“قام أفراد عائلتي بتوضيب ممتلكاتهم بعد تغريدة ترامب … واستعدوا للنزوح”، قال عبد المعين، ناشط من الشحيل، دير الزور، في إشارة إلى تغريدة الرئيس دونالد ترامب في ديسمبر 2018 والتي أعلنت عن انسحاب وشيك للقوات الأمريكية من شمال شرق سوريا. كانت عائلته والعديد من الآخرين في المناطق الخاضعة حالياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية يستعدون للنزوح شمالًا بسبب التقدم المتوقع لقوات النظام السوري. بينما هرع آخرون في دير الزور لتخزين الأسلحة، لصد تقدم محتمل من قبل النظام أو لهجمات من خلايا داعش التي من المرجح أن تستغل الفوضى المحدقة. وقد تمكن البنتاجون ووزارة الخارجية الأمريكية منذ ذلك الوقت من إبطاء وتيرة انسحاب القوات الأمريكية وهم يبحثون عن بدائل من دول التحالف لضمان بقاء المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية محمية سواءً من سيطرة النظام أو الغزو التركي.
إن دمار”الخلافة” المزعومة من قبل داعش يجب أن يستدعي إعادة تقييم لما يمكن ويجب أن يسعى الوجود الأمريكي لتحقيقه في هذه المنطقة. في وضع مثالي، سوف تنتهز أطراف الحرب الأهلية السورية الفرصة للتوصل إلى اتفاقية تمهد الطريق لإنشاء حكومة قادرة على حماية ورعاية جميع مواطني البلد. ولكن عناد نظام الأسد الحالي وعجزه عن مواجهة داعش بفعالية يقتضيان استمرار حماية الولايات المتحدة لشمال شرق سوريا والجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار حتى يتم التوصل إلى مثل هذه الاتفاقية. وهذا ليس سيناريو مثالي ولكن تكلفة الانسحاب في هذه المرحلة ستكون كبيرة جداً.
وقد حاولت إدارة أوباما تجنب التورط في الحرب الأهلية السورية، لكن فظائع داعش والتوسع الإقليمي السريع أجبرت الولايات المتحدة على توفير غطاء جوي للميليشيا الكردية وحدات حماية الشعب التي تقاتل التنظيم. فيما بعد، قامت الولايات المتحدة بإرسال مجموعة صغيرة من القوات إلى شمال شرق سوريا لمساعدة قوات سوريا الديمقراطية، والتي أنشأتها قيادة وحدات حماية الشعب، على استعادة السيطرة على الأراضي من داعش. وتحارب هذه المجموعة من القوات الآن خلايا داعش التي لا تزال تعمل في المنطقة. كما تقدم الولايات المتحدة والدول الشريكة دعماً (محدوداً) للمساعدة في بناء قدرات الإدارة المدنية لقوات سوريا الديمقراطية حتى تتمكن من تحقيق الاستقرار في المنطقة وأخذ مسؤولية إنشاء الحوكمة والأمن وتوفير الخدمات على عاتقها، بطريقة يمكن أن تمثل نموذجاً لمستقبل سوريا.
تكاليف وفوائد البقاء في سوريا
الصلة التي رسمها الآن بعض مسؤولي إدارة ترامب بين حماية شمال شرق سوريا ومواجهة إيران جعلت التقدميين يشعرون بعدم الراحة تجاه ما يبدو التزاماً مفتوحاً للحفاظ على وجود في المنطقة. حتى أن البعض دعىبشكلصريح للانسحاب الأمريكي. ولكن فوائد هذه الخطوة ستكون محدودة. بالفعل، من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار المنطقة، يسبب نزوح جماعي، ويوفر فرصاً لعودة ظهور داعش، و يضعضع إلى حد كبير قيمة تقدمية أساسية ألا وهي حماية حقوق الإنسان.
على العكس من ذلك، حتى وجود أمريكي محدود سيحقق الاستقرار في المنطقة ويسمح بمواصلة القتال ضد خلايا داعش النائمة. إن إبقاء الشمال الشرقي بعيداً عن متناول النظام الحالي سيضمن أيضاً احتجاز أعضاء مشتبه بهم من داعش من قبل قوات لن تطلق سراحهم لتحقيق غايات سياسية، كما فعل نظام الأسد مع الجهاديين في سجون النظام أثناء حرب العراق وفي عام 2011، عقب اندلاع الثورة السورية. مثل هذا الوجود سيؤكد أيضاً التزام واشنطن نحو قوة حليفة فقدت أكثر من 11000 مقاتل في الحرب ضد داعش، مما سوف يعزز مصداقية الولايات المتحدة المزعزعة في المنطقة.
مصير شمال شرق سوريا في حال انسحبت الولايات المتحدة الآن
والأهم من ذلك، ربما، بالنسبة للتقدميين، أن هذه الحماية ستمنع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تنتظر ملايين السوريين الذين يعيشون تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في حال عودة نظام الأسد أو الغزو التركي. ودمشق غير مستعدة لتقديم أي شكل من أشكال الحكم الذاتي للأكراد أو المجتمعات الأخرى في شمال شرق سوريا. قال لي مسؤول كردي ذو رتبة عالية، يشارك في مفاوضات مع النظام : “إنهم يطالبوننا بالاستسلام”. وخير مثال على ذلك، الجنوب السوري الذي استعاده النظام جزئياً من خلال صفقات “المصالحة”، وهو الخيار نفسه الذي يتم عرضه الآن على قوات سوريا الديمقراطية.
منذ أن حصلت “المصالحة” في الجنوب السوري، تم اعتقال المئات من السكان واختفوا في مجمعاتسجونالنظامالضخمة. وقد تم بالفعلتعذيببعضهمحتىالموت. كما تم إلقاءالقبضعلى اللاجئين الذين عادوا إلى المنطقة، على الرغم من القيام “بالمصالحة” مسبقاً. وقد قدم الروس، المشاركين في المفاوضات مع المعارضة المسلحة الجنوبية والآن مع قوات سوريا الديمقراطية، ضمانات لقادة من المتمردين الذين تعاونوا معهم. و تم السماح لبعض الفصائل “المتعاونة” بالاحتفاظ بأسلحتها الخفيفة والحفاظ على شكل من أشكال الحكمالذاتيالمحليالمحدودجداً، بينما تم اعتقالأو اغتيالآخرين من الذين انضموا إلى صفوف النظام.
وتشير المحادثات مع السكان المحليين خلال زياراتي مؤخراً لشمال شرق وشرق سوريا إلى أن العديد منهم سيحاولون الفرار إلى كردستان العراق في حال وقوع المنطقة في أيدي النظام، وخاصةً أولئك المرتبطين بـقوات حماية الشعب والإدارة المدنية، النشطاء والمقاتلين الأكراد والعرب المناهضين للنظام، وأولئك الذين تعاونوا مع الحكومة الأمريكية مثل موظفي المنظمات غير الحكومية. كما سيحاول بعض المدنيين العاديين، وخصوصاً المؤيدين للحكم الذاتي والحقوق اللغوية الكردية، الفرار أيضاً – لقد تعهدوا بعدم قبول العيش دون حقوق ثقافية ووطنية أساسية، كما فعلوا في ظل نظام البعث. هكذا هروب جماعي من شأنه أن يؤدي إلى أزمة إنسانية كبيرة وزعزعة استقرار حكومة إقليم كردستان، التي تتعامل بالفعل مع أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين والعراقيين النازحين داخلياً.
ومن جانبها هددت أنقرة مراراً وتكراراً بغزو الشمال الشرقي السوري للتعامل مع ما تعتبره تهديداً نابعاً من منطقة خاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وهو تنظيم للمقاتلين الأكراد يعمل في تركيا. إزالة الحماية الأمريكية من الشمال الشرقي قد تؤدي إلى حدوث مثل هذا الغزو. حيث أدت العمليات التركية ضد وحدات حماية الشعب في عفرين التي كانت ذات أغلبية كردية، إلى نزوح جماعي وتغيّرديموغرافيوانتهاكاتيوميةلحقوقالإنسان.و تقع جميع المراكز السكانية الكردية الرئيسية في سوريا على طول الحدود التركية، وقد أخبرني مدنيون هناك، بمن فيهم المعارضون الحازمون لحزب الاتحاد الديمقراطي، أنهم سوف يحملون السلاح لمحاربة مثل هذا الغزو.
توفر حماية الولايات المتحدة للشمال الشرقي السوري قوة ضغط وتأثير
قد يعني الانسحاب من الشمال الشرقي فقدان سيطرة القوات المدعومة من الولايات المتحدة على ثلث الأراضي السورية و80٪ منمواردهاالطبيعية، مما يلغي التأثير القليل المتبقي لواشنطن في رسم مشهد ما بعد الحرب. وكان نظام الأسد حتى في أضعف حالاته، غير مستعد للتفاوض بجدية مع المعارضة. والآن بعد أن شعر بالثقة والانتصار، فمن غير المرجح أن يلبّي أي مطالب غربية للإصلاح أو التنحي. ولكن مع مرور الوقت قد يقوم بتغيير حساباته. وإن الحفاظ على العقوبات ضد النظام (وتعديلها بسرعة حيث يقوم بتصنيع شخصيات جديدة “نظيفة” للالتفاف حولها) إلى جانب الوجود الأمريكي متوسط الأمد في الشمال الشرقي الغني بالنفط قد يخلق صدامات داخلية داخل صفوف النظام العليا. و يمكن للغرب أن يستغل عدم الاستقرار هذا للضغط من أجل إجراء إصلاحات في الدولة المركزية، وعلى وجه الخصوص توفير شكل من أشكال الفيدرالية، الأمر الذي سيفيد جميع المجتمعات السورية.
إن السماح لنظام الأسد بالبقاء في السلطة دون إصلاحات جوهرية سيضمن أن ملايين السوريين لن يعودوا إلى وطنهم بإرادتهم، وسيظل الملايين الذين بقوا في الداخل يعيشون في ظل دولة بوليسية مرتابة، فاسدة وحتماً ضعيفة – غير قادرة على وضع حد لمعاودة ظهور داعش (والمعارضة المسلحة) في المناطق الخاضعة لسيطرتها اسمياً.
لكي تتحقق سياسة تقدمية في سوريا، يجب عليها أن تولي أهمية كبيرة لظهور نظام تعددي في الشمال الشرقي. وقد ركزت السياسة الأمريكية حتى الآن، والتي تم اتخاذها إلى حد كبير من خلال وزارة الدفاع، على مواجهة داعش ولم تعط أولوية للتعددية والتمكين السياسي الحقيقي لمجتمعات المنطقة. مثل هذا النظام سيحمي حقوق الإنسان للسكان، ويسمح بعودة اللاجئين – الذين يمتنع بعضهم عن العودة بسبب التجنيد الذي تفرضه قوات سوريا الديمقراطية والخوف من الاضطهاد السياسي – كما سيعمل كبديل واضح لنظام الأسد.
فوائد محدودة للانسحاب
يوفر الانسحاب الأمريكي في الوقت الحاضر فوائد قليلة. في حين أن الوجود الأمريكي في سوريا يعرض القوات الأمريكية لخطر أكبر من قبل هجمات داعش، فإن الاحتفاظ بهذه القوات في الشمال الشرقي سيعيق قدرة داعش على إعادة بناء نفسها. وقد كان شرق سوريا، وبالتحديد دير الزور، مخزوناً رئيسياً لمجندي داعش المحليين. و تشير المقابلات التي أجريت مؤخراً مع أشخاص من جميع أنحاء دير الزور إلى أن التنظيم لا يزال تتمتع ببعض الدعم في المناطق الريفية، مما يوفر ملاذاً وقاعدةً للعمليات.
قد يقلل الانسحاب الأمريكي من التوترات مع إيران، لكن استعداد الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات وتزويدها بمجال نفوذ في المنطقة خلال فترة إدارة أوباما لم ينتج عنه سوى توسع إيراني أكبر وانتهاكات لحقوق الإنسان، خصوصاً في سوريا. وسيكون انسحاب الولايات المتحدة مرضياً لأنقرة، ولكن وجود علاقة وثيقة مع الرئيس رجب طيب أردوغان ذو العداوة المتزايدة تجاه الغرب سيعود بفائدة مشكوك بها للأمن القومي الأمريكي. كما أن الإصلاح السياسي الذي من شأنه أن يقلل من هيمنة حزب الإتحاد الديمقراطي في إدارة شمال شرق سوريا سوف يساعد أيضاً على تهدئة المخاوف التركية من استقلالية المنطقة.
خاتمة
إن تاريخ الدعم الأمريكي للفصائل المتمردة في الحروب الأهلية هو إلى حد كبير تاريخ من الفشل، ومواجهة كل انتهاك كبير لحقوق الإنسان بالتدخل العسكري قد يؤدي إلى حروب لا نهاية لها. ومع ذلك، فبعد تدخلها في سوريا، تمتلك الولايات المتحدة نفوذاً ومسؤولية على عاتقها على حد سواء. ويمكن للولايات المتحدة الاستفادة من نفوذها للضغط على نظام الأسد لإقامة إصلاحات ستفيد جميع السوريين. وعلى التقدميين أن يعترفوا بالمسؤولية الأخلاقية لأمريكا في حماية أولئك الذين قاتلوا لإزالة داعش من مناطق شاسعة من سوريا، وقد يتم سحقهم من قبل تركيا أو نظام الأسد أو كلاهما في حال أزالت الولايات المتحدة حمايتها عن المنطقة.
اليزابيث تسوركوف باحثة مهتمة بشؤون سوريا والعراق في مركز الدراسات الإسرائيلي-الفلسطيني منتدى التفكير الإقليمي وطالبة دكتوراه في جامعة برينستون الأمريكية في مجال العلوم السياسية.