جسر – صحافة
لا يملك السجناء شيئاً أكثر من الوقت وهم يمضونه في أحاديث تطول وتتشعب وتتكرر. تبدأ في العادة بالتعارف بالأسماء والانتماء الجغرافي، ثم تنتقل إلى التهمة التي كثيراً ما يجري التعبير عنها بلفظ «الدعوة»، في تحريف عامي لكلمة «الدعوى» الرسمية، وخاصة عندما تشمل عدداً كبيراً من الموقوفين كما هي حال الدعاوى السياسية.
في المرحلة التي شكّل فيها معتقلو السلفية الجهادية أكثرية نزلاء سجن صيدنايا الشهير، في النصف الثاني للعقد الأول من هذا القرن، وتخللها الاستعصاء، عُرفت دعاوى عديدة تُنسب إلى اسم التنظيم، كدعوى جند الشام، أو إلى التهمة كدعوى تفجير المزة، أو إلى أبرز معتقليها كدعوى زكريا عفش، أو إلى محل سكن أصحابها كدعوى عربين.
من النوع الأخير كانت دعوى «دروشا-الطبقة». وقد أخذت هذا الوسم لأن «التنظيم»، الذي كان في طور تشكيله، لم يكن قد تبلور إلى درجة أن يحوز اسماً معتمداً، كما يبدو، وبسبب أنها تكونت من مجموعتين مرتبطتين «تنظيمياً» ولكنهما متباعدتان جغرافياً؛ إحداهما في بلدة دروشا بريف دمشق والأخرى في مدينة الطبقة في محافظة الرقة.
لم تكن المسافة الطويلة ما فصل المجموعتين فقط، بل أشياء كثيرة. فقد تكونت جماعة دروشا من شبكة أقارب، إخوة وأبناء عمومة، من نازحي الجولان السوري المحتل، يقطنون في دروشا غالباً، كانوا يلتقون في جلسات شبه عائلية يتبادلون فيها الأحاديث الجهادية ويشاهدون بعض إصدارات تنظيم القاعدة، أو أمثاله في العراق عبر السيديات. أما جماعة الطبقة فيبدو أنها كانت أكثر انخراطاً في العمل إذ كان بينها بعض من قاتلوا في هذا البلد المجاور بالفعل وتصلبت بنيتهم السلفية الجهادية. ورغم وجود بعض القرابات إلا أن الآيديولوجية كانت العامل الأساس في هذه المجموعة التي كانت كتلتها الأكبر في الطبقة وتصل امتداداتها إلى مدينة الرقة وبعض أريافها.
كي لا يبدو الأمر أكبر مما كان عليه في الواقع يجب أن نقول إن مجموع معتقلي الدعوى، بفرعيها، في صيدنايا كان في حدود 60 أو 65 سجيناً، لكنها كانت ثاني أكبر دعوى فيه بعد جماعة «جند الشام».
على رأس جماعة دروشا برز رجل في النصف الثاني من الثلاثينات، هو أبو ناصر (محمد ناصر ناصر)، عُرف بالاعتدال مقارنة مع نظرائه في السجن، وخاصة في أثناء الاستعصاء الذي ارتفع فيه التشدد. والحق أن اللين النسبي كان سمة عامة في جماعة دروشا، أيضاً بخلاف جناحهم الشقيق الأسود في الطبقة، الذي اتسم عدد واضح من معتقليه بنزوعهم التكفيري منذ ما قبل سجنهم. ولعل هؤلاء هم السبب الذي أتاح للسلطات تصنيف الدعوى على أنها «تكفير وهجرة» عندما ألقى جهاز المخابرات الجوية القبض على متهميها تباعاً في الأشهر الأربعة الأخيرة من 2005.
في أوقات خلو البال نسبياً في سجن صيدنايا، بعد انتهاء التحقيق والتعذيب، وبعد استنفاد حديث الدعوى محاوره الأساسية، كان أبو ناصر، وشقيقه أبو إسكندر (ناصر ناصر ناصر) المتهم معه في القضية نفسها؛ يذكران شاباً صغيراً من أبناء عمومتهما، بالمعنى العريض، استطاع النجاة مستغلاً صلة القرابة ليزعم أمام ضباط وعناصر فرع التحقيق أنها سبب علاقته بالمجموعة التي كان يلتقيها في أوقات متباعدة يقضيها بتدخين الأركيلة فقط، دون اهتمام بما سوى ذلك.
كانت القصة طريفة ورغم أنها هامشية إلا أنها استقرت في أذهان سجناء سمعوها في حال من الفراغ وتبادل السيَر. ولا شك أنها كانت ستمحى مع الزمن لولا أنهم تناقلوا خلال سنة 2013 بعد أن أفرج عن أكثرهم، أن هذا الشاب هو من يلمع نجمه وقتئذ بلقب «أبو محمد الجولاني»!
والحق أن مغادرة أحمد حسين الشرع، وهو اسمه الحقيقي، دمشق إلى العراق إبان الغزو الأميركي، وعودته، بلقبه الجديد هذا، قائداً لجبهة النصرة، في آب 2011؛ قد حجبتا هذه المرحلة من حياته. قبل أن يتبين أنه سافر إلى العراق مرتين، كما ألمح مؤخراً في مقابلته مع الصحفي الأميركي مارتن سميث.
ما يبدو الآن أن الشرع، طالب الإعلام ذي الحادية والعشرين، سافر أولاً إلى العراق في آذار 2003. ومن تجارب مزامِنة نستطيع توقع ما حدث؛ الاستقبال الحماسي للمتطوعين السوريين، تدريبهم على يد الجيش العراقي خلال أيام وتسليمهم بنادق وتوزيعهم على مناطق في بغداد التي ستسقط دون أن يستوعبوا ما حدث وقبل أن يقاوموا، ليلفّهم التيه السياسي والمكاني بعد تبخر ما قد يستندون إليه، باحثين عن العودة إلى بلدهم بطرق مضطربة بين خطوط الأعداء.
أيضاً بالقياس إلى تجارب مماثلة يمكن التوقع أن هذه الرحلة الخائبة لم تطل أكثر من أشهر، عاد بعدها «المجاهدون» السوريون دون أن يجاهدوا، قبل تشكل أو انتشار حركات المقاومة لاحقاً، وهو ما حاولوا فعله في بلدهم، بتشكيل جماعات جهادية صغيرة وغير مترابطة وفاقدة الخبرة في أنحاء مختلفة من البلاد، هدفت إلى تقديم الدعم اللوجستي والمالي وإيصال المتطوعين إلى الساحة العراقية واستقبال الجرحى.
بين هذه البؤر المتكاثرة وقتها يمكن تصنيف جماعتي دروشا والطبقة اللتين يصعب تقدير ما فعلتاه بالضبط في ظل غياب شهادات من داخلهما بعد مقتل أغلب عناصرهما في ظروف مختلفة. وبالطبع تعسُر أكثر معرفة الدور الذي لعبه هذا الشاب الذي ظهر على ضفاف الحكاية التي رويت في السجن. وهنا تختلف ذاكرات شهود ثانويين سمعوها؛ بين من ينسب إلى الشاب، الذي سيصبح الجولاني، دوراً مركزياً في دعوى دروشا-الطبقة، بالربط بين المجموعتين أصلاً وبوصلهما بتنظيم القاعدة في العراق، وبتأمين تمويل عبر متبرعين سعوديين؛ وبين من يرى أن دوره كان هامشياً بالفعل، بالنظر إلى عمره قياساً برؤوسهما، وإلى نجاح خدعته، وهو الأمر الذي لم يكن ليتم لو أفادت الاعترافات بدوره المحوري المفترض، وأخيراً بالنظر إلى تواضع فاعلية المجموعتين وخاصة كتلة دروشا التي ارتبط بها.
ما يهم من الأمر أن الشرع أيقن أن نجاته لن تستمر إلى الأبد فبادر بعد اعتقاله القصير، إلى ترتيب سفره إلى العراق بشكل منظم وفق عرف الجهاديين هذه المرة، مزوداً بتزكية لأمير جماعة «سرايا المجاهدين» في الموصل، والتي سيرتبط بها لأشهر قبل أن يلقي الأميركان القبض عليه ويقضي في السجن نحو خمس سنوات ستنتهي على أعتاب الثورة السورية.
أما دعوى دروشا-الطبقة فسيُقتل بعض أفرادها في أثناء الاستعصاء، ومنهم أبو إسكندر، في حين سينال أبو ناصر حكماً إضافياً نتيجة مشاركته في التمرد، يُضاف إلى الاثني عشر عاماً التي حُكم بها في قضيته الأولى، وما زال سجيناً حتى الآن. في حين تفرقت سبل من خرجوا في سنة 2011 وما بعدها، فسارع التكفيريون منهم إلى الانتساب إلى جبهة النصرة، ثم غادروها دون تردد عند انشقاقها عن «دولة العراق الإسلامية»، ليقدّموا لداعش أبرز قادتها المحليين الذين أعدموا المئات على أقل تقدير؛ أبو لقمان (علي موسى الشواخ) والي الرقة المعروف وأهم سوريّي «الدولة»، وأبو علي الشرعي (فواز المحمد الحسن الكردي) أكثر قضاة الرقة دموية، وأبو صهيب (باسل العبد) الذي لم يقصّر عن إجرام سابقه إلا لأنه تولى «المحكمة الإسلامية» في مدينة أصغر هي الطبقة.
المصدر: تلفزيون سوريا