جسر: ثقافة:
يتحالف نظام الأسد اليوم مع “أعداء الهوية” ذلك أنهم يسعون إلى هيمنة جغرافية وتحريك مصالح سياسية في ورقة المنطقة كما يعملون بشكل منظم على مسح التاريخ السوري وتدمير جذوره الثقافية والاجتماعية.
وهنا نقصد بشكل مباشر النشاط الإيراني الثقافي الذي يتغلغل في المجتمع السوري بوتيرة متسارعة تبعاً لسقوط مناطق كانت تحتفظ بها المعارضة المسلحة أو التنظيمات المتطرفة الدولية مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” و”هيئة تحرير الشام”، إذ ثمة زيادة ملحوظة وعلنية للفعاليات الثقافية والاجتماعية التي تموّلها وتدعمها إيران في مدن سورية عديدة لتعقيم المناطق من “الحرية” و”الفوضى الثورية”.
كما يشكل “حزب البعث الأسدي” حاملة اجتماعية تنظم وتوجّه الهيئات التعليمية والمراكز الثقافية التي تريد إيران تفعيلها لصالح قبضتها “الطائفية” وحضورها. مثلاً هناك أنشطة مستمرة في شمال سوريا، كمناطق دير الزور ومدن سورية أخرى مثل حلب وريف دمشق وريف حمص، هدفها المباشر الهيمنة الفعلية على تربية الأطفال والتأثير في وعي الشباب من خلال دعم مشاريع ثقافية كالسينما والتعليم والمنح الدراسية ونشر الكتب (…). تلك المحاولات المستمرة يقابلها دعم للنظام السوري عسكرياً وأمام الدول اللاعبة في هذه الحرب. ولعل اللافت الآن هو وصول أقلام إيرانية إلى تصدير المشهد السياسي الثقافي من عمق مؤسسات “رسمية” في دمشق لخدمة توجه “الإسلام السياسي الإيراني” وتزوير الأحداث السورية بما يتماشى مع روايتها لقتال طائفي ضد السوريين.
لقد وقعت يدنا على كتاب ضخم طبع في دمشق بعنوان “داعش… النشأة والبنية والأهداف” أعده شخص اسمه سيد رضا صدر الحسيني، يدّعي أنه باحث إيراني، بترجمة من الكتّاب في “وزارة الثقافة” وهم: أيهم علي حسون، ومحمد عبد اللطيف علي؛ ومراجعة: د.نزار بني المرجة، ود.حسام شعيب، وبتقديم كان قد كتبه المدعو “علي أكبر ولايتي” مستشار خامنئي، بحسب زعم الهيئة السورية للكتّاب التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد. هذا النموذج يعيد للأذهان كيف “شيطن” النظام السوري عدواً في صراعه على البقاء خلال حقبة الثمانينات وهو “تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا” الذي فتح القتال العسكري ضده، الباب على مقصلة التصفية لكل أطياف المعارضة السياسية للنظام والقضاء على أي اعتبار لقادتها حتى تلك اللادينية وغير المسلحة أصلاً.
تماماً كما تفعل إيران اليوم، حيث تصنع من تدخلها العسكري، فرصة لاستهداف المكون السوري وتعايشه، وتشويه خصومها الرافضين لمشروعها عن طريق “دعشنة” مشهد المعارضة دون تفريق وإطلاق يدها ثقافياً في سورية لنشر أفكارها وتخوين كل من يرفض دعمها للأسد، إلى جانب وضع شراكتها مع النظام بحُجّة “مقاومة” إسرائيل التي تستبيح السماء السورية بتفاهم روسي منذ بداية الثورة السورية حتى اليوم.
وتدعي إيران استخدام ذريعة “الاعتدال الاجتماعي” لمواجهة تطرف “داعش” كنموذج تسعى لتعميمه على منوال شرعنة وجود ميليشيا “حزب الله” في لبنان لنشر إسلامها “الخميني” وتعزيز شوكتها العسكرية بالمعارك التي تديرها فصائلها الشيعية إلى جانب جيش النظام، مضيفة بذلك كل يوم تشويهاً تاريخياً للثورة والشعب السوري.
والسؤال الذي نتوقف عنده هنا: كيف واجهت الثورة السورية بأنشطتها وكتّابها وفعاليتها هذا الانتشار الإيراني فكرياً في المجتمع السوري خصوصاً والذي يتم في ظل الأحداث الحربية من دون نقد، بعيداً من الضوء، بداية من شراء العقارات في الأرضي السورية وصولاً إلى افتتاح “الحسينيات” والأنشطة “الثقافية” المرافقة لذلك؟
صدى المجابهة
في حديثه لـ”المدن” يعتبر إبراهيم قعدوني (كاتب ومترجم سوري) أن الثقافة كانت ولاتزال رافعةً للسياسة وحاملاً لغاياتها، لا سيّما في العالم المشرقي حيث ما تزال الغلبة للسياسيّ على جوانب الحياة كافّة والمشروع الثقافي الإيراني في سوريا ليس بالجديد، فهو مشروع انطلق مع تأسيس حكومة ما يُعرف “بالثورة الإسلامية في إيران” ومن ثمَّ اتّخاذ صانع السياسة الإيرانية (الولي الفقيه) العصبية المذهبية أداةً لخدمة مشروع الحُكم وطموحه التوسّعي.
ويعتقد قعدوني أن طبيعة الحكم الاستبدادي الطائفي لسوريا كانت قد ساعدت في تعزيز التقارب مع نظام الملالي الحاكم لإيران، غير أنَّ هذا التقارب سُرعان ما تحوّل إلى تبعيةٍ مطلَقةٍ مع رحيل الأسد الأب واستلام وريثه الابن زمام الأمور ليصل النفوذ الإيراني في سوريا إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من الاختراق لشتى مفاصل الدولة والمجتمع السوريَّين، وهو ما عزَّزتهُ سنوات الحرب السورية بعد تهالُك النظام السوري وتلاشي مُقدَّرات دولته التي باتت تعتاش على خطّ طهران الائتماني وما يستتبع ذلك من تنشيط الاختراق الإيراني لكيانات الدولة واستخدامها لترسيخ الرؤية الإيرانية لسوريا بوصفها منصّةً للنفوذ المذهبي والجيوسياسي في سياق الرؤية الإيرانية الأوسع، بحسب رأيه.
لقد كانت فئات من المجتمع السوري قد اشتكت منذ سنوات ما قبلِ الثورة السورية من “حملات التبشير” الإيرانية المذهبية في المجتمع السوري من درعا جنوباً، إلى حلب شمالاً، ومن الساحل غرباً وحتى الجزيرة السورية شرقاً، يقول قعدوني، وقد روى لي صديق -بحسب شهادته- كان يعمل سابقاً في إدارة المطبوعات في وزارة الثقافة السورية كيف كانت شُحنات الكُتُب -العقائدية في معظمها- القادمة من إيران تدخل إلى السوق السورية وتُعمَّم على المكتبات العامة دون مراجعة أو تدقيق، وتشير التقارير المفزعة في السنوات الأخيرة إلى أنَّ الإيرانيين في سوريا، تحت وطأة العقوبات المالية المفروضة عليهم، أدركوا عدم قدرتهم على الاستثمار في قطاعات اقتصادية كبرى، لذلك توجّهوا إلى تركيز استثماراتهم في القطاعات الاجتماعية والمعاشية ولا سيّما في المناطق النائية وشديدة التضرّر كالبادية السورية، بدءاً بتقديم الأعلاف المدعومة لمربّي المواشي وصولاً إلى استفراد الإيرانيين بالقطاع التعليمي في منطقة البوكمال وجوارها نظراً “لعدم قدرة الدولة السورية على تلبية احتياجات هذا القطاع”!
فيما لا يبدو لا أنَّ هناك مجابهة فاعلة للتوغل السياسي والثقافي الإيراني في سوريا -وهو بالطبع ليس التوغّل الوحيد أو الأخطر، بيدَ أنه الأكثر فاعليةً نظراً لارتكازه إلى امتيازاتٍ تمنحها سلطة الأمر الواقع- فالمشكلة، في رأي “قعدوني” هي أنَّ “درجة الاستقطاب الثقافي والإعلامي، فضلاً عن أقلمة وتدويل الصراع السوري، جعلت المنابر الإعلامية والثقافية تتراجع إلى ما يشبه غُرَف الصدى التي تبدو أبعد ما يكون عن الخطاب الثقافي الوطني الملامح الذي يحظى بالشمول والمقبولية، والأهم، أن َّ المسألة تبقى رهناً بالانتقال السياسي الذي طال انتظاره”.
سلاح طائفي
من جهته يرى أحمد الخليل (كاتب سوري) أن تساؤلنا يحمل ما يشبه التبرير للقوى الدينية وإدارة لقوى دينية متطرفة أخرى، الإخوان المسلمين مثلاً أو جيش الاسلام أو حزب الله أو الزينبيون… ويضيف في حديثه لـ”المدن” أن جميعهم ينتمون لأيديولوجية واحدة قادمة من الدين. بينما المشروع السياسي هو الأساس لهذه القوى السياسية التي تعتمد الدين لتسويغ سياساتها بين الناس سواء القوى الشيعية أو السنية، بالنسبة لإيران لديها مشروع سياسي هدفه الأساسي الهيمنة على المنطقة وهذا المشروع تسوقه إيران عبر الدين، حيث لا تستطيع مثلاً أن تقول لمن تجندهم لقتل الشعب السوري “أن النظام يجيبه اسرائيل ويجب الوقوف معه” إنها تجند الناس بحجة ان المقامات الشيعية “مستهدفة” وأن السنة سيقتلون الشيعة، أي تستخدم السلاح الطائفي لإنشاء قوى مساندة لها. بينما المشروع الإيراني أساسا مشروع سياسي واقتصادي وما الدين والثقافة إلا وسائل من وسائل إنجاز هذا المشروع، على حد قوله.
ويعود “الخليل” بالذاكرة إلى عشرات السنوات قبل الثورة السورية، ليشير إلى أنشطة المستشارية الثقافية الإيرانية في منطقة المرجة وسط دمشق، والتي تعمل باستمرار على نشر ثقافة التشيع وثقافة “الولي الفقيه” ليكون لإيران موطئ قدم في كل المنطقة عبر تشكيل حاضن اجتماعي لمشروعها على أرضية مذهبية ودينية.
وبالتالي فإن إيران بدأت بتنفيذ سياستها القائمة على ما يسمى “تصدير الثورة بعيد مجيء الخميني للسلطة عام 1979” ففي لبنان شكلت “حزب الله” والكثير من “الحسينيات” وفي سورية شكل تحالفها مع النظام فرصة لضخ الأموال لبناء مراكز دينية وإحياء ثقافة المزارات الشيعية لتكريس مشروعها السياسي والثورة السورية حين أرادت مواجهة تلك الأفكار، واجهتها بنفس المنطق الإيراني أي بمنطق طائفي! ويشرح الخليل ذلك قائلاً: “هيمن خطاب ثنائية علوي سني على إعلام الثورة وخاصة بدءاً من عام 2012 وهذا الخطاب دعم خليجيا لمواجهة المشروع الإيراني وساد مصطلح “النظام النصيري” مثلاً، لحشد الناس طائفياً وليس وطنياً، بالتالي لم يتجذر أي مشروع وطني يقوم على ثنائية شعب وسلطة استبداد، وهذا الأمر استفاد منه النظام ليدعم نظريته بأن الثورة هي حركة إرهابية وبالتالي تشويه الاحتجاجات والثورة الشعبية ضده. طبعا ليست الثورة من تبنى الخطاب الطائفي المواجه لخطاب إيران والنظام، إنما القوى العسكرية والسياسية التي هيمنت على الحراك الشعبي وقادته ووجهته بدعم من الدول التي تريد لهذا الخطاب أن يسود” بحسب رأيه.
ثأر قديم!
فيما يروي عدي أتاسي (فنان تشكيلي سوري) لـ “المدن” عن حادثة ملفتة تعكس طبيعة الاختراق الاجتماعي الذي كان يمارس من قبل “السياسية الإيرانية” في سورية، قائلاً: “في ثمانيات القرن المنصرم وبحكم عملي كموظف استقبال في أحد فنادق دمشق، وفي منطقة البحصة تحديداً، حيث كان يتم إنزال “الحجاج الإيرانيين” في فنادق تلك المنطقة، كنت على احتكاك مباشر معهم ومع مشاكلهم ونظرتهم الاستعلائية للسُنّة آنذاك، وبأنهم الأحق بالولاية والخلافة وما إلى ذلك من تبعات لقاء سقيفة بني ساعدة المشؤوم وما جلب معه من فرقة وتناخر بين المسلمين، وما زلت أذكر إحدى العبارات المقززة التي سمعتها من كثيرين منهم ألا وهي: (لو كان سِنيَ سُني لقلعته) السِّن في الفم والُسني اي المنتمي للطائفة السنية” على حد وصفه.
ومن مفارقات ذلك الزمن العجيب، أنه كان يكتب على جوازات السفر السورية يسمح لحامله السفر الى كل بلاد العالم ماعدا العراق وإسرائيل، وذلك نظراً للعداء الشديد بين حافظ الأسد وصدام حسين حينها، وذلك ما يفسر وقوف سوريا الى جانب إيران في الحرب العراقية الإيرانية، يستذكر “أتاسي” ذلك مشيراً إلى أنه من تبعات ذلك التغلغل الإيراني الديني والثقافي والعقائدي في أوساط الطبقة الفقيرة أو المهمشة، هو ما “نشاهده من وقوفٍ واضح وصريح وعلني لشيعة سوريا أو من شيعتهم إيران مع النظام ومع الميلشيات الإيرانية المدفوعة الأجر مباشرة من الولي الفقيه”.
تخبط ثوري
من جهته يعتقد فريد ياغي (شاعر سوري) في إجابته لـ “المدن” أن إيران تحاول فرض نفوذها على بيئة مختلفة عنها اثنيّاً وطائفيّاً ممّا يصعب مهمّتها العسكريّة بغير رافد معرفيّ، ومن هنا قامت إيران بنشر أفكارها الطائفية ومحاولة ترويج الشعب السوري كشعب متطرف مما يتيح لها مبرر الهجوم على قراه ومدنه بحجة محاربة الإرهاب.
وبالتوقف عند دور المثقف السوري من أجل الرد على ادعاءات إيران وتوغلاتها الثقافية، يؤكد ياغي أن المشكلة التي وقع بها المثقف السوري هي أنه “سمح للشارع أن يقوده بدلاً من أن يقود الشارع، مما أدّى لتحوله إلى كائن شعبوي يتلقّى ولا يُلقي”.
ويضيف: وبسبب الظلم الذي وقع على الشعب السوري والممارسات الطائفية التي تعرض لها، حمل هذا الشعب روحاً انتقاميّة طائفيّة بدورها، وهنا نجد أنّ الكتاب والمثقفين السوريين بمعظمهم انجرّوا وراء تيّار الطائفيّة فهم من جهة سلكوا نفس طريق إيران الطائفيّة، ومن جهة أخرى أثبتوا كلامها ووجهة نظرها، أما القلة القليلة التي وقفت في وجه هذا المناخ الطائفي وتمسكوا بالصورة السوريّة المعتدلة تمّ إسكاتهم أو تجاهلهم بحجة أنّهم بعيدون عن الواقع.
“ياغي” يعتبر أن المتصدرين للمشهد في الثورة السورية وكتابها والقائمين على فعالياتها في التصدّي للمشروع الإيراني، كانوا قد “فشلوا”، وتوضح خبث هذا المشروع وخبرته العالية، بمقابل تعاطي كتابنا بطريقة “صبيانية” غير واعية وغير متحمّلة للمسؤوليّة، أما الذين وقفوا وقفة جريئة لا ينتظرون لرأيهم ناصراً أو مؤيداً أو جمهوراً أو مطبلاً أو مزمّراً فقد تم “جلدهم” من المجتمع الثوري أكثر مما تم جلدهم من محيط النظام، فصار المجتمع الثوري كالفاقئ عينه بيده، ولكنّ التاريخ سيحفظ المواقف على كثرتها، وحين يقرأ الآتون المواقف والآراء يومها فقط لن يذهب كلام أولئك الذين حاولوا مواجهة المناخ الطائفي هباءً، على حد تعبير ياغي.
المدن 18 أيلول/سبتمبر 2019