عمر قدور
فور دخول مقاتلي الجولاني عفرين أبلغوا النساء في بعض المرافق العامة، ومنها المستشفيات، أن يراعين ارتداء “الحجاب الشرعي” وفق نموذج هيئة تحرير الشام. التباين بين الهيئة والفصائل الأخرى لا يقتصر بالطبع على نوعية الحجاب وحجم قطعة القماش المفروضة، فهناك تأويل مختلف لما هو “حرام”، ولدرجة إلزاميته والتشدد في تطبيقه. هناك أيضاً ما هو معلن كتعليمات، وما هو معمول به وأخذ صفة الإلزام خارج التعليمات، وبحيث تظهر الأخيرة أحياناً متساهلة بالمقارنة مع سلوك ورغبات السكان الخاضعين لتلك التنظيمات.
إذا شئنا بعجالة تصنيف الفصائل في الشمال السوري، فهي تتدرج من الأكثر تشدداً وهي هيئة تحرير الشام “النصرة سابقاً”، مروراً بفصائل محسوبة على التيار الإخواني، وهنا ينبغي التمييز بين النموذجين الجهادي والإخواني، وأخيراً الفصائل الأقل عدداً التي يمكن نسب إسلاميتها إلى ما يُعرف بالإسلام الشعبي، غالباً بكثير من التجني على الأخير المسالم بطبعه. كل فصيل من هذه الفصائل في مكان سيطرته يحكم وفق رؤيته الإسلامية الخاصة، ليكون التدرج مجازياً “وواقعياً” بين غطاء للرأس والنقاب، وليُعتبَر إعفاء كرديات بقين في عفرين من الحجاب إنجازاً على صعيد الحريات والتسامح تتباهى به تلك الفصائل وأنصارها.
استخدامنا المجازي للتدرج في الحجاب بين مختلف الفصائل هو كناية عن اختلافها في الدرجة، وهذا هو فحوى التصنيف الدارج لفصائل معتدلة وأخرى متطرفة، وعدم وجود فصائل خارج التصنيف الإسلامي. لسنا هنا بصدد مناقشة ما إذا كانت الفصائل المعنية تستخدم الإسلام ببراغماتية سياسية، أو كمشروع أيديولوجي وعن قناعة حقيقية، فالنتائج على الأرض متشابهة جداً وواضحة. أيضاً لسنا بصدد التمييز بين تلك الفصائل من زاوية أن المتشددة منها تخدم بقاء الأسد، لتكسب تلك “المعتدلة” حسنةً بدلالة الأسوأ لا بدلالة ما هي عليه فعلاً، تحديداً بما هي عليه سلطتها على السكان. أنصار “الاعتدال” من هذه الزاوية، التي تبدو بديهية تماماً، يعتبرون معاناة السكان الخاضعة لتلك الفصائل شأناً ثانوياً، أو لا أولوية له إلى جانب المعركة الكبرى ضد الأسد.
بالعودة إلى ما قبل الثورة؛ كانت هناك ثلاث دوائر رئيسية تحكم السوريين عموماً؛ القانون، الدين، الأعراف. لم تكن هناك ثقافة حقوقية شائعة، إلا أن المآخذ العامة على القوانين كانت مرتبطة بالتسلط على القضاء وإفساده، وقلة من المهتمين أو الحقوقيين كانت لها مطالب بتطوير بعض القوانين لتصبح أكثر عصرية، أو أكثر مواءمة لشرعة حقوق الإنسان. بعبارة أخرى، لم يطالب أحد بثورة ضد القوانين، بل كانت “ثورة الحرية” تتضمن بديهياً المطالبة بدولة يسودها القانون بدل العسكر والمخابرات.
من المفهوم أيضاً أن الاستهداف الوحشي للمناطق الثائرة آنذاك، وموجات التهجير المتتالية، قد قضت على مجتمعات محلية بأكملها، وقضت على ما يتصل بها من أعراف لن تكون هي ذاتها في أمكنة جديدة، ومع آخرين آتين من مجتمعات محلية لها تمايزها أيضاً. بتدمير المجتمعات المحلية انتهت ما يمكن أن نسميها “سلطة العيب”، وهي سلطة عرفية يومية تختلف من مجتمع محلي لآخر، وكان لها تأثير قد يفوق أحياناً سلطة التحريم “الدين”، أو سلطة القانون “الدولة”.
مع “المناطق المحررة” خلصت التجربة إلى مجتمعات هجينة، بلا أعراف، فلا يمكن مثلاً التحدث عن أعراف مشتركة بين مهجري الغوطة الذين تم توطينهم في عفرين ومَن تبقى من الأكراد، ولا يمكن أصلاً الحديث عن أعراف مشتركة بين العرب أنفسهم أو بين الأكراد. لم يعد هناك عيب، ولم يعد هناك قانون في هذه المناطق؛ ثمة فقط سلطة التحريم بدرجاته، ما هو مصنف منها تشدداً أو اعتدالاً. إن هيمنة هذه الفصائل، واحتكار كل فصيل لنفسه سلطة التحريم والتحليل، تعني أن كل فصيل من خلال هذه السلطة يحتكر الدور المفترض لدولة “القانون”، والنطق كممثل حصري للدين، ومصادرة دور المجتمع وأعرافه استكمالاً لتدميره من قبل الأسد.
كان للمعارضة بشقّها السياسي دورٌ في التغطية على هذا التحول، حتى من خلال اعتمادها “القانون العربي الموحد”، بصرف النظر عن عدم وجود سلطة لها على الفصائل الحاكمة. حركة أحرار الشام كانت قد أعلنت في حزيران2017 تطبيق القانون المذكور في محاكمها، من دون أن نحظى بمعرفة من هم الذين سيطبقون القانون، وما إذا كانوا مؤهلين للعمل كسلك قضائي فعلي. موقع هيئة الشام الإسلامية، من مكونات المجلس الإسلامي السوري، يعطينا إجابة غير مباشرة من خلال ريبورتاح نشره في حينه، إذ استطلع آراء ثلاثة مشايخ أثنوا على القانون!
في الريبورتاج ذاته، كان هناك ذمٌّ للقوانين السورية المعمول بها سابقاً، بوصفها قوانين أسدية، من دون شرح يبرر ذلك الوصف سوى الحديث عن محسوبيات وتسلط مخابرات وجيش، ما يعني الخلط بين نصوص القوانين وآليات تطبيقها. الأهم في هذا السياق هو القفز على كون تلك القوانين نتاج جهد حقوقيين سوريين، مع الاستفادة من قوانين عالمية وعربية، بما فيها الاستفادة من اجتهادات رافقت تطبيق النصوص هنا أو هناك. وما يثير السخرية أن هؤلاء المشايخ يتجاهلون مشاركة حقوقيين سوريين، منتدبين من الأسد حسب تأويلهم، في صياغة القانون العربي العتيد الذي أثير حول تطبيقه أكثر مما وجد طريقه إلى التنفيذ.
على أي حال، ليس هناك قوانين ونظام قضائي موحدين في “المناطق المحررة”، والتعامل مع قضايا التقاضي ورثَ كافة مساوئ الأسد من حيث المحسوييات وتسلط العسكر، فضلاً عن احتكار سلطة التحريم وتفصيل “الحرام” على أهواء الفصيل المسيطر. الحل البسيط البديهي، لو كانت النوايا سليمة، هو اعتماد القوانين السورية، الجزائية والمدنية والخاصة بالأحوال الشخصية، مع تقديم مثل جيد على حسن تطبيقها، لأن المشكلة مع الأسد هي في سوء التطبيق. وهذا الحل يبقى مشروعاً لأنه يحافظ على واحدة من الروابط بين السوريين، طالما أن الذين ثاروا لم يقدِّموا نموذجاً قانونياً أرقى من حيث النصوص والتطبيق.
ما سبق ينطبق أيضاً على المنهاج التعليمي، فالمشكلة مع المنهاج المعتمد لدى الأسد، والموضوع من قبل مختصين سوريين، ليست في مناهج مثل الفيزياء والرياضيات واللغات…إلخ. هي في مقررات موضوعة للتربية البعثية والأسدية، وكان يمكن الاكتفاء بالاستغناء عنها، وحتى تطوير بعض المقررات “التقنية” إذا توفرت الخبرات اللازمة لذلك. فضلاً عن الحفاظ على ما هو مشترك بين الأجيال الناشئة من السوريين، كان ذلك سيوفر على الأهالي في “المناطق المحررة” مشقة الحيرة في اختيار ما هو مناسب لأبنائهم، حيث يعمد بعض الأهالي إلى تعليمهم المنهاج التركي إلى جانب المقرر من سلطة الأمر الواقع، ويعلّم البعض الآخر إلى جانب الأخير المنهاج المعتمد لدى الأسد تحسباً من العودة إلى سيطرته.
لم يفت الأوان، رغم مضي عشر سنوات على تجربة هذه المناطق، كي تنهي السلطات فيها حالة الفوضى القانونية والتعليمية. وإذا كانت تتطلع حقاً إلى إعادة توحيد سوريا يوماً فمن الأولى أن تحافظ على المشتركات مع النسبة الأكبر من السوريين الواقعين تحت حكم الأسد. ثمة قول يُنسب لتشرشل تارة، ولديغول تارة، مفاده أن البلد بخير عندما يكون القضاء والتعليم بخير. شيوع هذه المقولة له دلالة واضحة، وإذا كنا لا نستطيع التأكد من قائلها فإننا نستطيع التأكيد على أن البلدان لا تُدار بمشايخ يقولون هذا حرام وذاك حرام، والثورة على النظام الإيراني فيها درس للمعتدلين قبل المتشددين.
المصدر: المدن