جسر: متابعات:
أظهرت ردات الفعل المحلية، على كلام الرئيس اللبناني ميشال عون حول ما سماه «ارهاب الدولة العثماني»، سواء منها المحتفية بهذا الكلام أو المتحفظة والشاجبة، كم أن مفهوم «الإمبراطورية» بات من الصعب استيعابه لدى معظم الخائضين في السجال والجدال الذي افتتحه عون حول الماضي العثماني، على أعتاب مئوية التأسيس الكولونيالي الفرنسي لدولة لبنان الكبير، مع أن فيصل التفرقة بين ما للإمبراطورية وبين ما للدولة الوطنية في غاية المحورية، اذا ما أريد الخوض في تاريخ غرب آسيا وجنوب شرق أوروبا المتشابك ببعضه البعض، بشكل نسقي، ضمن البوتقة العثمانية.
بالمطلق، ليس من السيئ أبدا فتح الباب للتداول من مواقع متباينة، متكئة حول ذاكرات مختلفة، في المسألة الكيانية اللبنانية، انطلاقا من إثارة «المسألة العثمانية».
ففي أقل تقدير، المدخل العثماني هذا، وبخاصة حين يظهر عدم اتفاق اللبنانيين حوله، بمقدوره ان يفتح بجرأة على قضايا الخلاف العميقة بين اللبنانيين حول ماهية الكيان الوطني نفسه، المولود بعد الجلاء العثماني، وبعد التقويض الفرنسي للمملكة العربية السورية، وليس بالاستقلال عن السلطنة العثمانية، كما يوهم الخطاب التلفيقي نفسه.
هو كيان مولود بالاستجابة الكولونيالية العسكرية الفرنسية لفئة لا تجمع عليه ـ متخوفة من أن تبتلعها توسعة الكيان، ومستقوية به على أخرى خافت ان يخنقها هذا الكيان، ثم تنسمت فيه فضاء حرية. وهذه الفئة الأخرى أشعرتها نشأة الكيان بالاغتراب عنه، ولم يكن واضحا لديها ما العمل بازاء استمراره، وتطورت علاقتها بسرعة به منذ سني نشأته الأولى ككيان، وبتحفيز المنتدب نفسه وسياساته، بأن صارت داخله وخارجه في ذات الوقت.
ما هو سيئ في المقابل، على ما هو باد حتى الآن، هو تنطح الجاهلين بالتاريخ العثماني إلى أقصى حد، والمجترين لسرديات خرافية تمسخ التاريخ إلى مرويات تبجيلية لطوائف مصطفاة بعينها أو مسرحا لغلاظة الأحكام الأخلاقوية ليس أكثر.
المكابرة على انتفاء أي تعاقد اجتماعي او سياسي من اي نوع في لحظة ولادة لبنان الكبير هي الدافع الأساسي وراء هذه الموجة الانتي عثمانية، على محك مئوية كيان لم يخرج من السلطنة بثورة عليها، حال اليونانيين او البلغار، وإنما بهزيمتها في الحرب الكبرى.
فكيف اذا كان من يريد الافتاء في أمر العثمانيين جاهل فوق هذا، بأن من شروط الخوض التنبيه إلى أنه لا لبنان الذي نعرف ولا تركيا التي نعرفها كانا موجودين في العصر العثماني، كي يصار من ثم إلى تحديد شكل التبعية.. او الفضل.
لبنان هو من تبعات انهزام السلطنة وجلائها عن الولايات العربية، ووقوع الأخيرة تحت الاستعمار الفرنسي او الإنكليزي. وتركيا الحديثة هي نتيجة انتفاضة الأناضوليين بقيادة مصطفى كمال على بقايا السلطنة التي ارتضت الاستسلام في معاهدة سيفر، فكان ان نجحت هذه الانتفاضة، حرب الاستقلال الوطني التركية، في تحقيق الدولة القومية السيدة، بل ذهبت بعيدا في القطيعة مع الماضي العثماني، دينا ولغة، لكن أيضا بالانطلاق من مقدمات الإصلاحيين العثمانيين أنفسهم.
والجاهل هنا جاهل لجهله من الأساس، ويعتبر ان بضع عبارات حول السلطنة، اذا كانت دولة الخلافة، أو اذا كانت استعمارا بغيضا، يكفيانه للخوض والفصل في النقاشات.والجاهل هنا، سواء تجلى في صيغة محازب ميليشياوي أو ناشط حقوقي أو فنان محنط، يشاغب على نقاش في غاية الأهمية، افتتحه عون بالنتيجة، من حيث يقصد او لا يقصد، وجدير به أن يمهد السبيل إلى منازعة مؤرخين فعلية، والى ورشة فكرية ساخنة.
ولا يقتصر الجهل الجاهل نفسه على المصابين برهاب الترك، بل يشمل الانفعالية المذهبية المسحورة والرعاية، المتصدية لهذا الرهاب، فهي لا تظهر عن معرفة جدية بالتاريخ العثماني هي أيضا.
فالشرط الأول للنظر في التاريخ العثماني أنه ينقسم إلى مراحل، وتجتازه استقطابات مختلفة في كل مرحلة، بحيث انه لا يمكن أن تتناول كل هذه التركة العثمانية دفعة واحدة، أو بجرة قلم.
مضت أكثر من خمسة قرون على الفتح العثماني للشام ومصر وتقويض سلطنة المماليك، مع البقاء على النظام المملوكي مستتبعا لها في مصر. الحكم على خمسة قرون باختزالية تبييض كل الصفحات أو تسويد كل الصفحات أسهل على الجاهل من المنقب. وأساسا، ستجد أن المصاب برهاب العثمانية مصاب أكثر من ذلك بمصاب المماليك، أي أنه، في أقل تقدير غير قادر على استيعاب التراكم التاريخي الحضاري الذي يعني بلاد الشام ووادي النيل منذ القرن الثالث عشر ميلادي.
وقد تقاطعت هنا عناصر مختلفة لهذا الاسترسال بالعثمانوفوبيا والمملوكوفوبيا. منها استيراد تلك النظرة الاستشراقية التي قالت بدخول الحضارة الإسلامية عصر الانحطاط مع ضعف الخلافة العباسية، محملة وزر هذا الانحطاط الى العنصر التركي. وهذا مروق محض، من زاوية كل التراكم البحثي المعرفي المحقق بصدد السلاجقة او المماليك او العثمانيين.
ومنها الايديولوجية القومية العربية التي، نهلت من هذا التقبيح الاستشراقي المصدر، لدور السلطنات «التركية» في التاريخ، بل زادت عليه الشكوى من كل اسهامات «الموالي» في حضارة الإسلام.
ومنها الأساطير الكيانوية اللبنانية التي اخترعت لنفسها اما استقلالية فوق واقعية عن المماليك والعثمانيين، وكيانية موجودة غصبا عن هؤلاء واولئك، واما ركنت كل هذا التاريخ إلى اضطهاد ومقاومة اضطهاد.
ومنها النقمة ذات المصدر الوهابي، على العثمانيين واسلامهم السني الصوفي، والمستذكرة لحملة اولاد محمد علي باشا، بتوجيه من الباب العالي، على نجد، لتخريب الدولة السعودية الأولى في الدرعية… وتضاف إلى ذلك حيثيات التباين بين أنقرة وكل من الرياض وأبو ظبي في السنوات الأخيرة.
لا يمكن اليوم الوقوف على ما كانت عليه السلطنة من دون فهم ما كانت عليه الإمبراطوريات ككل، والإسلامية منها على وجه الخصوص. بخلاف الدول القومية، لا تقوم الإمبراطوريات على مبدأ المجانسة والاندماج بين مكوناتها السكانية، بل على تدبر أحوال الاختلاف بين الأمصار والأقوام على نحو تراتبي وغير ممركز في آن.
لكن السلطنة نفسها، وفي ظل تآكل رقعتها بالبلقان نتيجة انفصال الشعوب عنها على هدى الأفكار القومية، ونتيجة اقتطاع المستعمرين لتركيا الأفريقية، كما كانوا يسمونها، اخذت تطرح على نفسها هي بحد ذاتها، التخلي عن النموذج الإمبراطوري، لتحقيق الدولة الأمة.
مع كل الكوارث والشرور، فإن تركيا هي التي أفلحت في النهاية بذلك التحويل، بتلك القطيعة. هذا بخلاف اللبنانيين.
القدس العربي 9 أيلول/سبتمبر 2019