عمر قدور
قتيلان وما يقارب العشرين مصاباً هي حصيلة العنف الذي جوبهت به انتفاضة يوم الأحد الصغيرة، المعبِّرة عن غضب أهالي السويداء. عدد المتظاهرين لم يكن مهماً، فمن المفهوم أن احتجاجهم يمثّل شرائح واسعة في السويداء وغيرها أيضاً. هذا فحوى ما تنقله صفحة “السويداء24” عن مصدر مقرَّب من شيخ العقل حكمت الهجري، المصدر يصف ما حصل بالحراك السلمي العفوي “من شعب صامد هدّه الجوع والحاجة، وآلمته المزاودات وآذته القسوة وعدم الاستجابة لمطالبه المحقة من كل ما يعانيه من كل الجهات، وعلى كل الجبهات”.
كمثال على واقع الحال، باتت مخصصات محافظة السويداء: صهريج بنزين واحد يومياً، وخمسة صهاريج مازوت ليس بينها أي صهريج للتدفئة، الكهرباء تصل لساعتين يومياً في أحسن الأحوال، ويمكن التكهن بمستوى البؤس قياساً على وضع الطاقة. وصفُ ما حدث بانتفاضة الجوع لا يبتعد عن الواقع، ولا ينتقص من كرامات المحتجين. الأرقام السابقة، بدلالاتها الفظيعة، تعكس حال المحافظات الأخرى، ليكون السؤال ليس عمّا دفع أهالي السويداء إلى الاحتجاج، بل عمّا يمنع الأهالي في مناطق أخرى من الصراخ جراء جوعهم وجوع أبنائهم؟
شهدت مظاهرة الأحد هتافات تذكّر بثورة 2011، لكن من الحصافة عدم التسرّع بالقول أن المظاهرة استئناف لما مضى، ومن المرجح أن بعض المتظاهرين استخدم للتعبير عن غضبه تلك الشعارات بحكم كونها جاهزة ومألوفة، لا بوهم استعادة الثورة. تمزيق صورة بشار الأسد والدعس عليها شأن مختلف، فهو تعبير حقيقي عن الغضب منه ومما بات يمثّله كمتسبب لمعاناتهم، أو لكونه المتسبب الرئيس بما أن بعض المحتجين لا يستثني من الملامة آخرين في طليعتهم الذين قاموا في ما مضى بالثورة.
قيل الكثير في خصوصية وضع السويداء، الناجمة عن خصوصيتها المذهبية، ما يمنحها من وجهة النظر هذه هامشاً أوسع للتحرك بين موالين طوعيين للأسد وموالين بحكم الرعب من بطشه. بموجب هذا التقسيم، لا يستطيع الأسد البطش بأهالي السويداء، أقلّه لأنه لا يستطيع تسويق العنف تجاههم كحرب على الإرهاب “الإسلامي السنّي” كما فعل عندما انطلقت المظاهرات السلمية في عام 2011. عطفاً على ذلك، لطالما تمنى كثر في مقلب الثورة أن تغادر السويداء موقعها الملتبس، بأن تثور على الأسد فتدحض سرديته الخاصة بالحرب على الإرهاب.
لم تحدث في ما مضى ثورة السويداء العارمة المشتهاة، ولا وجود اليوم لثورة تلتحق بها. لا أفق لثورة وطنية عامة جديدة، تنطلق شرارتها من السويداء وتستنهض باقي السوريين، فاستنفار الموالين التقليديين بدأ فوراً بشعارات موجهة لبشار من قبيل: “معك ع المرّة قبل الحلوة”. وسيكون مفيداً جداً الانتباه إلى معنى الولاء في هذا الشعار؛ هو ولاء خارج أي تعريف لمفاهيم السياسة الحديثة؛ هو ولاء مطلق، عاطفي، عصبوي. وهو، فوق ذلك، بلا حدود أو أي اشتراط على المعنيّ، هو ليس الولاء مقابل التحلي بالمسؤولية، بل الولاء الذي لا ينتقص منه تحلل المسؤول من أدنى واجباته.
حسب الدارج، يتيح موقع السويداء لناسها أن يكونوا في موقع تعاقدي مع الأسد، فلا هم في موقع الثورة، ولا هم في موقع الولاء الدائم. هم بذلك، حسب الدارج مرة أخرى، ليسوا في موقع الموالاة “على المرّة قبل الحلوة”، أو في موقع إظهار الولاء تقية وخوفاً من البطش. ولاؤهم مشروط بالتزامات يؤديها الأسد، وإلا يكون هو قد أخلّ بمسؤولياته ضمن التعاقد غير المكتوب، واستحق الثورة عليه بسبب ذلك، لا التحاقاً بثورة أخرى فائتة.
وما يشترطه أهالي السويداء، في التعاقد المفترض، لا يجب اعتباره استثناءً إلا من الاستثناء الأسدي. ما يطلبه الأهالي على كل حال ليس تعجيزياً بطبيعته، أو من خارج ما يُسأل عنه الحكّام في كافة أصقاع العالم، إنهم يريدون الحد الأدنى من “الدولة”، وهذا ما يبخل به الأسد بحسب الظن الشائع. تحت عنوان “نطلب الخبز فيعطوننا الرصاص” تشرح صفحة السويداء24 الواقع بالقول: “اليوم، بعدما سقطت كل مقومات الدولة السورية، لم يبقَ للسلطة سوى أجهزتها الأمنية. وهنا لا بد من التوضيح أن لا شرعية لسلطة تعجز عن إبقاء أية مؤسسة منتجة تعمل. سلطة حطمت كل مقومات الدولة، لكنها ما زالت تطالب بالمزيد، المزيد من جوع الناس وذلّهم”.
بعد إيراد المزيد من مظاهر فقدان السلطة شرعيتها، لعدم قيامها بمهام الدولة، تختم الصفحة المذكورة بالقول: “نحن بحاجة للدولة السورية، لا لسلطة المخدرات والأمن-المخابرات”. واستشهادنا بهذه الصفحة مردّه عدد متابعيها والمتفاعلين معها خلال أحداث يوم الأحد، بفضل مواكبتها ما جرى، ومردّه أيضاً ما نراه نقلها التعبير الأفضل عن حالة السويداء اليوم، وما تطالب به النسبة الأكبر من المحتجين، والذي لا يقطع الطريق على العودة إلى التعاقد مع الأسد، إذا قام بما هو مطلوب منه بوصفه “الدولة السورية”.
نظرياً، على الأقل، تبني هذه المطالبات على فكرة شائعة عن سلطة فاق فسادها الحد المقبول، ويمكن التعايش معها إذا تحلّت بحدّ أدنى من العقل الذي يقتضيه التعاقد مع الدولة. الكثير من اللوم الموجَّه للأسد، من خصومه ومن حريصين عليه، فيه المطالبة ذاتها لأنه يرفض تحمّل نصيبه في تعاقد لا يكلّفه الكثير. وما نراه أن في هذا كثير من التغافل عن أنه لا يستطيع أن يكون سوى ما هو عليه حقاً، ويجعل أي تعاقد معه من طرف واحد بما أن بنية سلطته لا تقبل الالتزام إزاء محكوميها؛ هنا ما يشبه العقيدة الراسخة المحمولة على جشع احتكاري لا يشبع.
سيصطدم أهالي السويداء، الآن ولاحقاً، بأن السلطة تقبل فقط نوعين من العلاقة من محكوميها، فهي تريد ولاءهم الطوعي، وتقبل أو تتلذذ بصمت المرغمين المقهورين الذين يرمزون إلى انتصارها. لقد تغيرت الأحوال حتى عن عام2011، عندما هرع بشار إلى السويداء ليكسبها إلى جانبه بمنطق الرشوة لا منطق الدولة. ومع شبه انعدامٍ لاحتمالات توسع الاحتجاجات، إن أفضل عنوان تقصده هو الخارج الذي يراهن على إعادة تدوير الأسد، إذا لم يكن ما يعنيه بالضبط هي إعادة تدوير “سلطة المخدرات والمخابرات”.
المصدر: المدن