عبد الناصر العايد
خابت آمال القوى المُراهنة على تطبيع علاقات نظام الأسد مع القوى الإقليمية والدولية، ولا تبدو في الأفق فرصة على الصعيد العربي الرسمي، بعد رفض مشاركته في القمة العربية، ولا على المستوى الدولي بعد تأكيد القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية على تجريمه والإصرار على محاسبته. الأمر الذي دفع روسيا إلى اصطناع عملية تطبيع محلية بين النظام وأشباه الدويلات السورية الأخرى التي تنازعه السيطرة، على أمل أن يفضي ذلك إلى فرض التطبيع الخارجي كأمر واقع بعد تفكيك القضية السورية داخلياً وإعانة النظام على بسط نفوذه على كامل البلاد ولو صُورياً.
لا تستطيع روسيا أن تنجز هذا التطبيع الداخلي بعيداً من شريكيها في مسار أستانا، تركيا وإيران. لكن يبدو أيضاً أن طرفاً عربياً واحداً على الأقل يقبع في الكواليس، ولا يستطيع هؤلاء الشركاء جميعاً أن يتقدموا في خطتهم إلا على محورين إثنين، هما: الحاجات الاقتصادية المُلحّة للسكان المحليين، والتهديد الأمني.
لم تتوانَ تركيا، التي تسيطر فعلياً على منطقة واسعة في شمال سوريا، وتسيطر بطريقة غير مباشرة على إدلب التي تحكمها “هيئة تحرير الشام”، عن إطلاق الإشارات الدبلوماسية المتتالية على انخراطها في مسار التطبيع، الذي يعني من وجهة نظرها الحفاظ على وحدة سوريا، أي إزالة الكيان الكردي، وإعادة دمج شمال شرقي سوريا بسلطة مركزية، حتى لو كانت سلطة الأسد. وجاءت أول إشارات التطبيع الواقعية، خلال افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق سيطرة تركيا بمناطق سيطرة النظام، مع استعدادات حثيثة لإعادة تفعيل طريق M4 الذي يربط شرق سوريا باللاذقية. ويبدو أن خطوات أوسع، مثل فتح باب التبادل التجاري مع مدينة حلب التي تسيطر عليها قوات النظام، وريفها الشمالي الذي تسيطر عليه فصائل تابعة لتركيا، تنتظر بعض التطورات ليتم اتخاذها.
وقد اتخذت “تحرير الشام”، المُسيطرة على إدلب، خطوة مشابهة بالتجهيز لافتتاح معبر سراقب، وليس من المحتمل إنها اتخذت هذا القرار بمعزل عن تركيا أو التنسيق معها. فما يمكن أن يقدمه الجانب التركي في عموم هذه الصفقة، هو جلب الأطراف المعارضة في الشمال إلى عملية تفاوض داخلية، لإنهاء وجودها المستقل، في مقابل جلب روسيا وإيران لقوات سوريا الديموقراطية “قسد” إلى تلك العملية وتفكيكها.
تكمن الصعوبة في هذه العملية في العقدة الكردية. إذ، على الرغم من عدم وجود حالة عدائية بين “قسد” والنظام، وعدم خوضهما أي مواجهات قتالية طوال السنوات الماضية، إلا أن تلك “قسد” تتمتع بغطاء أميركي يجعل الضغط عليها عملية صعبة، وتتمترس بمطالب قومية يصعب تحقيقها. ومع ذلك، تم إنجاز مرحلة التطبيع الاقتصادي في مفاوضات أجريت في مدينة الطبقة، منتصف الشهر الماضي، بقيادة روسيا، تمخضت عن اتفاق لتوريد النفط والحبوب لمناطق سيطرة النظام بانتظام، إلى جانب اتفاقية لتحويل عدد من معابر التهريب على نهر الفرات إلى معابر رسمية، بطريقة مشابهة لمعبَري أبو الزندين وسراقب. لكن المفاوضات السياسية القائمة الآن في دمشق، بين وفد من “قسد” وآخر من النظام، بحضور تركي غير مباشر ورعاية روسية، ما زالت تواجه الكثير من الإشكاليات المعقدة. فالطرف التركي ما زال يرفض بشدة أن يتضمن الاتفاق أي تلميح لكيان كردي منفصل، أو حتى لحقوق قومية كردية في سوريا، يمكن أن تصبح سابقة تعاني أنقرة من تبعاتها لاحقاً.
هي إذن عملية تفاوض داخلية في سوريا، تخوضها القوى المسيطرة على الأرض، برعاية القوى المهيمنة الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، وتسحب البساط، ليس فقط من تحت عملية التفاوض الدولية المقررة رسمياً وفقاً للقرار 2254، بل تتجاوزه إلى ضرب عرض الحائط بمقررات مسار أستانا اللاحق، رغم أن العملية الأخيرة هي ثمرة لذلك المسار.
ليس من المستبعد أن تنجز هذه المحاولة أهدافها، ما دامت كل القوى الفاعلة على الأرض السورية منغمسة فيها، باستثناء الطرف الأميركي الذي تشير المعلومات إلى إمكانية انسحابه من سوريا عند نهاية هذا العام، وهي معلومات يؤكدها سلوك الطرف الكردي وسعيه الحثيث لإبرام اتفاق، في أسرع وقت، وبأفضل النتائج، وتقديمه تنازلات لافتة في المفاوضات الجارية الآن.
عملية التفاوض الداخلية هذه، ستعني بتر القضية السورية عن سياقها السياسي الإقليمي والدولي، وتحويلها إلى عملية تسوية داخلية، تبدأ من التبادل الاقتصادي التجاري وتحقيق مكاسب اقتصادية للأطراف المشتركة فيها، تليها حركة سكانية بين مناطق السيطرة المختلفة وعودة مجموعات من النازحين الداخليين إلى مناطقهم، وعمليات دمج تدريجية للجماعات المتصارعة، وصولاً إلى مشهد يقود فيه الاقتصادي والأمني حالة من الوحدة والتماسك الهش يتربع عليها بالضرورة نظام الأسد.
لم تبدأ هذه العملية اليوم، بل منذ حلول روسيا في سوريا العام 2015، والذي استهلّته بتجزيء القوى المعارضة وفق استراتيجية “مناطق خفض التصعيد” التي انتهت بالقضاء على معظم القوى العسكرية المعارضة، واستُكملت في مسار أستانا الذي مزق القوى السياسية السورية المعارضة وأضعف قوتها حتى أصبحت غير منظورة. ولا يوجد ما يهدد نجاح الخطة الحالية سوى عاملَين إثنَين: الأول، هو صعوبة بتر القضية السورية عن سياقها السياسي والإقليمي والدولي وانهاء حالة “التدويل” وخفضها إلى شأن أمني واقتصادي محلي. والثاني، هو الرفض الدولي لنظام الأسد. لكننا لا نستطيع أن نعول كثيراً على هذين العاملَين، فالتجارب القريبة، في سوريا على الأقل، تقول أن مَن يسيطر على الأرض، يقرر في النهاية ما يجب أن تكون عليه السياسة.
المصدر: المدن