جسر: خاص:
يحضر الفلتان الأمني على اختلاف صوره وأشكاله؛ من خطف واغتيالات ومفخخات وتفجيرات واقتتال بين الفصائل، في المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة بدعم تركي، وبلغت هذه الفوضى الأمنية ذروتها في التفجير الذي ضرب سوقا شعبيا في مدينة عفرين ذات الأغلبية الكردية شمالي حلب يوم الثلاثاء 28 نيسان/أبريل 2020، وقُتل وأصيب فيه أكثر من 100 مدني، الأمر الذي فتح الباب لتساؤلات جمّة أهمها الأسباب التي أدت إلى تلك الكارثة، وطرق مواجهتها والحيلولة دون تكرارها.
معرفة الفاعل والأسباب التي تكمن وراء فعلته
اعتبر الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية معن طلاع أن العوامل التي تقف وراء تلك التفجيرات كثيرة ومتشابكة، ذات طابع أمني وسياسي، لكن ذلك لا يُخفي حقيقة مفادها أن الواقع الأمني والبنى الأمنية في مناطق سيطرة المعارضة هي بنى وهياكل هشة، وتكمن هشاشتها في عدة مستويات وفق التالي:
1- المستوى الوظيفي من خلال كونها هياكل غير مؤهلة، وليس لديها خطط وسياسات أمنية.
2- المستوى التنظيمي الذي يتمثل بغياب المرجعية القانونية والتنظيمية، وهو ما يُشكل عاملا دافعا لتحول الوظيفة الأمنية إلى شكل شللي “عصبوي”.
3- الحصانة التي تفرضها سلطات الأمر الواقع؛ فلا رقيب ولا حسيب ولا مُقيم، والمسؤول عن الأمن هو ذاته خارج عن إطار المحاسبة التي لم تنشأ بالأصل.
كما تتعلق تلك التفجيرات بطبيعة الجهة التي نفذت الخرق الأمني، وبناء على ذلك حدد جهات أربع تعمل على ضرب بنية المعارضة وإحداث خلل فيها على المستوى المدني والمستوى القيادي المؤثر. فمن المحتمل أن تكون الجهة الأولى المحتملة خلايا تنظيم داعش الذي يحاول العمل على خلق بيئة أمنية فوضوية تساعده على اﻹيحاء للفاعلين في محيط عمله أنه لا يزال على خط التفجيرات والعمليات الأمنية، كونه يشهد عملية انتقالية لإعادة تفعيله مرة أخرى، ويجد في بيئة المعارضة البيئة الأمثل لتحقيق ذلك نظرا للرخاوة والهشاشة التي تعاني منها. جهة ثانية قد تكون وراء تلك التفجيرات وهي غرفة عمليات غضب الزيتون التي أعلنت تبنيها لأكثر من نصف عمليات الاغتيال والحوادث الأمنية وبأدوات متنوعة؛ لغم، مفخخة، طلق ناري، حيث يشير الرصد أن تلك العمليات من الممكن أن تنفذها الغرفة المذكورة، باعتبارها الذراع الأمني لتنظيم PYD، بهدف إيصال رسائل أمنية وسياسية إلى الجهة التي طردته من المنطقة في عملية غصن الزيتون التي نفذها الجيش التركي إلى جانب فصائل المعارضة السورية.
وترتبط الجهة الثالثة المحتملة التي تقف وراء تلك التفجيرات بنظام الأسد الذي يسعى بشكل دائم إلى اختراق بنى المعارضة بكل السبل، وله باع طويل في ذلك، ومصالح جمة أيضا، حيث يعمل على زيادة تعثر اﻻستقرار الأمني لهذه المناطق، وعدم إفساح المجال أمام المعارضة لتقديم نموذج ما، وسعيه إلى استمرار ضرب هذه البنى من الداخل لتصديع هذه المحاولات من جهة، ولتفتيت وتشتيت الحاضنة الداخلية للمعارضة في تلك المناطق؛ لتسهيل عملية قضمها لاحقا من جهة أخرى. وقد تكون هيئة تحرير الشام وراء تلك التفجيرات، خاصة في الآونة الأخيرة التي تسعى فيها إلى تحسين موقفها التفاوضي أمام الطروحات المتزايدة باتجاه محاصرتها وتحجيم دورها، بالتزامن مع المناوشات الأخيرة التي بدأت بينها وبين الفاعل التركي، والضغط على كافة الأطراف باستخدامها للورقة الأمنية، توجيه رسائل للطرف التركي بشكل خاص أن أي عملية تتعلق بالهيئة يجب أن تخضع لحسابات تُناسبها.
كل ذلك جعل المنطقة تعاني من عوامل مركبة ومتداخلة تساهم في تصدع الاستقرار الأمني فيها، وتستخدم من قبل كافة الأطراف كمنصة لتحسين التفاوض، وإرسال الرسائل، أو الضغط على فصائل المعارضة وحلفائها.
التماسك المجتمعي في مواجهة الخلل الأمني
بحسب طلاع يُعد إنهاء أسباب الخلل الأمني أولى خطوات النجاعة الأمنية، وأنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار تداخل العامل الاجتماعي والسياسي في هذه المناطق التي هي آخر مناطق الصراع المحلي بين النظام والمعارضة من جهة، إضافة إلى كونها مناطق تنوع عرقي من جهة أخرى، الأمر الذي يبرز عدة مهددات في ظل عدم وضوح نمط حكم معين ومرجعية موحدة، وهو ما تم تجاهاه إبان تحرير مدينة عفرين بشكل خاص من تنظيم PYD، حيث لم يتم إنتاج صيغة حكم تراعي خصوصية هذه المنطقة، فلم تشهد تلك المناطق أي حديث أو حوار لتعزيز السلم الأهلي والتمكين المحلي، وهذا ما ساهم في تعظيم المهددات أيا كان مصدرها، في حين أن المتانة الأمنية تتأتى من تماسك الصف الداخلي أولا.
ورأى طلاع أنه من الضروري استخدام الأدوات الاستراتيجية في سبيل فرض الأمن من خلال الدعوة لمؤتمر شعبي عام يناقش قضايا المنطقة، ويُعزز مفهوم العلاقات المدنية الأمنية فيها، ويجعل المجتمع شريكا حقيقيا في صياغة الأمن، بالإضافة إلى إنهاء تواجد التشكيلات الأمنية والعسكرية داخل المدن والأحياء السكنية، وتشكيل لجنة أمنية جامعة لكل هذه الأجسام، تكون نواة لتأسيس بنية تسمح لأي علاج على المستوى القانوني والتقني، وتسيّد وزارة الداخلية للموقف، وتزويدها بكافة التقنيات اللازمة وعلى رأسها استثمار الموارد البشرية المنشقة عن المؤسسات الأمنية والعسكرية، والاستفادة من خبراتها في مجال التحقيق وكشف الجريمة وإعداد ما يعرف بخلايا الإنذار المبكر، ووضع خطط استراتيجية على مستوى المدن، وتوحيد السياسات الأمنية في كافة المناطق من خلال التعليمات التي تصدرها وزارة الداخلية والمتمثلة في القواعد والأوامر الإدارية التي تنظم العمل الشرطي والمخفري ووحدات العمل الجنائي والقطاعات الأمنية، دون تغييب لدور منظمات المجتمع المدني في تعزيز مفهوم العلاقات المدنية الأمنية، وصيانة الأمن العام.
الأمن مفتاح الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي
لا يمكن أن تشجع البيئة الأمنية الفوضوية حركة التعافي المبكر اجتماعيا أو اقتصاديا، ويؤخر غياب النجاعة الأمنية في تلك المناطق عن الاستحقاقات التنموية والاجتماعية، ويحصرها في استجابات محلية طارئة على المستوى الإنساني؛ وهي ستكون غير كاملة لأنها لم ترتبط بقضايا متعلقة بالتنمية والاقتصاد، وكل ذلك يؤخر بدوره من الامتحان التي تحاول قوى المعارضة أن تنجح فيه من خلال انتاج نموذج حكم مستقر يحقق للفاعلين المحليين الانخراط في قضايا واستحقاقات المرحلة القادمة، وفق الباحث نفسه.
ختاما لا تقتصر الفوضى الأمنية التي تعاني منها المنطقة على عمليات التفجيرات والاغتيالات، بل تتعداه إلى الاقتتال بين الفصائل المنتشرة في المنطقة، والذي أدى إلى مقتل وإصابة العديد من العناصر ومن المدنيين القاطنين في مناطق الاشتباك.