علي عبدون
تحتفل اليونسكو سنويًّا منذ العام 2002 باليوم العالميّ للفلسفة الذي يصادف الخميس الثالث من شهر تشرين الثاني. وتريد اليونسكو بهذا الاحتفاء أن تبيِّن قيمةَ الفلسفةِ الدائمةَ في تنمية الفكر الإنسانيّ على مر العصور. تظهر هذه الاحتفالية أهميّة الفلسفة بكونها أداة فكريّة وعقلانيّة تسهم في معالجة الإشكاليات الكبرى المرتبطة بعصرنا، بالنّظر إلى ما تقدّمه من إسهام في تطوير عمليّة التفكير الحّر والمنطقي للأفراد والجماعات، الأمر الذي يحدّ من التعصّب الفكريّ والتطرف الدينيّ، ويساعد من ثمّ على مواجهة الخطاب الدينيّ الأصوليّ، مما يُسهم في تقوية الرابط الإنسانيّ وفق أسس عقلانيّة وأخلاقيّة.
تُعدّ الفلسفة أكثر من مجرّد اختصاص مهنيّ. إنها أسلوب تفكير وطريقة عيش، إذ تتعدى بمجالاتها الإطار النظري القائم على طروحات فكرية مجرّدة، لتدخل بتأثيراتها في صلب الممارسة اليوميّة، وفي طريقة تفكير الفرد بخاصّة في المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. وكلّ ذلك من خلال ما تحفل فيه الفلسفة من ذخائر معرفيّة، ومن مفاهيم عقلانيّة تحثّ على إعمال الفكر وممارسة النقد واحترام حقّ الاختلاف وحريّة الرأي ضمن إطار من تقبّل الآخر والإيمان بثقافة الاختلاف.
بذلك تتحوّل الفلسفة من وظيفة معرفيّة إلى وظيفة تحرريّة تسهم في تحرّر الذات البشرية من سطوة الأفكار المتزمّتة ومن الثقافات الجامدة وما تحمله من أوهام القبيلة والعرق والنزوع نحو رفض الآخر وتكفيره. فتحرير الذات يضعنا أمام بيئة فكريّة جديدة تنتمي إلى الحداثة بمعناها الفكريّ ذلك بأنّها تترك آثارها الواضحة في كلّ مجالات الحياة، وتسهم إسهامًا فعالاً في خلق إنسانٍ جديدٍ ينتمي في تفكيره إلى الواقع الراهن وأسئلته، ويبتعد عن سجون الماضي وآلامه.
يرتبط تاريخ الفلسفة إذًا، بتاريخ الإنسان. فالشكل المتحقّق لفلسفةٍ غالبًا ما يكون معاصرًا لنمط متحقّق ومحدّد من الشعوب، ويعكس من ثمّ روح هذا الشّعب وتنظيم حياته، فضلًا عن جوانب إبداعاته الماديّة والفكريّة.
استنادً إلى ما تقدّم، وأمام هذه القيمة الفكريّة الدائمة للفلسفة بكونها أحد أهمّ النتاجات البشريّة التي تسهم في بناء الإنسان عقليًّا ونفسيًّا، وفي أنسنته وتطويره كذات فاعلة ومتفاعلة مع مجتمعها ومتطلباته، لا بدّ لنا من أن نطرح إشكالية حضور الفلسفة في الفضاء العام العربيّ، ومدى تأثيرها في الأفراد والمجتمعات العربيّة. وعليه تبرز أمامنا مجموعة من التساؤلات الأساسية، هل يمكننا أن نتحدّث عن فلسفة أصيلة في عالمنا العربي؟ هل الفلسفة حاضرة كحاجة معرفيّة أم كأداة إيديولوجية؟ هل لها أثرٌ كبيرٌ في الفضاء العام العربيّ؟ وما هي العوائق التي لا تزال تمنع الفلسفة من أن تحتلّ مركزاً رياديًّا في فضائنا العربي العام؟
بدا الاهتمام بالفلسفة لافتًا في السنوات الثلاث الماضية، إذ عمدت بعض الدول العربية إلى إدخال الفلسفة كمادة تعلميّة في المنهاج المدرسيّ، كذلك توجهت دولٌ أخرى إلى افتتاح أقسام للفلسفة في جامعاتها الوطنيّة، فضلاً عن إطلاق وتأسيس مراكز أبحاث ودراسات ودور نشر، وإقامة مؤتمرات وندوات تعنى بالشأن الفلسفيّ، وتروّج له. كل ذلك أعاد الفلسفة إلى الفضاء العربيّ العام، كقيمة فكرية ثمينة يُعاد إبرازها من جديد لدواعي الانفتاح والتطوير والدخول إلى عالم الحداثة وما بعد الحداثة.
ولكن هذا الاحتفاء بالفلسفة بعد اختفائها لا يمنعنا من المضيّ قدمًا في الجواب عن السؤال الذي كنا قد طرحناه لناحية وجود خطاب فلسفيّ عربي أصيل ينتمي بمناهجه ومصطلحاته إلى جينولوجيا الواقع العربيّ وإشكالياته.
يبدو جليًّا حضورُ الفلسفة الغربية في تكوين طبيعة الخطاب الفلسفي العربيّ سواء على صعيد الحقلين المعرفيّ والاصطلاحيّ، أو لناحية المنهج وآليات التفكير. ولعلّ النتاجات العربية الفلسفية تعطينا جوابًا واضحًا عن هذا الأمر، عندما نعاين تحوّل وظيفة المفكّر العربي من إبداع نصّ إلى مجرد مترجم لنصوص فلسفيّة غربيّة، إلى حدّ أنّنا نلحظ مدى حضور التيارات الفلسفيّة الغربيّة في كتب المفكّرين العرب وطروحاتهم، ويبدو ذلك ملفتًا من خلال التواجد الكثيف للفلسفة الفرنسية (سارتر، فوكو، دريدا، ريكور…) وكذلك للفلسفة التحليلية (راسل، فيتخنشتاين) وأيضًا لفلاسفة الفينومنولوجيا (هوسرل، هيدغر) ولمدرسة فرانكفورت بأجيالها المختلفة (من هوكهايمر، إلى هابرماس)، وطبعًا لا ننسى الخطاب الفلسفيّ الألمانيّ من هيغل وماركس مرورًا بكانط ووصولاً إلى نيتشه وغيره. لا يعني ذلك أننا ضدّ مسار الخطاب الفلسفيّ العربيّ هذا، ففي ما يتعلّق بترجمة النتاجات الفلسفية الغربية ونقلها إلى العربية، نرى في ذلك مجالاً إيجابيًّا، إذ إنّ الفعل الترجمانيّ يساعدنا على تجاوز عوائق اللغة ويضعنا أمام ذخائر الثقافة الغربية، بما يسهم في اغناء الخطاب الفلسفي العربي المعاصر ورفده بمعارف جديدة، وتجارب إنسانية مختلفة.
ولكن جلّ ما نريده في هذا المجال، هو تبيُّن كيفيّة تحوّل النتاجات الفلسفية العربية إلى مجرد دراسات وتحليلات للفكر الفلسفي الغربيّ بشكل ابتعد فيه الخطاب الفلسفي العربي عن الخوض في إشكالياته الثقافيّة وحاجاته المعرفية ورهانات حاضره الفكرية، واكتفى باستحضار حرفيّ لأسئلة العقل الغربي، وتساؤلاته بشكل انتقائيّ عام تحاشى فيه مرغمًا الدخول في حقول معرفية ما زالت تتّسم بطابع المقدّس والمحرم.
هكذا تحوّلت الفلسفة العربية بمعظمها إلى مجرد طروحات نظرية عامة ابتعدت عن الآن والهنا، وحلّقت في عالم التجريد والمطلقات، إذ استخدمت الفلسفة كأداة مبحثيّة في خدمة الإيديولوجيات الأصوليّة حيث تمت مقاربة الموضوعات الفلسفيّة بعقل فقهيّ لا بعقل فلسفيّ ناقد. وكلّ ذلك بسبب تسيَد الخطاب الأصولي الفضاء العربي العام، الأمر الذي حدّ من تأثير الفلسفة، وشلّ فاعليتها وأفضى إلى إعراض المجتمع عنها. ومن ثمّ قيّدها بأغلال ثقيلة ومنعها من الحفر المعرفيّ في حقول الدين والسياسة والاجتماع. فبدل أن تنطلق الفلسفة في فضائنا العربيّ العام لتنكبّ على إعمال العقل في الطروحات الدينيّة والسياسيّة والعلوم الاجتماعية مستفيدةً من التجارب الغربية، لتمضي قدمًا في كسر الأوهام وتحطيم الأوثان الفكريّة وتعرية الواقع العربيّ بكل مجالاته وفضح ادعاءاته، نراها على العكس من ذلك. فعلى الرغم من تصدّرها المشهد من جديد، إلا أنّه تمّ تدجينها من خلال وضع حدود لمسار تحرّكها ومجالات بحثها والغايات المطلوبة منها.
فالفلسفة لا يمكن أن تحيا وتعيش في ظلّ هيمنة الخطاب الأصوليّ الدينيّ وسيطرته على مجالات الفضاء العام، هذا الخطاب الذي نجح في تحويل الدين نفسه إلى إيديولوجيا متزمتة، منعت المشتغلين في الفلسفة من النظر العقلي النقدي في النص الديني أو حتى مقاربته بمنهجية فلسفية، إذ تمّ وسم كل مجدد أو باحث مخالف لثقافة السائد بالهرطقة والتكفير، مما خلق تياراً واسعًا مقاومًا للفلسفة بدعوى معاداتها الدّين، ففشلت الفلسفة العربية في صياغة خطاب فلسفيّ حداثيّ حقيقيّ قادر على ممارسة التفكير بعقل نقديّ متحرّر من الانتماءات الضيّقة وسطوة الأصوليّات الدينية السائدة.
لقد فُرض على الفلسفة أن تنسحب من النقاش العام، وأن تترك المجال رغماً عنها للإيديولوجيا الأصولية والطروحات الثقافية المرتبطة به. فأضحت الفلسفة اليوم حقلاً طفيليًّا يتغذى على ما تسمح به سلطة السائد الدينية من نقاشات تقنية تتّسم بالعمومية والتجريد، ولا تعدو كونها ترفًا فكريًّا لا يطال بتأثيراته المجال العام العربيّ بكلّ تفرعاته السياسية والاجتماعية، لينحصر في مجالات تقنية ولغوية محددة.
هكذا هي حال الفلسفة اليوم في فضائنا العربيّ العام، فعلى الرغم من كل مظاهر الاحتفاء والتقدير بها كقيمة دائمة وكنزٍ فكريّ لا غنى عنه، إلا أنّ واقعها في عالمنا العربي مازال رهينَ سلطةِ السائد الدينية وتوجهات الأنظمة السياسية وغاياتها، اللذين يشكّلان معاً عائقاً قوياً يمنع من إطلاق العنان للخطاب الفلسفي العربيّ وجعله يتحرّر من كلّ الممنوعات والمجالات التي رسمت له.
في النهاية، مازال العقل العربيّ يتوارى خلف حجب وسواتر إيديولوجية من شأنها أن تمنعه من ممارسة فعل التفلسف الحرّ والصريح، وتجعله أسير قوالب تفكير جامدة لا يمكنه الخروج عنها، لذلك لم يبارح العقل العربي مرحلة السبات الدوجماطيقي الذي جعله يغرق في بعدٍ واحدٍ محدّد، من شأنه أن يبعده عن التفلسف ويجعل من الفلسفة حاضرة كأداة ايديولوجية لا كحاجة معرفيّة وتحرريّة في فضائنا العربي العام.
المصدر: المدن