الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

شارك

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

الرقة: لم يعد أحد من آل الوهب

محمد عثمان/ نقلاً عن المدن
خلال نحو سنة من البحث عن الجثث تحت الأنقاض وفي المقابر، عثر “فريق الاستجابة الأولية” على 14 مقبرة جماعية أقيمت أثناء فترة حصار الرقة من قبل “التحالف الدولي”، إبان سيطرة تنظيم “داعش” عليها. وانتشل الفريق 3310 جثة حتى مطلع العام 2019. ولا تزال عمليات البحث مستمرة، بعدما انتشل الفريق 260 جثة، في أذار/مارس، لوحده.
وتُدفَنُ معظم الجثث المُكتشفة في مقابر جماعية جديدة، مع الاكتفاء بتسجيل أوصافها ومنحها أرقاماً. وفي الحالات التي تتوفر فيها الوثائق أو الثبوتيات، يتم تسليم الجثة إلى الأهالي، إن كان هناك من يتسلمها، وهكذا تطوى صفحة فرد أو عائلة أو ربما جماعة، كأنها لم تكن.

من بين تلك العائلات آل الوهب “البدران”، التي قضى 39 فرداً منها بضربة لطائرات “التحالف الدولي”، في صيف العام 2017. معظم معارفهم واقاربهم، إما قتلوا، أو هجروا المدينة بلا رجعة بعدما تعرضوا للكثير من الفواجع.

هشام، صديق الراحل أسامة البدران، ربما آخر من يتذكر العائلة. يقول لـ”المدن”: “لم تكن تلك النكبة التي حلت بعائلة الوهب، التي تدعى أحياناً بعائلة البدران، هي الأولى، وإن كانت الأخيرة، ففي شتاء العام 2016، قصف الطيران الروسي منزلهم الكائن في حارة الوهب عند الساعة الثانية عشرة ليلاً، واستشهد ستة من افراد العائلة، أربعة منهم أطفال. وبعد دمار الحارة بكاملها تقريباً، رحلت الاسرة الكبيرة إلى بيوت الأقارب والأصدقاء في الاحياء الأخرى. وعندما اشتد الحصار والقصف اثناء معركة تحرير الرقة في 2017، كانوا يعدون لمغادرة المدينة، لكن القذائف عاجلتهم”.

تخونه ذاكرته قليلاً، فقد مرّت سنوات على المجزرة، وكان عليه أن “ينساها بما حملته”، بحسب تعبيره، إلا أنه يستدرك قائلاً: “لكن هناك أشياء لن انساها مهما مرّ من الزمن”، ويعود ليصل الاحداث ببعضها: “في 18 تموز 2017، انقسمت العائلة إلى مجموعتين؛ ذهبت الأولى إلى منطقة جامع الحني في شارع المعتز، وتحديداً إلى حارة السخاني، فيما توجه أحمد البدران وابنه الأكبر مصطفى، الذين كانوا يستقلون سيارة بيك آب، لتفحّصُ منزل في حي نزلة شحادة القريبة من نهر الفرات، على أمل أن يكون مناسباً لإيواء العائلة الكبيرة”. وفي رحلتهم إلى ذلك المنزل، قصفت احدى طائرات “التحالف” السيارة، فقضى الأب وابنه، ومعهم ثمانية أشخاص آخرين كانوا في موقع الضربة. المجموعة الأولى التي كانت تنتظر عودة الأب لتنتقل إلى المسكن الجديد، لم تعرف بما حدث إلا بعد يومين، بسبب انقطاع الاتصالات وانعدام الحركة والتجوال.

يستشيط هشام غضباً ويقول قاطعاً سرده: “كان بإمكان قوات التحالف أن تغطي الرقة بالإنترنت اثناء العمليات، كان هذا سهلاً، وسينقذ آلاف المدنيين، لكنهم لم يأبهوا بهم، كان همهم أن يحققوا النصر على تنظيم داعش وحسب”.

يهدأ، ويتابع: “دفنت بنفسي فتات ما تبقى من أجسادهم في مقبرة صغيرة في أرض فارغة استخدمها المدنيون لدفن الضحايا”. أشعل هشام سيجارته حين وصل في روايته إلى “الليلة السوداء” كما يصفها، ويتابع: “حزمنا أمرنا، وقررنا مغادرة هذا الجحيم الذي يطاق، والذي اسمه مدينة الرقة، وخطتنا هي التسلل بعد منتصف الليل من سوق الهال القديم باتجاه حي الشماس نزولا إلى حي العجيلي والعبور نحو ثكنة لقسد كانت قد أقيمت هناك كنقطة ارتكاز للوصول إلى نهر الفرات والعبور نحو قرية كسرة شيخ الجمعة في الضفة الأخرى”.

ولكن في ليلة 20 آب، قُصِفَ المنزل الذي كانت تختبئ فيه عائلة البدران في حي السخاني، فقُتِلَت العائلة بأسرها. راح هشام يعدهم، لم تكفه أصابعه العشرة، فاستعان بقلم وورقة وراح يدوّن: “ابراهيم الفهد وزوجته خديجة وابنتهما توليب، علي وشقيقتاه سمية وثريا، مصطفى وخلود وابنتها، عبطة وأولادها، شمسة وأطفالها، صديقة عائلة مصطفى وأطفالها، ابراهيم وزوجته مادونا وثلاثة من أطفاله، زوجة المرحوم خالد البدران”. يضع قلمه جانباً ويرفض أن يكمل.

وماذا عن أسامة؟ يقول هشام: “كان أسامة محاصراً في حي الفردوس، ولا توجد أية طريقة للتواصل معه، لكنني علمت في ما بعد، من خلال منشور على فيسبوك، أنه قضى أيضا مع 28 آخرين، بضربة لطيران التحالف الدولي”.

وأسامة كان يعمل مبرمجاً للحواسيب، رغم عشقه للتصوير الفوتوغرافي. كان قد افتتح محلاً للتصوير في الرقة، لكنه اضطر لإغلاقه، عندما سيطرت “داعش” على المدينة ومنعت التصوير، وعاد إلى مهنته الأساسية وهي برمجة الحواسيب وصيانتها. وفي أيامه الأخيرة، نسي كل ذلك، وصار شغله الشاغل تأمين حياة الاسرة الكبيرة، وإيجاد مأوى يحميها من الموت، واثناء ذلك البحث المحموم، علق في حي الفردوس، ولم يخرج منه.

يتفق النشطاء، على إن عملية “تحرير” الرقة كانت بكلفة بشرية باهظة، بلغت أكثر من ستة آلاف مدني، لطرد 2000 داعشي منها. وعائلة الوهب، بحسب هشام، حالة واحدة من عشرات الحالات الأخرى، التي عاشت المأساة، وضُرب على ما حدث لها ستار من التجاهل والكتمان، بذريعة طي صفحة “داعش”، والبدء بصفحة جديدة، برعاية الحكام الجدد للمدينة.

ولأن لا جريمة كاملة، أو لا يمكن محو آثارها على الأقل، فقد عُثِرَ اثناء انتشال جثث آل الوهب من تحت الأنقاض، على هاتف في جيب إحدى فتيات العائلة المنكوبة، يحتوي على مقطع فيديو، صورته بنفسها، لعائلتها الكبيرة، قبيل مقتلهم بساعات، وهم يعدون الخبز بطريقة بدائية، لسد رمقهم. وتُظهِرُ الصور كم كان هناك من الأطفال والنساء، وكم كانوا أبرياء ومخذولين من هذا العالم.

شارك