وكان قرار مشابه قد صدر عن رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، بضغط أميركي أيضاً، ولم يدخل حيّز التنفيذ.
ومع ذلك، يبدو أن الأمر مختلف هذه المرة بالفعل، إذ أن المؤشرات التي رصدتها “المدن” داخل العراق عقب صدور القرار وردود الفعل عليه، توحي أن هناك توجهاً عاماً نحو تطبيقه، على الأقل شكلياً، فالأمر لا يتعلق هذه المرة بمجرد ضغوط روتينية أميركية، بل بمطالب حازمة.
منذ إعلان الرئيس دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، وتجديده العقوبات الاقتصادية عليها، وارسال قوات وقطع عسكرية إضافية إلى الخليج العربي، بدأت التحذيرات تتصاعد من ردود فعل مليشيات “الحشد الشعبي” المنتشرة في العراق وخارجه.
مطلع أيار 2019 تعرض محيط السفارة الأميركية في بغداد لقصف بقذائف الهاون، وبعد ذلك نشرت وسائل إعلام مقربة من إيران سيناريوهات مختلفة للردود المحتملة من جانب قوات “الحشد الشعبي” ضد التهديدات الاميركية لإيران. تلك التطورات كانت محل بحث وزير الخارجية الأميركية في زيارته لبغداد.
الأخطر هنا، بحسب مصادر “المدن” العراقية، إن قرار رئيس الوزراء العراقي الأخير باغلاق مقرات “الحشد”، كان بسبب الهجوم الذي تعرض له حقل نفط سعودي قبل أيام، بطائرة مسيرة. إذ أشارت المصادر إلى إن الولايات المتحدة أكدت مسؤولية إحدى مليشيات “الحشد الشعبي” عنه، وإن واشنطن قدمت لبغداد الصور والاحداثيات التي تثبت خط سير الطائرة المسيرة التي نفذت الهجوم. ولا تكمن خطورة الهجوم بالأضرار التي خلفها، بل في الرسائل التي حملها حول قدرات واستعدادت “الحشد الشعبي” في الانخراط بأي مواجهات محتملة بين إيران وخصومها، خاصة بعد اتفاق مصادر متعددة على أن إيران زودت بعض فصائل “الحشد”، خاصة مليشيا “عصائب أهل الحق” التي يقودها قيس الخزعلي، بترسانة صواريخ متعددة الوظائف.
وسائل إعلام ممولة إيرانياً أشارت إلى أن إستراتيجية المليشيات الإيرانية المسلحة لاستهداف المصالح الأميركية في العراق، تتراوح بين، قصف صاروخي على التجمعات الأميركية كالسفارة أو القواعد والمعسكرات. والكمائن ضد القوافل الأميركية في مختلف المحافظات خاصة غير المتوقعة؛ أي المحافظات الشمالية والغربية. وخطف رعايا أميركيين، وذلك مع تطور المواجهة، وبلوغها حداً كبيراً من التصعيد.
استراتيجية أكدها قادة في “الحشد” اتصلت بهم “المدن”، ورغم تحفظهم الشديد، إلا أنهم أضافوا عليها باعتداد كبير، سيناريوهات أخرى “أكثر إيلاماً لواشنطن وحلفائها، وأقل تكلفة في الوقت نفسها”. ويرى هؤلاء القادة اليوم أن لدى “الحشد” القدرة والامكانات ما يكفي لجعل العراق أرضاً مستحيلة على الاميركيين، إذا ما قررت واشنطن إلحاق الأذى بإيران، وأن كل ما يحتاجونه هو فقط تلقي الأوامر والتعليمات من قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني، المشرف على تدريب وتسليح “الحشد الشعبي”.
حساب الامكانات التي يملكها “الحشد الشعبي” كان قائماً أساساً من قبل خصوم إيران، حتى من دون نشر هذه السيناريوهات أو الإدلاء بأي تصريحات من قادته بهذا الخصوص. فالربط بين سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” 2014، على الموصل والانبار، وبين تأسيس “هيئة الحشد الشعبي”، دقيق تاريخياً، لكنه لا يأخذ بالاعتبار تاريخاً مديداً من العمل الإيراني على انشاء ودعم مليشيات عسكرية في المنطقة بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص. وتستخدم طهران تلك المليشيات لتكون أذرعها الفعالة في تحقيق استراتيجية نظام الملالي، على مستوى التمدد خارج الحدود، كما جرى طيلة فترة العقود الماضية التي تلت الحرب مع العراق، أو إن كان على مستوى الردع، كما تأمل حالياً إيران في آخر حلقات التوتر مع الخليج وأميركا.
وعند الحديث عن العراق فإن الأمر لا يتعلق فقط بالفترة التي تلت سقوط نظام صدام حسين أيضاً، بل يعود إلى ما قبل ذلك، حين أسست بعض الأحزاب الشيعية المعارضة مليشيات عسكرية نفذت عمليات كثيرة في عقدي الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي، بالاعتماد على الاحتضان والدعم الإيراني. لكن الانفجار في عدد التنظيمات والقوى العسكرية الشيعية، حصل بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتحديداً مع نشوب الحرب الطائفية في البلاد عام 2006.
ورفعت تلك القوى، التي كان كثير منها يمثل أذرعاً عسكرية للأحزاب السياسية الشيعية، شعار مواجهة تنظيم “القاعدة” وحماية الأماكن المقدسة، بينما أضاف بعضها الآخر إلى برنامجه مقاومة الاحتلال، لكن جميعها تقريباً في النهاية ارتبط بإيران، كمرجعية عقائدية، ومن حيث التدريب والتسليح. وبذلك، جاء تنظيم “الدولة” وسيطرته على مساحات واسعة من العراق، وتهديده العاصمة بغداد، كنقطة تحول في تاريخ هذه المليشيات، التي تضاعف عددها وأصبحت تمتلك شرعية سياسية داخل الدولة العراقية التي بدأت بتمويلها.
من أصل 70 مليشيا شيعية يتكون منها “الحشد الشعبي”، 5 فقط ترتبط بمرجعيات عراقية. وباستثناء “سرايا السلام” التي تتبع للتيار الصدري، فجميع المليشيات خاضعة لـ”مجلس الأمن القومي” الإيراني عبر “فيلق القدس”، الذي يشرف على تدريبها وتسليحها. وقد خضعت المليشيات لعمليات توحيد ودمج متعددة خلال الأعوم الخمسة الماضية، لتبرز منها في النهاية 5 فصائل هي: “حزب الله العراقي”، و”عصائب أهل الحق”، و”حركة النجباء”، و”سرايا السلام”، و”كتائب الإمام علي”، و”فيلق بدر” و”لواء أبو الفضل العباس”.
الدمج المستمر بين الفصائل الكبيرة والصغيرة، والذي شجعت عليه القيادة الإيرانية، يختلف تماماً عن الحديث عن دمج مقاتلي هذه الفصائل في أجهزة الدولة العسكرية والأمنية. وترفض طهران تماماً هذا الخيار، وتفضل الحفاظ على “الحشد الشعبي” كهيئة مستقلة رديفة لمؤسسات الدولة الرسمية، وهو ما آمنت به القيادة الإيرانية منذ سيطرتها على الحكم عام 1979، بتكريسها الاعتماد على القوات غير الرسمية والعقائدية.
ولهذا، رفض العديد من قادة فصائل “الحشد الشعبي” الدعوات لدمج مقاتليهم في مؤسسات الدولة، وآخرها ما جاء تعليقاً على قرار رئيس الوزراء الأخير، إذ رفض قيس الخزعلي قائد “عصائب أهل الحق” أي حديث عن دمج “الحشد”، بينما لم يتوان آخرون عن اعتبار هذه الدعوات مؤامرة على “الحشد”.
صدور فتوى من المرجعية العراقية الشيعية علي السيستاني، في أيار، بالتزام الحياد في الصراع بين ايران وخصومها، لا يبدو مؤثراً، وكذلك محاولات الحكومة المتواصلة لدمج “الحشد” بالجيش والأجهزة الأمنية. قادة “الحشد” الذين تحدثت معهم “المدن”، أكدوا أن ذلك لن يغيّر من واقع الأمر شيئاً، بل سيكون إجراءً شكلياً لن يؤثر كذلك على إرادة الجماعات العسكرية بمناصرة إيران مهما كان الثمن.
ويعرف خصوم إيران هذه الحقيقة تماماً. لذا فهم يعملون، إلى جانب الضغط على الحكومة في بغداد، على إجراءات احترازية كنشر منظومات دفاع ومراقبة جوية على الحدود، كما فعلت السعودية. أو توجيه تهديدات بالرد العنيف، كما فعل وزير خارجية الولايات المتحدة حين أبلغ الحكومة العراقية في زيارته الأخيرة لبغداد بأن الولايات المتحدة ستعتبر أي اعتداء من “الحشد” ضد مصالحها، اعتداء إيرانياً رسمياً، سيتم الرد عليه باستهداف مواقع “الحرس الثوري” مباشرة، ومقرات ومعسكرات “الحشد”.
ولذا، يبدو قرار رئيس الوزراء العراقي باغلاق مقرات “الحشد”، محاولة لتجنب هذا السيناريو، فيما لو اندلعت المواجهة المفترضة.