جسر – صحافة
وثق تحقيق “العربي الجديد” خداع النظام السوري لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية والاستمرار في إنتاج واستخدام أسلحة محظورة ضد المدنيين، وعلى الرغم من الانخفاض الكبير في قدراته، لكنه مستمر بالتصنيع عبر مواد مدنية.
يرصد الحقوقيان السوريان، نضال شيخاني وفضل عبد الغني، تلاعب النظام السوري باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، عبر طرق متنوعة تجعله مستمرا في الإنتاج رغم انخفاض قدراته بشكل كبير، بالإضافة إلى إخفاء تلك الأسلحة واستعمالها وقت الحاجة.
ومن بين أهم الوقائع التي تثبت الأمر، ما جرى في الرابع من فبراير/ شباط 2018، إذ استهدفت مروحية عسكرية سورية، منطقة مأهولة بالسكان في مدينة سراقب، شمال غربي سورية، عبر قنبلة تحتوي على غاز الكلور السام بعد أكثر من ست سنوات على إعلان النظام تسليمه كامل مخزونه من الأسلحة الكيميائية وتدميرها، بالإضافة إلى ثلاث هجمات استهدفت مدينة اللطامنة بريف حماة في 24 و25 و30 من مارس/آذار 2017، وجميعها خضعت لتوثيق منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية عبر تقريرين منفصلين عملت عليهما بعثة تقصي الحقائق التابعة لها.
وقال أحد شهود العيان الناجين من الهجوم والذي شدد في إفادته لـ”العربي الجديد” على عدم ذكر اسمه خوفا من استهداف عائلته على يد مليشيات النظام، “كنا نظن أنها قذيفة عادية تشبه براميل طائرات النظام، والتي يتوقف تأثيرها التدميري بعد الانفجار، وإجلاء الشهداء والجرحى، ولكن بعد قليل من الوقت اكتشفنا عكس ذلك، إذ شاهدت مصابين يتقيآن ويعانيان صعوبات في التنفّس وأغمي على أحدهما”.
217 هجوماً عبر الأسلحة الكيميائية:
في سبتمبر/أيلول من عام 2013 تقدّم النظام السوري بطلب الانضمام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، بعد اتفاق أميركي روسي، بهدف مراقبة تفكيك برنامج السلاح الكيميائي السوري وإلزام النظام بعدم استخدامه مرّة أخرى، والتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية وفرق التحقيق التابعة لها، وفق ما ينص عليه ميثاق المنظمة، وتطبيقاً لبنود قرار مجلس الأمن رقم 2118، الصادر في27 سبتمبر/أيلول 2013، بعد مجزرة “الغوطة” التي ارتكبها النظام في 21 أغسطس/آب 2013.
وحتّى إصدار القرار رقم 2118، كان النظام السوري قد استخدم الأسلحة الكيميائية 33 مرّة، وبعد تدمير كامل ترسانته الكيميائية التي أعلن عنها أمام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، شن النظام 148 هجومًا كيميائيًا، ليصبح إجمالي عدد هجمات النظام الكيميائية 217 هجومًا، من أصل 222 هجومًا خلال وقائع الثورة السورية من ضمنها خمس هجمات شنّها تنظيم داعش، بحسب ما يؤكّده مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، والذي قال لـ”العربي الجديد”: “إجمالي عدد ضحايا الأسلحة الكيميائية 1510 من بينهم 205 أطفال و260 سيدة (أنثى فوق 18) وعدد المصابين 11212 خلال الفترة بين 23 يناير/كانون الثاني 2012 وحتّى 30 أكتوبر/تشرين الأول 2020”.
وتابع: “النظام يخدع المجتمع الدولي ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية وأخفى عنها بعض المواقع ونقل أسلحة ومستمر بالتصنيع”، وهو ما يؤكّده مدير “مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سورية، نضال شيخاني، لـ “العربي الجديد”.
شكوك دولية:
في الرابع من مارس/آذار الماضي، كشفت إيزومي ناكاميتسو، الممثلة الأممية السامية لشؤون نزع السلاح خلال كلمتها أمام مجلس الأمن الدولي، أن ما أعلنه النظام السوري بشأن برنامج أسلحته الكيميائية لا يمكن اعتباره دقيقا أو مكتملا بسبب “فجوات وتباينات” لم تُحسم بعد، وهو ما توضحه سوزان أوستيرويك المختصة بالشؤون السياسية في مكتب الأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح لـ “العربي الجديد”: “المجتمع الدولي لا يمكنه الوثوق بشكل كامل بأن برنامج الجمهورية العربية السورية للأسلحة الكيميائية قد أزيل إلى أن يتم إغلاق المسائل المعلقة، والتي ترتبط بالإعلان الأولي الذي قدمته سورية بشأن اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية”.ي 28 مايو/ أيار 2018، مدير عام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أحمد أوزومجو، بأن عينات جمعها خبراء تثبت وجود مواد كيميائية لم يعلن عنها النظام السوري سابقًا، موضحًا أن العينات جمعها خبراء من مناطق تعرضت لهجمات كيميائية” وأن “المنظمة تنتظر تفسيرًا معقولًا من الناحية التقنية من مسؤولي النظام بهذا الخصوص”.
اللافت أن أوزومجو، سبق وأن طالب النظام في 13 يوليو/ تموز 2016، بتقديم تفسيرات حول احتفاظه بأربعة عناصر (مواد) كيميائية للاستخدام العسكري وعدم الإعلان عنها، قائلًا: “بالرغم من إعلانات سورية السابقة، فإن فرق المنظمة عثرت على مؤشرات على وجود أربعة عناصر كيميائية حربية إضافية”.
أدلّة دامغة:
يؤكد تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية، الصادر في 12 أبريل/ نيسان 2021، أن القنبلة التي استهدفت مدينة سراقب نشرت مادة الكلور السامة على مساحة كبيرة، ووصل التقرير إلى هذه النتائج بعد مقابلات مع الأشخاص الموجودين في الأماكن ذات الصلة بالهجوم، وتحليل عينات من مواقع الحوادث، ومراجعة الأعراض التي أبلغ عنها الضحايا والطاقم الطبي، فضلًا عن فحص صور الضحايا، وصور من الأقمار الصناعية. كما حصل فريق تحديد هوية الجهة المنفذة، التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية على تحليل طبوغرافي للمنطقة المعنية وطريقة انتشار الغاز لتأكيد الروايات من الشهود والضحايا.
ويثبت التقرير الصادر في الثامن من أبريل/ نيسان 2020 أن النظام السوري مسؤول عن 3 هجمات كيميائية استهدفت مدينة اللطامنة في 24 و25 و30 من آذار 2017. وقال التقرير: “إن طائرة عسكرية من طرازSU-22 تابعة للواء 50 من الفرقة الجوية 22 في الجيش السوري أقلعت الساعة السادسة من صباح 24 من آذار 2017، من قاعدة الشعيرات الجوية جنوبي حمص، وقصفت جنوبي اللطامنة بقنبلة M-4000 تحتوي على غاز السارين، وهو ما تكرر بعد ذلك وأن النظام السوري شنَّ أربع هجمات كيميائية على الأقل، بخلاف مزاعم مندوبه في الأمم المتحدة بأنه لم يستخدم الأسلحة الكيميائية”.
ويتسم القسم الأكبر من ترسانة النظام السوري من الأسلحة الكيميائية المتبقية والمخفية بـ”القدم”، وفق ما يؤكده مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مؤكدا أن النظام مستمر في عمليات تصنيع الأسلحة الكيميائية، بالرغم من انخفاض قدراته بشكل كبير. وأضاف: “لدينا معلومات تفيد بأن النظام مستمر في تصنيع أسلحة تدخل مادة الكلور في تركيبتها” وهو ما يعد خرقا لقرارات مجلس الأمن واتفاق حظر الأسلحة الكيميائية الذي يفرض على من يصادق عليه بأن يدمر ترسانته الكيميائية، داعيًا إلى “إجراءات أكثر حزمًا تجاه النظام السوري”. وأكمل عبد الغني: “استراتيجية النظام تقوم على نقل معدات ومستلزمات التصنيع الكيميائية وعدم الإعلان عن بعض المواقع والاستمرار في العمل بوتيرة منخفضة”، ويتفق معه شيخاني، مشيرا إلى وجود 22 موقعًا في عموم سورية تم نقل الأسلحة الكيميائية إليها في عام 2019.
مخاطر تكرار الهجمات
يقول مدير مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية إن معلومات موثقة وردت إليهم بأن النظام يمتلك ما بين 600 و1000 طن متري من غاز الأعصاب بالإضافة الى صواريخ سكود طويلة أو قصيرة المدى لديها إمكانية حمل رؤوس كيميائية.
النظام يمتلك ما بين 600 و1000 طن متري من غاز الأعصاب
وأضاف شيخاني لـ “العربي الجديد”: “بعض هذه الأسلحة قديمة وتم إخفاؤها بواسطة المخابرات الجوية والحرس الجمهوري قبل دخول فريق منظمة حظر الأسلحة الكيميائية للإشراف على عملية التدمير فاقدة الشفافية، إضافةً إلى أن النظام السوري يعمد إلى الإنتاج مع افتقاد الجودة بسبب العقوبات التي حظرت استيراد المواد الأولية، وضرب مثالًا على ذلك بأن النظام يحوّل مواد تستخدم في أغراض مدنية مثل الكلور ومواد أخرى إلى غازات سامة، مردفًا: “في مناطق عديدة مثل سرمين وسراقب كنا نتابع نتائج التحاليل والعينات في مختبرات تابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وتبين وجود مادة الكلور الممزوج وهو ما يعني خلط هذه المادة حتى لا يكتشف الخبراء نوعية المادة المستخدمة”.
النظام يحوّل مواد تستخدم في أغراض مدنية إلى غازات سامة
وأشار شيخاني إلى تأكيد استخدام غاز السارين ضد منطقة اللطامنة، مشيرًا إلى مقارنته مع غاز السارين المستخدم في هجوم خان شيخون وتبيّن أن المادة المستخدمة في كلتا المنطقتين متطابقة، رغم وجود فرق توقيت بسيط بين الهجوميين، محذرا من وجود أسلحة تحمل رؤوسا كيميائية لدى النظام السوري مثل القنبلة M-4000 التي يتم تصنيعها في مركز البحوث العلمية.
ويوضح المحلل العسكري العقيد الركن طيار إسماعيل أيوب لـ “العربي الجديد” أن استخدام السلاح الكيميائي يمكن نظريا أن يتم بواسطة مختلف أنواع الأسلحة، لكنه أوضح أن القنابل التي تحمل الغازات السامة لم تكن موجودة في الألوية الجوية قبل الثورة، وبعد انطلاق الثورة تم تزويدها بنوعية أطلقوا عليها اسم (القنابل الخاصة) أو ذات الاستخدام الخاص، منها ما كان صناعة روسية وأغلبها صناعة محلية، وهو ما يؤكده تقرير مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية بالتعاون مع منظمة “غلوبال ويتنس” والذي أكد وجود شركات داعمة لأنشطة مركز البحوث العلمية التي تعمل في مجال الأسلحة الكيميائية تنشط في جزر تابعة للمملكة المتحدة وقبرص أسسها سوريون يحملون جنسيات مختلفة، وكان لدى هذه الشركات مواقع على الإنترنت ولكنّها لم تكن موجودة على أرض الواقع، إذ كانت تتلاعب بالعقوبات الأميركية المفروضة على الصادرات إلى سورية وخاصة بأذونات شراء المواد التي يمكن استخدامها في أكثر من غرض بما في ذلك إنتاج الأسلحة الكيميائية.
المصدر: العربي الجديد