جديد من طائرات المراقبة بلا طيار مصنوعة من المطاط، وتستطيع التحليق بالطاقة الشمسية لأشهر في الغلاف الجوي العلوي. وليس بعيداً أن تكون الصين تعاني من المراقبة بهذه الوسيلة التي يستحيل التقاطها وتتبعها بالتقنيات المتوافرة لديها اليوم، وأقدمت على إرسال المنطاد بهذه الطريقة لإحراج واشنطن وإجبارها على توقيع اتفاقيات تقيد قدرتها على استخدام المجال الجوي العالي، أو حتى الفضاء أو أعماق البحر في عمليات التجسس والمراقبة.

لن تُحسم قضية المنطاد الصيني أبداً. فاذا كان تجسسياً بالفعل، فإنه مثل كل آلات وأدوات التجسس، سيتضمن آلية للإتلاف الذاتي للأجزاء الحساسة، ولن يتمكن الجانب الأميركي من إثبات أي تهمة تخالف الرواية الصينية حول كون المنطاد ذي أغراض مدنية. ولهذا السبب تُحبط أعمال تجسسية كل يوم حول العالم، لكن أحداً لا يصرح عن ذلك، لأن الطرف الذي يقوم به يحتاط جيداً للتمكن من الإنكار المعقول لصِلته بالحادثة. ولا بد أن واشنطن قد أجهضت بصمت عشرات المحاولات التجسسية الصينية، فلماذا اختارت أن تجعل من الحادثة الأخيرة نقطة عَلام؟

الإجابة ببساطة، وهي وصول المنافسة مع الصين إلى مستوى المواجهة، التي قد لا ترغب فيها بكين اليوم، لكن واشنطن تريد أن تعلن بكامل الجديّة أن لديها منازلة كبرى مع الصين، وهي لذلك يجب أن تتخفف من التزاماتها في الدفاع عن أوروبا، التي يجب أن تعتمد على نفسها من الآن فصاعداً، وأن تتكفل بمواجهة روسيا بقواها الخاصة، وهذا يعيدنا إلى ما قلناه هنا قبل نحو سنة، فالطبول تقرع في أوكرانيا، لكن العرس الحقيقي في خليج تايوان.

شارك