جسر: خاص
مقال ليوفال نوح هراري نشر في الفاينانشال تايمز بتاريخ 20/03/2020
ستزول هذه العاصفة بلا شك، لكن الخيارات التي سنتخذها الآن قد تغيّر حياتنا في السنوات القادمة؛ فالبشرية اليوم تواجه أزمة عالمية قد تكون من أكبر الأزمات التي يتعرض لها جيلنا، والخيارات التي سنتخذها في الأسابيع القليلة المقبلة – أفراداً وحكومات – ستسهم على الأغلب في تشكيل العالم في السنوات المقبلة. تأثير هذه القرارات لن يطال النظام الصحي فحسب، بل سيمتد أيضاً إلى الاقتصاد والسياسية والثقافة. لذا علينا أن نتصرّف بسرعة وحزم، مع الأخذ بعين الاعتبار عواقب هذه القرارات على المدى الطويل. لكن علينا أن نسأل أنفسنا قبل المضي في أحد الخيارات المتاحة تلك، ليس كيف نستطيع التغلب على التهديد المباشر الذي نواجه فحسب، بل أيضاً أي عالم سوف نعيش فيه بعد مرور العاصفة؟ نعم العاصفة ستزول، وستنجو البشرية، سيبقى معظمنا على قيد الحياة، لكننا سنعيش في عالم مختلف تماماً عمّا كان موجوداً.
إن العديد من التدابير الطارئة التي نتخذها الآن على أنها تدابير مؤقتة ستصبح جزءاً أصيلاً من طبيعة حياتنا، وذلك بحكم طبيعة وماهية تلك التدابير التي تعمل على دفع العمليات التاريخية إلى الأمام بسرعة أكبر. ففي الأوقات العادية يستغرق تمرير بعض التدابير إلى سنوات من التداول والتشاور، في حين يتم تعجيل تلك القرارت في وقت الأزمات ووضعها قيد التنفيذ خلال ساعات حتى لو كانت خطيرة أو غير ناضجة كفاية، وذلك لأن عدم اتخاذ أي قرار قد تكون أخطر من التدابير المستعجلة غير المدروسة. وهذا هو حال كل الدول اليوم التي تعمل على الخدمات الاجتماعية (كالخنازير الغينية) لكن بنطاق أوسع.
والسؤال: ماذا سيحصل عندما تتحول إلى العمل من البيت، وتكتفي بالتواصل عن بعد؟ ماذا سيحصل عندما تعمل المدارس والجامعات من خلال الإنترنيت؟ في الأوقات العادية لايمكن للحكومات والمجالس التعليمية أوالشركات قبول هكذا إجراءات، لكن هذه أوقات استثنائية وليست عادية.
في هذا الوقت العصيب نحن نواجه تحديداً خيارين مهمين. الأول يتعلق: بين تمكين المواطنة وتفعيل المشاركة الاجتماعية من جهة وبين الرقابة الشمولية – التوتاليرية من جهة أخرى. والثاني: بين العزلة الوطنيّة – القوميّة وبين التضامن العالمي.
مراقبة ما تحت الجلد
من أجل وقف تفشي هذا الوباء يحتاج مواطنو كل الدول إلى الامتثال للتعليمات المحددة من قبل السلطات، لكنْ، هناك طريقتان لتحقيق ذلك. إحدى هذه الطرق أن تقوم الحكومة بمراقبة المواطنيين، ومعاقبة هؤلاء غير الملتزمين بالتعليمات الحكومية، ولاسيّما أن إمكان مراقبة كل شخص وفي كل الأوقات باتت ممكنة اليوم – ولأول مرة في التاريخ – وذلك بفضل تطور التكنولوجية. فمثلاً قبل خمسين عاماً لم يكن باستطاعة المخابرات السوفيتية مراقبة 240 مليون مواطن سوفييتي على مدار الساعة، ولم يكن بإمكانها أن تحلم حتى بمعالجة المعلومات التي قامت بجمعها بشكل فعال. لأنها كانت تعتمد على مخبرين ومحللين بشر، وبطبيعة الحال يصعب توظيف عميل لمراقبة كل مواطن. على عكس من ذلك فقد أصبح من الممكن للحكومات اليوم أن تعتمد على أجهزة استشعار موجودة في كل مكان تقريباً، وعلى خوارزميات فعالة وقوية بدلاً من أشباح الدم واللحم.
هذا هو حال العديد من الدول في مواجهتها لفيروس كورونا اليوم، حيث قامت عدة حكومات بالفعل باستخدام أدوات جديدة لمراقبة مواطنيها، وأبرز حالة على ذلك هي الصين. وذلك من خلال مراقبة الهواتف الذكية للأشخاص عن كثب، والاستفادة من مئات الملايين من الكاميرات القادرة على التعرف على الوجوه وبدقة، وإجبار الأشخاص على فحص درجات حرارة أجسادهم وتقديم تقارير دورية حول حالتهم الصحية. بحيث استطاعت السلطات الصينية ليس تحديد هوية حاملي فيروس كورونا أو المشتبه بهم فحسب، بل أيضاً تتبع تحركاتهم ومعرفة كل شخص كانوا قد اتصلوا به. عدا عن وجود العديد من تطبيقات الهواتف الذكية التي كانت ترسل تحذيرات للمواطنين عند اقترابهم من شخص آخر مصاب بالفايروس.
هذا النوع من التكنولوجيا لا يقتصر وجوده على الصين أو شرق آسيا فحسب؛ فمؤخراً أذنَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى وكالة الأمن الإسرائيلية باعتماد التكنولوجيا المخصصة عادةً لمراقبة ومحاربة الإرهابيين، لتعقب مرضى فيروس كورونا، وعندما رفضت اللجنة البرلمانية الفرعية المعنية الموافقة على هكذا إجراء قام “نتنياهو” بإعلان حالة الطوارئ.
قد يجادل البعض أن هذا الكلام لا يحمل جديداً، فالعديد من الحكومات والمنظمات تستخدم تقنيات أكثر تعقيداً من هذه بهدف مراقبة وملاحقة البشر والسيطرة عليهم. لكن رغم ذلك إن لم نكن حذرين اليوم فقد يكون هذا الفايروس نقطة تحول كبيرة في تاريخ مراقبة البشر. ليس لناحية تحويل تلك التدابير إلى أشياء مقبولة وعادية وحسب، ولاسيّما في الدول التي كانت رافضة لتطبيقها بالمطلق، ولكن أيضاً لأنها دلالة على تحوّل دراماتيكي بانتقال المراقبة إلى داخل أجسادنا (من فوق الجلد إلى ما تحت الجلد). فقبل فايروس كورونا كانت الحكومات تهتم بمعرفة الرابط الذي قام إصبعك بنقره على شاشة هاتفك الذكي، لكن بعد كورونا تحول تركيز واهتمام تلك الحكومات إلى معرفة درجة حرارة إصبعك وضغط دمك؛ أي تحوّل تركيزهم إلى معرفة ما “تحت الجلد”.
حلوى الطوارئ
واحدة من المشكلات التي نواجهها ونحن نقبع تحت المراقبة اليوم تتمثل في أنه لا أحد منّا يعرف بالتحديد كيف يتم مراقبتنا، وماذا يمكن للسنوات المقبلة أن تحمله لنا في هذا المجال. فتقنيات المراقبة تتطور باطّراد وبسرعة فائقة، وما كنّا نتعبره خيالاً علمياً قبل عشر سنوات أصبح أخباراً قديمة اليوم. فلنفترض جدلاً أن حكومة افتراضية ما تطلب من مواطنيها وضع سواراً بيولوجياً لمراقبة نبضات القلب، وضغط الدم على مدار اليوم. بحيث تقوم الخوارزميات الحكومية بتجميع وتحليل تلك البيانات، عندها ستتمكن تلك الخوارزميات من معرفة أنك مريض حتى قبل أن تشعر بمرضك، وأين كنت، ومن قابلت. إذاً، يصبح من الممكن تقصير سلسلة تفشي العدوى بل حتى وقفها بالكامل. يمكن القول أن هكذا أنظمة قادرة على وقف انتشار الأوبئة في بدايتها الأولى وخلال أيام. تبدو فكرة رائعة، أليس كذلك؟
لكنْ، بالتأكيد، هناك جانب سلبي لهذا الإجراء، هو أن هذه الأنظمة ستمنح الشرعية لنظام جديد ومرعب لمراقبة البشر. فعلى سبيل المثال: إذا كنت تعلم أنني أقوم بقراءة أخبار من خلال النقر على رابط فوكس نيوز بدلاً من النقر على رابط سي أن أن، فهذا سيمكنك من الاطلاع على بعض آرائي السياسية وربما على جانب من شخصيتي. لكن إن استطعت مراقبة ضغط دمي، وعدد نبضات قلبي، ودرجة حرارة جسمي أثناء مشاهدتي لمقطع فيديو، فهذا سيمكنك من معرفة ما يجعلني أضحك أو أبكي، والأشياء التي تجعلني أغضب بشدة.
في هذا الصدد من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. فالتكنولوجيا نفسها التي تميّز السعال يمكنها أن تميز الضحكات. وفي حال بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية على نطاق واسع، فستتمكن من التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف عن أنفسنا. هذا يعني أنهم ليسوا قادرين على التنبؤ بمشاعرنا وحسب، بل أيضاً السيطرة والتلاعب بها، وسيمنحهم القدرة على بيعنا أي شيء يريدونه، سواء كان ذلك منتجاً أو فكرة سياسية. من شأن المراقبة البيومترية أن تجعل اختراق بيانات “كامبريدج أنالتيكيا” مثلاً (وهي شركة إنكليزية خاصة تعمل على جمع البيانات الانتخابية وتحليلها) وكأنه تكتيك يعود إلى العصر الحجري. تخيل لو يضطر كل مواطن في كوريا الشمالية عام 2030 إلى ارتداء سوار بيومتري على مدار 24 ساعة في اليوم، وأن يلتقط هذا السوار إشارات واضحة من الغضب لك أثناء أحد خطابات “القائد العظيم”! ليس هناك شك أنه قضي عليك.
بكل تأكيد يمكن أن تكون المراقبة البيومترية تدبيراً مؤقتاً يرتبط بحالة الطوارئ المُعلنة وينتهي بانتهائها، لكن التدابير المؤقتة لها عادات سيئة بأنها تدوم أكثر من الحالة الطارئة نفسها، ولاسيّما مع وجود حالات طارئة مستجدة دائماً. فعلى سبيل المثال كانت إسرائيل قد أعلنت حالة الطوارئ أثناء حرب 1948، وبحجتها تم تبرير مجموعة من الإجراءات المؤقتة الأخرى، كمراقبة الصحافة، واستملاك الأراضي، وصولاً إلى تعليمات خاصة لصنع الحلوى ( أنا لا أمزح معك هنا). ورغم انتصار إسرائيل في تلك الحرب لكنها لم تقم برفع حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء الكثير من التدابير المؤقتة المفروضة في حينه، بما فيها توصيات صنع الحلوى التي أبطل العمل فيها بمرسوم عام 2011.
حتى عندما تتناقص الإصابة بفيروس كورونا إلى الصفر، فمن المحتمل أن تستمر بعض الحكومات المتعطشة للبيانات بإبقاء أنظمة المراقبة البيومترية في مكانها مبررةً ذلك بأنها تخشى حدوث موجة ثانية من فيروس كورونا، أو لأن هناك سلالة جديدة من فيروس إيبولا تتطور في وسط إفريقيا، أو لأن أو لأن . . . لقد وصلتك الفكرة. وهذا يحيلنا إلى المعركة الكبيرة التي تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول خصوصيتنا، فقد تكون أزمة فيروس كورونا هي نقطة التحول في هذه المعركة، لأنه عندما يوضع الناس بين خياري إما خصوصيتهم أوصحتهم ، فإنهم عادةً ما سيختارون صحتهم.
شرطة الصابون
إن جذر المشكلة هنا يكمن في صيغة السؤال المفروض نفسه، الذي يضع البشر بين خياري خصوصيتهم أو صحتهم، ببساطة لأنه تخيير كاذب. فنحن نستطيع، ويجب، أن نستمتع بالخصوصية والصحة معاً. فنحن قادرون أن نختار حماية صحتنا من وباء كورونا والقضاء عليه لكن ليس بتأسيس أنظمة رقابة شموليّة (توتاليرية) بل من خلال تمكين المواطنين وتعزيز دورهم. ففي الأسابيع الماضية نجحت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورا ببذل وتنظيم أكثر الجهود نجاحاً لاحتواء تفشي وباء كورونا، ورغم أنها اعتمدت بعض أنظمة التتبع إلا أنها اعتمدت أكثر على الاختبارات المكثفة، وإعداد تقارير موثوقة، وعلى رغبة الجمهور المُطلع في التعاون.
المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست الطريقة الوحيدة لجعل الناس يمتثلون إلى الإرشادات الضرورية. فعندما يتم إخبار الناس بالحقائق العلمية من الطبيعي أن تثق الناس بما تم إخبارهم به وفي رواية السلطات العامة. عندها يمكن للمواطنين أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى من دون أن يراقبهم الأخ الأكبرالموضوع على أكتافهم. فالسكان الذين لديهم دوافع ذاتية ومتنورون كفاية في ما يدور حولهم عادةً ما يكونون أكثر قوة وفعالية بكثير من هؤلاء المُجهّلين الخاضعين للشرطة.
فعلى سبيل المثال يعدّ غسل اليدين بالصابون – هذا السلوك البسيط الذي ينقذ آلاف الأرواح سنوياً- من أعظم النصائح على الإطلاق في علم الصحة والسلامة العامة في عصرنا، والذي نعده اليوم سلوكاً مسلماً به مع العلم أن اكتشاف أهميته على الصحة العامة يعود إلى القرن التاسع عشر. ففي الماضي كان حتى الأطباء والممرضات ينتقلون من عملية جراحية إلى أخرى من دون غسل أيديهم بالماء والصابون، لكن اليوم مليارات من البشر يقومون بغسل أيديهم يومياً ليس لأنهم يخافون من شرطة الصابون بل لأنهم على دراية كافية بفائدته على صحتهم. فأنا أغسل يدي بالصابون لأنني كنت قد سمعت عن الفيروسات والبكتريا، وأن الصابون يساعد في القضاء على هذه الكائنات صغيرة الحجم التي تسبب الأمراض.
لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون نحن بحاجة إلى الثقة. يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم، والثقة بالسلطات العامة، والثقة بوسائل الإعلام. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية قوّض السياسيون غير المسؤولين الثقة عمداً في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. هؤلاء السياسيون أنفسهم غير المسؤولين يميلون اليوم إلى السير في الطريق السريع نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكن الوثوق في الجمهور لفعل الشيء الصحيح.
هذه الثقة التي تآكلت لسنوات لا يمكن بناؤها بين عشية وضحاها، لكن هذه ليست أجواءً عادية، والعقول تستطيع أن تتغير بسرعة في زمن الأزمات. يمكن أن يكون لديك خلافات مريرة مع أشقائك لسنوات، لكن عندما تحدث بعض الظروف الاستثنائية تكتشف فجأة مخزوناً خفياً من الثقة والود، وتسارعوا إلى مساعدة بعضكم البعض. لذا، لم يفت الأوان بعد من أجل إعادة بناء ثقة الناس في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام بدلاً من المضي في بناء نظام مراقبة شمولي. كما يجب التأكيد على الاستفادة من التقنيات الجديدة لكن من أجل تمكين مشاركة المواطنين. فحتى لو كنت أؤيد مراقبة درجة حرارة جسمي وضغط دمي، لكن ليس من أجل استخدم هذه البيانات لتشكيل حكومة قوية، بل على العكس لتمكيني من محاسبة الحكومة على قراراتها، وأن تساعدني على اتخاذ خيارات أفضل في حياتي الشخصية.
إن تتبع حالتي الصحية على مدار 24 ساعة يعني أنني قادر على معرفة فيما إذا كنت أشكل خطراً على الآخرين من عدمه، وكذلك معرفة أفضل العادات الصحية التي تلائم حالتي الصحية المتوجب علي اتباعها. وإن تمكنت من الوصول إلى إحصاءات موثوقة حول انتشار فيروس كوورنا وتحليلها فهذا يجعلني قادراً على الحكم ما إذا كانت الحكومة تقول الحقيقة أم لا، وما إذا كانت تتبنى سياسات وتدابير صحيحة لمكافحة الوباء. فعند الحديث عن المراقبة يجب أن نتذكر أن التكنولوجيا نفسها المستخدمة لمراقبة الأفراد من قبل الحكومة يمكن استخدامها من قبل الأفراد لمراقبة الحكومات.
إذاً، إن وباء فيروس كورونا اليوم هو بمنزلة اختبار مهم لمواطنيتنا، وهذا يعني أن كل واحد منّا مطالب في الأيام المقبلة أن يختار بين الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية، أو بين نظريات المؤامرة التي لا أساس لها من الصحة، وهؤلاء السياسيون الذين لا يخدمون سوى أنفسهم. وفي حال فشلنا في اتخاذ القرار الصحيح، فقد نجد أنفسنا نوقع على وثيقة موت أغلى ما نملك وهو حرياتنا، معتقدين أن هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية صحتنا.
نحن بحاجة إلى خطة عالميّة
الخيار الثاني المهم الذي نواجهه هو بين العزلة الوطنيّة أو التضامن العالمي. هنا لابد من معرفة أنّ الوباء نفسه والأزمة الاقتصاديّة الوخيمة المترتبة عليه يشكلان مشلكة عالميّة، لا يمكن حلها بشكل فعال إلا من خلال التعاون على المستوى العالمي.
أولاً، وقبل أي شيء ومن أجل هزيمة الفايروس نحتاج إلى مشاركة المعلومات حول العالم. المشاركة ميزة عظيمة يمتاز بها البشر على الفيروسات. فالفيروس في الصين لا يمكنه تبادل المعلومات مع فايروس آخر في أميركا من أجل مهاجمة البشر، لكن الصين تستطيع تعليم الولايات المتحدة الأميركية دروساً قيمة حول هذا الفيروس وكيفية التعامل معه. وما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلان صباحاً قد يساهم في إنقاذ العديد من الأرواح في طهران مساءً. وعندما تتخبط حكومة المملكة المتحدة بين عدة سياسات لمواجهة هذا الوباء يمكنها طلب النصح من الكوريين الذين واجهوا بالفعل المعضلة نفسها منذ شهر، ولكن لكي يحدث كل هذا نحتاج أن تسود روح التعاون والثقة بين دول العالم كافة.
إذاً، على الدول أن تكون قابلة لتبادل المعلومات بشكل مفتوح وشفاف، وطلب النصيحة من الآخرين بتواضع ومن دون حرج. ويجب على الدول أن تثق في البيانات والأفكار المطروحة للتعامل مع هذه الأزمة. كما أننا بحاجة إلى بذل جهود على مستوى العالم من أجل إنتاج وتوزيع المعدات الطبية، ولاسيّما معدات الكشف عن الفيروس، وأجهزة التنفس. فبدلاً من محاولة كل دولة القيام بذلك محلياً وتكديس المعدات الممكن الحصول عليها، يمكن لجهد عالمي منسق أن يسرّع الإنتاج إلى حد كبير، ويضمن توزيع الأجهزة والمعدات الطبية القادرة بشكل أكثر عدالة من أجل إنقاذ أكبر عدد من الأرواح. ومثلما تقوم الدول خلال الحرب بتأميم الصناعات الرئيسة، مطلوب من البشرية في حربهم ضد فيروس كورونا “أنسنة” وعولمة خطوط الإنتاج القادرة على حسم هذه الحرب. وعلى الدول الغنية التي لديها عدد قليل من حالات الإصابة أن تبدي استعدادها لإرسال المعدات المطلوبة إلى البلدان الأفقر، التي تعاني من وجود حالات إصابة أكبر، وفي الوقت نفسه أن يكون لديها الثقة أن هناك دولاً أخرى ستأتي لمساعدتها في حال احتاجت لذلك مستقبلاً.
كما يمكن تكثيف الجهود العالمية لجمع العاملين في القطاع الطبي، بحيث تقوم الدول الأقل تضرراً بإرسال وحدات طبية للدول المتضررة بشكل أكبر، ليس لتقديم العون فحسب، بل من أجل اكتساب الخبرة اللازمة. مع الثقة أنه في حال تغير اتجاه تفشي المرض يمكن أن تصبح المساعدات بالاتجاه الآخر.
التعاون العالمي مطلوب أيضاً على الصعيد الاقتصادي، وذلك بالنظر إلى الطبيعة العالميّة للاقتصاد المبني على سلسلة من التبادل التجاري، وتجاهل الحكومات لهذه الحقائق ولضرورة تقديم المساعدة إلى الحكومات الأخرى من شأنه أن يعمق الأزمة، وينشر الفوضى أكثر، لذلك نحن بحاجة ماسة ومستعجلة لخطة على مستوى كل العالم.
كذلك يجب أن تفضي هذه الخطة إلى اتفاق عالمي بشأن السفر، لأن تعليق الرحلات الدوليّة بالكامل ولمدة أشهر سيتسبب في صعوبات هائلة تعرقل الحرب ضد فيروس كورونا. فالحاجة ملحة من أجل التوصل إلى إتفاقية دوليّة تسمح لعدد قليل على الأقل من المسافرين العاملين في القطاعات الأساسية بمواصلة عبور الحدود، كالعلماء والأطباء والصحفيين، والسياسيين، ورجال الأعمال. بحيث تتضمن هذه الإتفاقية ضرورة الفحص المسبق للمسافرين قبل مغادرة بلدانهم. فإذا كنت تعلم أنه لن يُسمح إلا للمسافرين الذين تم فحصهم بعناية بالصعود إلى الطائرة فستكون أكثر استعداداً لاستقبالهم في بلدك.
لكن لسوء الحظ الدول اليوم بالكاد تفعل أياً من هذه الأشياء، وكأنه شلل جماعي أصاب المجتمع الدولي، لدرجة تشعر معها أنه لا يوجد عقلاء بالغون في الغرفة. كان المرء يتوقع أن يرى اجتماعاً طارئاً لقادة العالم منذ أسابيع بهدف التوصل إلى خطة عمل مشتركة وهذا ما لم يحدث. حتى قادة مجموعة السبع الذين تمكنوا من تنظيم مؤتمر بالفيديو مؤخراً لم يخرجوا بخطة من هذا القبيل.
فعلى عكس الأزمات العالمية السابقة، مثل الأزمة المالية عام 2008، ووباء إيبولا عام 2014، تولت الولايات المتحدة حينها دور القائد العالمي، إلا أن الإدارة الأميركية الحاليّة تخلت عن هذا الدور، وأوصلت رسالة واضحة مفادها أنها تهتم بعظمة أميركا أكثر من اهتمامها بمستقبل البشرية.
لقد تخلت هذه الإدارة حتى عن أقرب حلفائها وذلك عندما حظرت السفر من الاتحاد الأوروبي، ومن دون التشاور مع الدول الأوروبية حول هذا الإجراء القاسي، بل إنها لم تكلف نفسها عناء إبلاغهم. بل أكثر من ذلك، قامت وبشكل فاضح بتقديم عرض بمليار دولار لشركة أدوية ألمانية بهدف شراء واحتكار بحوثها العلمية الهادفة لإيجاد لقاح جديد لفيروس كورونا. بعد كل هذا حتى لو قامت الإدارة الأميركية في النهاية بتغير استرتيجيتها، وطرحت خطة عالمية لمواجهة الفيروس، فإن القليل من الدول ستقبل اللحاق بزعامة غير مسؤولة بالمطلق، ولا تعترف بأخطائها، ودائماً ما تنسب الفضل لها وتلقي باللوم على الآخرين.
إذا لم يتم ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قبل دول أخرى، فستزداد صعوبة إيقاف الوباء الحالي، بل وسيستمر هذا الإرث في تسميم العلاقات الدولية لسنوات مقبلة. على الرغم من ذلك، فإن كل أزمة يمكن أن تكون فرصة، ويجب أن نأمل أن يساعد هذا الوباء البشرية على إدراك الأخطار المحدقة المتأتية من الانقسام العالمي.
فالبشرية أمام مفترق طرق، فهل سنستمر في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الانقسام، فهذا لن يؤدي سوى إلى إطالة أمد الأزمة، بل سيؤدي على الأرجح إلى كوارث أكثر سوءاً في المستقبل. أما إذا اخترنا التضامن العالمي، فسيكون هذا نصراً ليس على فيروس كورونا فحسب، بل ضد جميع الأوبئة والأزمات المستقبلية التي قد تواجهها البشرية في القرن الحادي والعشرين.