جسر – صحافة
تغيب سورية بناسها وأحداثها، بهمومها وقضاياها، بآلامها وآمالها، عن الحدث اليومي في الأخبار. تتلاشى شيئاً فشيئاً جاذبية أحداثها لمعدّي النشرات اليومية، لم تعد أعداد الضحايا تكفي لإشباع نهم الباحثين عن مشاهد مروّعة تستميل كاميرا “الأكشن”، فتزيد من عدد المشاهدات والقراءات، مشاهد الدمار والخيام المهترئة والتلوّي من الجوع والبرد، وتلك الحقائب المحمولة على كفن ينتظر رحيل حاملها… جميعها مشاهد لا تكفي لتتصدّر سورية من جديد مواسم الأخبار العاجلة وشهود العيان ومراسلي الحرب. هكذا سوّقوا انتصار القوة الغاشمة، فسكتت أصوات كيانات المعارضة، وأغمدت الدول أسلحة فصائلها، فصار الصراع محسوماً. ولم يبقَ لكثير من وسائل الإعلام إلا أن تحذف الكثير من أرشيفها لتمسح من ذاكرتها أنها ذات يوم كانت شاهداً “شاف كل حاجة”، ولكنه قرّر أن يبلع شهادته، وأن يفقأ عين كاميراته، وأن يلتزم موقف المنتصر بعد أن فاضت ذاكرته بدم المهزوم.
تتراخى مواقف الدول تباعاً، وتلتحق بها فصائلها المسلحة المرتهنة لمصلحة أجندتها في سورية، فلا نستغرب معها التسويات وتحول وجهة السلاح، من ضد النظام إلى معه، من تحرير الأرض من سطوته إلى تحريرها من أجله. قد نفهم أن الدول تتّبع مصالحها، لكن أن تتبع المعارضة مصالح الدول، هو ما لا يمكن فهمه في قاموس الوطنيات أو ثورات الحرية. وأن تراجع الدول مواقفها، لأنها ليست وليّ الدم النازف، فهذا مبرّر من منطلق الخوف من عدوى التمرّد على الحكام، ولكن أن يتماهى موقف بعض المعارضين، حتى يصبح مجرّد صدى مواقف الدول التي ترعاهم (مالاً وسلاحاً)، تشدّداً ضد النظام أو معه، حسب بورصة مصالح رعاته، فهذا ما وسّع حصة النظام عربياً، وزاد فرص قبوله دولياً.
لم يغادر السوريون بلدهم بحثاً عن سلاحٍ يقاتلون به، بل حضر السلاح بكامل تنوّعاته إليهم هدايا مجانية، من دولٍ كثيرة
ربما كانت مقاطعة بعض الدول النظام السوري، وإخراجه من جامعة الدول العربية، والتشدّد في عزله وحصاره، بسبب سوء فهم أو خلاف في وجهات النظر معه، ليس بسبب انتصارها لحقوق المتظاهرين ضد النظام، ولكن أيضاً حول آلية التصدّي لمطالبات الشعب بالحرية والكرامة، وإيقاعه آنذاك عشرات الآلاف من الضحايا فقط، ولكن مع تقرير الأمم المتحدة أن الأرقام في سورية وصلت إلى مئات آلاف الضحايا وملايين المشرّدين، يبدو أن النظام حقق ما يستحق عليه المكافأة، والعودة منتصراً إلى ساحة العمل العربي المشترك الذي لم نعرف منه وعنه شيئاً منذ حرب تشرين عام 1973.
إذاً، جسّر مئات آلاف الضحايا، وملايين المهجرين الخلافات، فغدا الصلح بين هذه الدول مع النظام السوري سيد الأحكام، “ويا دار ما دخلك شر”، لتستعيد، بهذه البساطة، بعض الدول موقعها من النظام وفيه، وتتناسى تصريحاتها السابقة عن ضرورة محاسبته وتجريمه وتنحيته، وكأن كلماتها وعباراتها تلك سقطت سهواً منها على تلك المنابر العربية والدولية، وستمسح التصريحات الجديدة ما أوقعته خطاباتهم السابقة من دم ودمار.
لم يغادر السوريون بلدهم بحثاً عن سلاحٍ يقاتلون به، بل حضر السلاح بكامل تنوعاته إليهم هدايا مجانية، من دولٍ كثيرة، بعضها اليوم يتصالح مع النظام، بينما أدواته من السوريين محكومون بالموت عنده، أو من تلك الدول التي تدير اليوم مؤتمرات الصلح والتصالح في أستانة وسوتشي وحتى جنيف، ما سيستوقف السوريين حتى من هم على الجانب الآخر، أقصد المؤيدين للنظام عن دور كل من هذه الدول في إشعال الحريق قبل دورها في إخماده، وكيف أسهمت في حرف مسار الثورة السلمية إلى حربٍ غير متكافئة، ولا منتهية، حتى نال الخراب من جميع أطرافها، وتساقطت حمماً على كل السوريين، معارضين ومؤيدين.
التعويل على وقف الاقتتال أنه انتصار لأي طرف هو وهم خادع وكبير، حتى للدول الساعية إلى التطبيع مع النظام
في وقت يراهن فيه الجميع على وقف المسار العسكري للصراع، علينا أن نعترف بأن الصراع المسلح الذي هلّل له بعضهم، باعتباره طريقاً لا بد منها، شكّل خروجاً عن المسار الطبيعي التدرّجي للثورة السورية، الشعبية والسلمية، التي زعزعت أركان النظام ويقينياته، وهو (أي التسلح) ما دفعها نحو المربع الذي يريده النظام، ويزيده قوة، ويبرّر بطشه، واستخدامه القوة العاتية التي دفع السوريون العاديون الأثمان الباهظة لها.
يمثل إنهاء الصراع المسلح الذي استخ
دم الفاعلون فيه السوريين أدوات وضحايا في آن واحد لحظة التحول الإيجابية لمصلحة الثورة السورية ومطالبها، وإنهاء أدوار المرتزقة المحليين والعرب والدوليين، وإعادة الاعتبار لقيم الثورة وأهدافها في نزع سورية من نظام أمني مستبد، وإعادة خلق كيانها المتبعثر حالياً جغرافياً وديمغرافياً بين الدول الخمس التي تتنازع خريطتها، وجيوشها وسلاحها وسيادتها ونظامها ومعارضتها، وهي فعلياً تحكُم أرضاً تحوّلت ساحاتها إلى مقابر جماعية كبيرة، مجهولة الأسماء والعناوين. ولكن التعويل على وقف الاقتتال أنه انتصار لأي طرف هو وهم خادع وكبير، حتى للدول الساعية إلى التطبيع مع النظام، لأن الدول التي تطلق حالياً رشّاش المياه لإطفاء حرائق أشعلتها، لا تزال تحمل عيدان الكبريت والنابالم، ولا سيما أن تلك الدول اليوم تبدو معنيةً بتبريد الجبهات، لأن مصالحها تقضي بذلك، ولا أحد يعرف متى ستكون معنيةً بإعادة تسخينها. على وقع ما تعيشه من أوضاع مضطربة فيما بينها، وتستخدم الملف السوري “كقميص عثمان”، بدليل الصراع الجاري على المسألة الأوكرانية، والصراع الجاري بخصوص الملف النووي، والأحوال الداخلية في كل بلد، من دون أن ننسى الدور الإسرائيلي المقرّر في اللعبة الكبرى في المشرق العربي.
إعادة إحياء أخبار سورية مرهونة اليوم باستعادة الأمم المتحدة دورها في “حماية حقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الإنسان وقيمته”، وأهمها حقه في حياة آمنة ومواطنة كاملة على أرضه. ومن دون ذلك، سنبقى ضحايا نشرة أخبار تهمل حق السوريين بالحياة، فينتشر وهم انتصار الأسد، أو تؤجج عناوينها بقتلانا، فينتصر السلاح من جديد، ونعود إلى دائرة الضوء أخباراً عاجلة تعدّد أرقام قتلانا ليستمر موتنا السوري.
المصدر: العربي الجديد