عبد الناصر العايد
تهب رياح التطبيع مع نظام الأسد، من دول الخليج في الجنوب، وتركيا في الشمال، عابرة المناطق السورية كافة، ومتجاهلة الأوضاع والتعقيدات والأزمة الإنسانية. فلا اعتبار يقام للقوى التي تستقر فيها، ولا مشاورة للفاعلين هناك، ولا حساب لعوامل القوة التي تكتنفها، مع أن بعضها، مثل التي في شمال وشرق سوريا، تبدو للناظر من قرب مثل وتد سياسي راسخ لا يمكن تجاوزه لا في السياسات المحلية ولا الدولية حتى.
ففي تلك المنطقة، تتموضع قوات أميركية وفرنسية وبريطانية، ومؤسسات مدنية لعدد أكبر من الدول الغربية، هدفها المعلن محاربة تنظيم “داعش”، أما غير المعلن فمنع روسيا وإيران، اللتين تتمركز قواتهما في المنطقة أيضاً، من الاستئثار بشكل كامل بسوريا وتقرير مصيرها من طرف واحد. وفي عمليات التطبيع العربية، لم يؤخذ رأي هذه القوى ولا مصالحها الاستراتيجية بعين الاعتبار، ولم تُناقَش عواصمها أو تُستشار في العملية. وبالنظر إلى قوة هذه الدول، فإن تجاهلها لا يعني فقط عدم انخراطها أو دعمها للعملية، بل إنه بالنسبة إليها أمر مستفز سيدفعها لاتخاذ مواقف سلبية يمكنه جعل العملية بلا جدوى، أو حتى تحويلها من تهدئة وتبريد إلى تسخين متصاعد قد يبلغ حد الحرب.
في تلك المنطقة أيضاً، “قوات سوريا الديموقراطية” المدعومة غربياً ويقودها الأكراد، وهؤلاء ينظرون إلى عمليات التطبيع العربية كما لو كانت طعنة في الخاصرة. فالعرب أظهروا أنفسهم مؤخراً كما لو أنهم خط ثانٍ من حلفاء “قسد” في إطار المنافسة مع تركيا. أما التطبيع التركي فليس سوى اعلان حرب كاملة هدفها استئصال هذه القوة، إذ تبدو أنقرة كمن فاز بمزاد علني على قلب النظام، وهذا عائده الرئيسي تصفية تلك القوة بشكل كامل.
أما العشائر العربية في الجزيرة، التي لا تؤخذ في حسبان قوى الأمر الواقع في المنطقة نفسها، فهي لم تؤخذ بطبيعة الحال في حسبان قوى التطبيع، ولم يتساءل الطرف العربي ولا حتى التركي المتحالف مع جزء منها، عن رأيها ومَصالحها، وتغاضى الجميع في ما يبدو عن حقيقة أن هذه القبائل خاضت وتخوض الحرب الأكثر شراسة ضد نظام الأسد، ودفعت بعشرات الآلاف من أبنائها ثمناً لتغيير منشود يخلصها من حالة التهميش النسبي الذي ترزح تحته منذ تأسيس الدولة الوطنية في سوريا.
يكمن في المنطقة أيضاً تنظيم “داعش”، بثبات لا يعرفه حتى العراق ذاته. وتشير عمليات وتحركات التنظيم إلى أنه لا يضيع الوقت سدى، ويعدّ العدّة لوثبة جديدة ما إن تتهيأ الظروف المناسبة لذلك، وتلك الظروف سيوفر جانب منها عمليات تعويم النظام رغماً عن أنوف السكان الحانقين. ففي ظلمات مشاعر الغبن وخلف أحاسيس القهر والازدراء، يكمن آلاف الانتحاريين، لا في سجون “قسد” والتحالف الدولي فحسب، بل بين أناس ليسوا من مبايعي التنظيم أو دعاته، بل من الناس العاديين الذين يجري تجاهلهم وفرض القسمة الضيزى عليهم.
لا تفتقر المنطقة أيضاً للنخب الفكرية والثقافية والسياسية والتكنوقراط، التي لا ترى أن التطبيع مع النظام ينطوي على أي حلّ، وهي في أحسن الأحوال ستلتزم دور المحرّض الضمني على العملية وأهلها، هذا إذا لم تناصبها العداء بشكل معلن وسافر.
منظوراً إليها من منطقة شمال وشرق سوريا، المشهورة بالرياح المغبرة، لا تبدو مبادرات التطبيع سوى عاصفة من أخرى من “العجاج”، تغطي السماء إلى حين، تسدّ الأفق وتضيق بها الصدور. لكن ذرات الغبار المعلقة في الهواء لا بد أن تفقد قوتها وزخمها لتسقط بلا تأثير على الواقع الصلب الراسخ، ثم تكنس في صباح اليوم التالي وينتهي أمرها. ومثال الشمال الشرقي ينطبق على الشمال الغربي، وعلى الوسط والجنوب، فرياح التطبيع لن تحدث فرقاً في داخل سوريا، ولن تحل شيئاً من الإشكاليات، ولن تجلب السلام إلى الربوع، ما دامت لا تزيل العقبة الرئيسية، وهي نظام الأسد، بل تعززه، ويبقى التغيير الفعلي، كما هو الحال طبيعياً في تلك البلاد، مناطاً بالرياح الغربية.
المصدر: المدن