عبد الباسط سيدا
يُقال إن رجلاً كان يعاني من اضطرابات نفسية عميقة، إلى درجة أنها أوصلته إلى حد الاعتقاد بأنه ليس سوى حبّة قمح، فامتنع عن الخروج من البيت خوفاً من أن يلتقطه الدجاج ويأكله. ومع الوقت، تراجعت صحّة الرجل، وباتت سلوكياته تشكل عبئاً على أهله، فأخذوه إلى الأطباء والمصحّات، علّه يشفى من مرضه الصعب. وفي نهاية المطاف، تمكّن طبيبٌ مختصٌّ من تقديم العلاج المطلوب له، وأقنعه بأنه إنسانٌ وليس حبّة قمح، ففرح صاحبنا، وشكر الطبيب، وتوجّه نحو الباب ليتواصل مع العالم الخارجي. وفي لحظة الفرح هذه، عاد صاحبنا مسرعاً إلى طبيبه، ليقول: حسناً نجحت في إقناعي بأنني لست حبّة قمح. ولكن هل أقنعت الدجاج بذلك حتى لا يلتهمني؟ فأدرك الطبيب والأهل بأنهم ما زالوا في المربع الأول.
ما ذكّرني بهذه الحكاية ما يدور راهناً من جدل بين المتفائلين والمتشائمين بالاتفاق السعودي الإيراني، فالنهج الذي اعتمدته إيران، وما زالت تلتزمه، منذ أكثر من أربعة عقود، قديمٌ مستمرٌّ في تاريخ المنطقة. وهو نهج استغلال المذهب ورفع الشعارات الكبرى (تحرير بيت المقدس والوحدة الاسلامية…) في عمليات التجييش، وتسويغ النزعة التوسّعية في الجوار الإقليمي، لإشغال الداخل وتحويل انتباهه نحو الخارج، وقمع أي رأيٍ مخالفٍ، بحجّة أن مستلزمات الاستعداد لمواجهة قوى الاستكبار العالمي لا تتحمّل أي نقد أو تشتت في الطاقات.
كان تعاطف شعوب المنطقة، خصوصا العربي، في ذروته مع بدايات “الثورة الإسلامية” في إيران، وشمل معظم التيارات السياسية، بما فيها اليسارية. وكان الأمل أن المنطقة ستشهد مرحلة جديدة على صعيد التوازنات والاستقرار والنهوض. ولكن سرعان ما تبين أن الآمال المعقودة كانت متفائلة أكثر من اللازم، خصوصا بعد أن تمكّنت التيارات المتشدّدة من السيطرة على الأوضاع في الداخل الإيراني، وغيبت بمختلف الأشكال سائر المنافسين والخصوم المحتملين عن دائرة النفوذ وإمكانية التأثير.
ومع بدايات الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) توثقت العلاقات بين نظام حافظ الأسد في سورية والنظام الإيراني، وتطوّرت بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في ظل الاجتياح الإسرائيلي، وتشكيل حزب الله عام 1982؛ وتسليم الأخير بصورة حصرية “ملفّ المقاومة”، بجهود تنسيقية مباشرة بين أجهزة النظامين. ولكن ما يسجّل لحافظ الأسد، كما هو معروف، أنه كان يعطي التوازنات الإقليمية والدولية الاهتمام المطلوب الذي يستوجبه مشروعه، وهو الأمر الذي أدّى إلى التزام التمدّد الإيراني في لبنان وسورية بالخطوط التي رسمها هو، وبما يتناغم مع توجّهه نحو القيام بمهام قوة إقليمية مؤثرة؛ سيما بعد إخراج مصر من المعادلة على إثر اتفاقيات كامب ديفيد عام 1980؛ والضربة التي تعرّض لها لاحقاً نظام صدّام حسين في العراق بعد احتلاله الكويت 1990، والحملة الدولية التي أدّت إلى إخراجه منها عام 1991؛ وهي الحملة التي حرص الأسد الأب على الاشتراك فيها بقوات سورية، ليضمن لنظامه موقعاً في لعبة المعادلات الإقليمية الدولية في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
ولكن الذي حصل في مرحلة وارث الجمهورية بشّار الأسد عام 2000 أن السياسة التوازنية مع النظام الإيراني تراجعت إلى درجة التلاشي، فبات هذا الأخير هو المهيمن على لبنان، خصوصا بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري عام 2005 والتحقيقات الدولية التي كانت (تقرير ميليس مثلا)، والصفقات لتحميل حزب الله المسؤولية من دون سلطة بشار الأسد. وتعمّقت العلاقات بين النظامين في أثناء تعاونها في جهود تفجير الوضع العراقي بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، لقطع الطريق أمام نظام وطني عراقي مستقرّ، يطمئن سائر المكونات العراقية، ويضمن الأمان لمواطنيه، ويفتح الآفاق أمام نهضةٍ اقتصاديةٍ تستمد مقوّمات استمراريتها من إمكانات العراق الاقتصادية الكبيرة، الأمر الذي كان من شأنه أن يحوّل العراق إلى نقطة ارتكاز لاستقرار إقليمي، ومقدّمة لتحوّلات إصلاحية في مجتمعات المنطقة ودولها، وفي مقدمتها سورية وإيران بطبيعة الحال. وتواصل التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة والمجتمع في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، سيما في مرحلة انطلاقة ثورات الشعوب التي تعرّضت للإجهاض من القوى المتضرّرة وبموجب اعتبارات متباينة.
تسبّب هذا الواقع المضطرب الذي تعيشه منطقتنا منذ عقود طويلة في استنزاف الطاقات والموارد، وزعزعة الأمن والاستقرار. والحل الأفضل لتجاوز هذا الواقع هو الركون إلى عقلية تصالحية منفتحة، تحترم الآخر المختلف على صعيد الانتماء الديني والمذهبي والقومي، وكذلك على صعيد الجنس والفكر والرأي؛ وتركيز الاهتمام على تبادل المنافع لصالح شعوب المنطقة. وسيساعد مثل هذا الأمر على الاستقرار والتقدّم، ويفتح الآفاق أمام إقليمنا ليتحوّل من منطقة مجابهات وتصفية حسابات إلى جزء فاعل من المجتمع الدولي؛ يؤدّي دوره في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تهدّد البشرية راهنا، ومنها: تحدّيات المرض والفقر والجهل والمخدّرات والبيئة وغيرها. وحتى تكتسب هذه العقلية المصداقية، وتكون ذات جدوى، لا بد من وجود قرائن ومعطيات ملموسة تؤكّد أن المصالحات والتحوّلات التي يجري ترويجها هي حصيلة المراجعات والاعتراف بالأخطاء، والوصول إلى قناعاتٍ تشكلت بفعل الإحساس بالمسؤولية تجاه حاضر المنطقة ومستقبل أجيالها المقبلة.
لقد أثار الاتفاق السعودي الإيراني موجة من التفاؤل بإمكانية توصل القوى الأساسية في المنطقة إلى مشتركاتٍ تفتح الطريق أمام توافقاتٍ تمهّد الطريق لحل مشكلات المنطقة، وهي المشكلات الناجمة عن خلافات القوى المعنية وصراعاتها ومشاريعها المتناقضة، ولكن هذا الاتفاق أثار، في الوقت ذاته، الهواجس الخاصة باحتمال التوافق الثنائي بين الدولتين بشأن أولويات كل طرف، الأمر الذي من شأنه إتاحة الفرصة أمام الجانب الإيراني للاستمرار في مشاريعه التوسّعية التي ترتكز على إجراء تغييراتٍ في البنية الداخلية لمجتمعات المنطقة من خلال التغلغل إلى مفاصل أجهزة دولها ومؤسساتها. وما يعزّز هذه الاحتمالية هو عدم وجود أوراق عربية قوية ضاغطة، كان من شأنها التأثير على الموقف الإيراني، والحدّ من اندفاعاته. وما يضعف الموقف العربي أكثر عدم وجود استراتيجية عمل عربية مشتركة فاعلة، تقوم على موقف موحّد متماسك، وإنما الذي يظهر لا يتجاوز حدود خطط خاصة بكل دولة، بناء على حساباتها وأولوياتها. ورغم الجهود الساعية من أجل بلورة معالم موقف عربي مشترك في مواجهة التحدّيات، يلاحظ أن الأولوية تبقى للخطط والسياسات الخاصة بكل دولة على حساب العمل العربي العام الجدّي المشترك.
وبناء على ما تقدّم، نرى أن حملة التسابق بين بعض الدول العربية على تطبيع العلاقات مع سلطة بشار الأسد من دون اشتراطات واضحة، وفي غياب أو تغييب لافت للمرجعيات الدولية، وعدم وجود آليات واضحة ملزمة، وخطّة عمل متكاملة تحدّد مراحل الحل، وتبيّن المهام والخطوات التي لا بد أن تتحقق في كل مرحلة قبل الانتقال إلى المرحلة التي تليها، وصولاً إلى الحل الشامل؛ بناء على ذلك كله وغيره، لن يستفيد الشعب السوري، الذي يقول الجميع إنهم يتفهمون مطالبه ويتعاطفون معه في محنته، من عملية تعويم سلطة الأسد.
أما الاكتفاء بجمل عامة توحي بدلالات وتفسيرات كثيرة قد تصل إلى حدّ التناقض، فهذا أمر قد يُستشف منه بأنه إلغاء للأسس الأممية التي وضعت لمشروع حلٍّ في سورية، ومن دون التمكّن من وضع أسس جديدة من المفروض أن تكون أكثر نجاعةً إذا كانت هناك رغبة جادّة في الوصول إلى حل يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم. ولعله من نافل القول التذكير هنا بأن الحلّ الشامل المطلوب، في سورية تحديدا، لن يكون ممكنا بمجرّد التوافق بين قوتين إقليميتين، مثل السعودية وإيران، رغم أهمية هذا التوافق إذا كانت نيات الجانب الإيراني تتوافق مع المعلن؛ وإنما يستوجب هذا الحل توافقا إقليمياً عاماً إلى جانب التوافق الدولي، وذلك بناء على واقع التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري، وفي وجود القوات الإقليمية (تركيا وإيران) والدولية (روسيا والتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدّة) على الأرض. هذا إلى جانب تحكّم إسرائيل في السماء السورية في سياق التفاهمات الأمنية مع الجانبين الأميركي والروسي. ولكن الأهم في هذا المجال بالنسبة إلى الجانب السعودي مواقف السوريين المناهضين سلطة بشار الأسد، وهم يمثلون أكثر من نصف الشعب السوري، يعانون الأمرّين في مواقع النزوح التي تفتقر إلى أبسط الضرورات المعيشية، وفي المهاجر القسرية، حيث باتوا عرضةً للحملات العنصرية والحسابات الانتخابية، إلى جانب ما يعانونه من فاقة وظروف سكنية ومعيشية على غاية الصعوبة، ويُضاف إلى ذلك شبه انعدام الخدمات العلاجية الضرورية، وحرمان الأطفال من التعليم، فخسارة ثقة هؤلاء والمتعاطفين معهم في سائر الدول العربية ستكون مكلفة جداً، وذلك في حال عدم ضبط الأمور كما ينبغي مع الإيرانيين، والمطالبة بوضع حدٍّ لتدخلاتهم في كل من اليمن وسورية وبقية الدول العربية، فالنظام الإيراني معروف بتقيّته واستغلاله الفرص، وحرصه على إنجاح مشروعه التوسّعي بمختلف الأساليب، بما فيها الدبلوماسية التي تمكّنه من التقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوراق في المفاوضات والقوات على الأرض، وذلك استعداداً لجولاتٍ جديدة من تأجيج النزاعات الداخلية، وتدخّلات مباشرة أو غير مباشرة في شؤون دول المنطقة ومجتمعاتها عبر شبكة علاقات وتأثير واسعة في أوساط المليشيات المرتبطة به، والجماعات الإرهابية المصنّعة، وتجّار آفة المخدرات.
وبالعودة إلى الحكاية التي بدأ بها المقال هذا نتساءل: هل سيقتنع النظام الإيراني بضرورة التطبيع مع مجتمعات المنطقة ودولها، بعيداً عن وهمه الخاص الذي يتخيّلها حبات قمح؟ هذا ما نأمله، ولكن تجارب المنطقة علمتنا ألا نتفاءل كثيراً قبل أن نرى النتائج واقعاً على الأرض.
المصدر: العربي الجديد