عبد الناصر العايد
عنونت صحيفة ألمانية أحد تقاريرها بعبارة “طلاب من الصين والهند وسوريا في المقدمة”، في إشارة إلى دول المنشأ للطلاب الدوليين لهذا العام، وهو من الأخبار الإيجابية النادرة التي تقترن بسوريا منذ عقد من الزمان صدّر خلاله هذا البلد الأخبار الكارثية، إذ عانى وما زال، من أكبر نكبة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
تقول الصحيفة، نقلاً عن خدمة التبادل الأكاديمي الألمانية (DAAD) والمركز الألماني لبحوث التعليم العالي والبحث العلمي (DZHW)، إن عدد الطلاب السوريين المسجلين في الجامعات الألمانية في الفصل الشتوي 2021/2022، بلغ 16,500 طالب، فحلّوا بذلك في المركز الثالث بين الطلاب الأجانب في ألمانيا بعد الصين، التي أوفدت نحو 40,000 طالب، والهند التي أوفدت نحو 34,000 طالب. وتقدم عدد الطلاب السوريين على أقرانهم من النمسا وتركيا ذات الجالية الكبيرة جداً والعريقة، التي حلت في المركز الخامس بـ12,500 طالب.
تتحدث الإحصائيات الرسمية عن الطلاب الجامعيين فقط، ولهذه السنة تحديداً، بينما شهدت السنوات الماضية دخول أعداد متصاعدة من الشبان والشابات السوريين إلى الجامعات. لكن الأهم بنظرنا، إن أجيالاً متتالية، أصغرها بعمر اليوم الواحد وأكبرها بعمر الـ18، تستعد للانخراط في هذه الجامعات تباعاً، وبأرقام تزيد عن الرقم السابق، ما يعني إن نحو نصف مليون سوري سيتخرج من الجامعات الألمانية الأهم والأرقى من حيث جودة التعليم، لا سيما في الجوانب التطبيقية، بعد نحو عقدين من الزمان، وهو زمن ليس بالطويل في أعمار الشعوب والأمم.
ويضاف إلى هؤلاء مئات الآلاف ممن خضعوا للتدريب المهني، كما يضاف إلى مجموعهم مَن سيتخرجون في جامعات ومدارس الدول الأوربية الأخرى التي لجأ إليها أكثر من مليون سوري آخر. وبحسبة تقديرية بسيطة، يمكننا التكهن بأن ما لا يقل عن ربع المليون منهم سيكون من خريجي جامعاتها ومدارسها بمرور خمسة أعوام أخرى، وسيتخرج عدد قريب من هذا في الجامعات التركية ذات السوية الجيدة، مقارنة بتلك الأوروبية، إذ أعلن وزير التعليم التركي أن عدد الأطفال السوريين الذين يدرسون في بلاده يقارب المليون طفل.
هذه “الطفرة” التعليمية غير مسبوقة، بالنسبة لسوريا وعموم دول المنطقة، وهي حالة نادرة وفريدة في سياق التحولات التي تعرفها الأمم والشعوب، ونشأت بالدرجة الأولى عن فاجعة الشعب السوري غير المسبوقة أيضاً، والتي كُتب لها أن تُزهر في العالم الغربي. فهل تتساقط ثمارها هناك، أم تعود إلى وطنها الأم ذات يوم؟
في الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إغفال عامل الجذب في البيئة الجديدة، وخطط الدول المضيفة لاستبقاء هؤلاء. ويعرض التقرير المومأ إليه، تعليقاً لرئيس الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي جويبراتو موخيرجي، الذي احتفى بتزايد عدد الطلاب الدوليين ومرشحي الدكتوراه في بلاده قائلاً: “هذا يمثل فرصة هائلة للنقاش حول النقص في العمالة الماهرة في بلدنا، ويجب على جميع المعنيين استغلال هذه الفرصة”. ويضيف خبراء ومراقبون سوريون في أوروبا معطيات أكثر تشاؤماً بخصوص إمكانية عودة هذه النخب يوماً ما إلى بلادهم، بالقول إن هؤلاء النشء لا يعرفون وطناً آخر لهم سوى ألمانيا التي احتضنتهم وقدمت لهم المأوى والأمان والتعليم الراقي، أما سوريا فستبقى في ذاكرتهم ذلك البلد الملعون الذي نجوا منه على متن قوارب الموت بأعجوبة، وأن مشاعرهم نحو البلاد التي يحكمها قاتل شرير، لن تتعدى الشفقة والتضامن الإنساني مع المحتجزين هناك تحت سلطته.
لكن وقائع التاريخ تقول إن الظواهر الإنسانية فريدة، ولا يمكن أن تمتثل لقوانين أو تنبؤات مسبقة، مهما كانت درجة علميتها، خصوصاً في عصرنا الراهن الذي تتغير فيه المعطيات التقنية كل يوم، وتتغير معه كل التوقعات والاحتمالات، ولا مناص من تصنيف إمكانية عودة هؤلاء، أو جزء منهم، ومساهمتهم في نهضة سوريا، كفرضية مقبولة بينها.
نحن نعرف اليوم الأسباب التي تمنع أي لاجئ سوري، سواء كان متعلماً أم لا، من العودة إلى بلاده. ونعرف أيضاً شروط عودة النخب من أصول سورية في المستقبل القريب و البعيد، وهي جميعاً تكمن في السياسة وشروطها، وعلى رأسها زوال التهديد الدائم المتمثل في نظام الأسد الإجرامي الذي فرّ منه هؤلاء، ونشوء بُنية جاذبة ومرحبة بهم وبإمكاناتهم، وآمنة لهم ولأُسرهم، وصحية وخالية من الفساد الذي يدمر أعظم الإمكانات وألمع المواهب. وهي أسباب قد يكون بلوغها اليوم نوعاً من أحلام اليقظة، لكن دروساً لا حصر لها من التاريخ المعاصر تقول أنها ليست مستحيلة، سواء نظرنا إلى ألمانيا التي نتحدث عنها هنا، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو دول شرق آسيا، أو حتى الدول المتمتعة بثروة نفطية. فثروة العقول السورية الآخذة في التكون والتصاعد، لا تقل قيمة عنها.
وفي جميع الأحوال، فإن مآل السوريين اللامعين في المنافي والمهاجر وبلدان اللجوء، أفضل بما لا يقاس مع أقرانهم الأقل حظاً، ممن قضوا اختناقاً بكيماوي نظام الأسد في غوطة دمشق، أو أولئك الذين سيسوقهم ما أن يبلغوا الفطام ليُقتلوا دفاعاً عن سلطته وسلطة أبنائه من بعده. وأن يكون المرء سورياً/ألمانياً حراً، يعمل لخير الإنسانية جمعاء، بمن في ذلك السوريون الآخرون، لأجمل ألف مرة من أن يكون قاتلاً في مليشيات حافظ الثاني، وهذا أدنى الآمال.
المصدر: المدن