جسر – متابعات
منذ الأيام الأولى التي يصل فيها اللاجئ إلى بلد اللجوء، يبدأ بترتيب حياته الجديدة من حيث وضعه القانوني ونوع إقامته، وفكرة لمّ الشمل للمتزوجين أو من لديهم أهل في سوريا يبتغون الوصول إلى بلد اللجوء، والسكن، والتعلم، والعمل.
يكتشف اللاجئ أولاً بأول أن تلك البلاد مختلفة عن فكرة السفر إلى الخليج مثلاً كما سمع من تجارب السابقين، حيث إنها تهتم بترتيب وضعه القانوني أولاً وتحرص على تحضيره للتواصل مع المجتمع الجديد لغة وثقافة، وهذان أمران لا يحتاج إليهما المهاجر السوري إلى الخليج لأنه يتقاطع مع المجتمع الخليجي لغة وثقافة بطريقة أو بأخرى، واللاجئ ليس بمهاجر، هذا يعني أن له ترتيبات قانونية مختلفة كلياً. فهو ضحية بعين القوانين في البلد الجديد، ولا بدّ من تقديم دعم كامل له، على مستويات عدة يفوق ما يتم تقديمه للمواطن الهولندي مثلاً، بخاصة قضية السكن، حيث إن اللاجئ يحصل على بيت خلال ستة أشهر، والآن بعد التعديلات خلال سنة ونصف، فيما ينتظر المواطن الهولندي سنوات طويلة قد تصل إلى 13 عاماً كما الشأن لدى شباب وصبايا أمستردام.
وبما أن الظروف صعبة في البلد التي قدم منها اللاجئ وهناك أفواه فاغرة تنتظر منه حلاً، فإن الإلحاح والرغبة بالحلول السريعة سمة عامة لدى اللاجئين، خاصة أن المنظومة القانونية في بلدانهم الأم تختلف اختلافاً كلياً عن بلدان اللجوء، التي تتسم بالبيروقراطية والبطء في الإجراءات والدخول في التفاصيل، نتيجة الضغط في طلبات اللجوء أو محاولة تشويه سمعة بلدانهم “لجوئياً” كي لا يبقى بلدهم وجهة مفضلة لدى اللاجئين. ويمكن أن نذكر أن الحصول على الإقامة في هولندا مثلاً كان سنة 2013 يستغرق شهراً، فيما يستغرق الآن فترة تصل إلى السنة، وكان الوقت اللازم لحصول اللاجئ على بيت حده الأقصى ستة أشهر، أما الآن فحدّه الأقصى سنة ونصف.
تنص القوانين الهولندية على أنه لا يسمح للشخص بالعمل قبل حصوله على إقامة الخمس سنوات، وتتولى الحكومة عبر منظماتها المختصة رعايته في تلك الفترة وتقديم سبل العيش الأساسية له من طعام وشراب ومنامة له، وبعد حصوله على إقامة الخمس سنوات يسمح له بالعمل، لكن ها هنا يبدأ اللاجئ بـ “التفتح القانوني واللاقانوني” والتعرف إلى سلبيات وإيجابيات أن يوقع عقد عمل مع جهة ما، فتنشأ فكرة العمل بالأسود وهي تعني العمل من دون عقد، والعمل بأجر أقل وظروف عمل غير ملائمة، وكذلك يعني أنك تعمل سراً من دون إخبار الجهات التي ترعاه وتقدم له المساعدة، بمعنى آخر مخالفة القوانين والاحتيال.
يشير مكتب الإحصاء الهولندي إلى أن هناك مجالات عدة للعمل بالأسود هي العمل في المطاعم بخاصة الجلي وتوصيل الطلبات، والعمل في البناء، والعمل في المزارع والتنظيف… والحاجة للعمل في الأسود تنبع من حاجة سوق العمل كذلك، ووجود شريحة من أرباب العمل تضطر لتسيير شوؤن عملها للاعتماد على تلك الشريحة، خاصة أننا أمام سوق عمل لديه فرص عمل معروضة عددها نصف مليون فرصة.
العمل بالأسود فيه أنواع عدة لا ترتبط باللاجئين فحسب، أحدها العمل بالأسود تهرباً من الضريبة، إذ يمكن لكل أعمال الإصلاحات في المنزل أن تتم من خلاله، والكثير من الشركات التي تقدم تلك الخدمات يسألك أصحابها، إبان الدفع، هل ترغب بالدفع “كاش” أم الدفع بفاتورة، وهذا يعني أن الدفع بفاتورة يوجب عليك دفع الضريبة وهي 21 بالمئة. والحكومة على علم بذلك بطريقة أو بأخرى، وما الإجراءات العقابية إلا محاولة للحد منه وتقييده. والدوافع لذلك ليس فقط الحصول على الضريبة من قبل الدولة بل لضمان الحقوق بين العمل وصاحب العمل وكذلك للتقليل من المشكلات.
الحكومة من جهتها، بهدف مساعدة الشرائح الأقل دخلاً، لكل من دخله أقل من 2600 يورو شهرياً، تقدم دعماً مقدراه 40 بالمئة من إيجار البيت، و60 بالمئة من التأمين الصحي، وتعفيه من الضرائب.
نوع العمل بالأسود لدى اللاجئين (وعدد من المواطنين كذلك بخاصة ممن جذورهم غير هولندية) فيه جانبان أخلاقي وقانوني، حيث يحصلون على المساعدة الاجتماعية الشهرية المقدمة للعاطلين عن العمل أو لمن هم في طور الاندماج، “وهي تتراوح بين ألف وألفين يورو تبعاً لحالة كل شخص أو عائلة”، وفي الوقت نفسه يعملون سراً بالأسود. بمعنى آخر: يحصلون على مساعدة شهرية من دافعي الضرائب، ويدّعون عدم قدرتهم على العمل وفي الوقت نفسه يعملون سراً، وهو مخالف لقيم المجتمع.
لدى اللاجئين أسبابهم التي يتحدثون عنها فيما بينهم، أبرزها أن عليهم إرسال حوالات شهرية للأهل في سوريا أو تركيا أو سواها، والأمر الآخر أن كثيراً منهم يرى أن قدومه إلى أوروبا ما هو إلا حالة مؤقتة تتضمن الحصول على الجنسية وجمع أكبر كمّ ممكن من المال بأقصر وقت ومن ثم العودة لاحقاً، والسبب الثالث أن شريحة كبيرة منهم ترى أن من حقها أن تستفيد من كل ممكنات الحياة الجديدة، وتتمثل ها هنا بالاحتيال على القانون “الغبي” كما يصفه كثيرون، ويدخل ذلك عند عدد كبير منهم في باب الشطارة، وهي خصلة يفرح بها كثير من السوريين.
عدد من المتابعين لحركة الاقتصاد الهولندي يرون أن فكرة دوران رأس المال عامل رئيس وأن أولئك اللاجئين، أو العاملين بالأسود، أينما ذهبوا سيقومون بصرف معظم ما يحصلون عليه في السوق الهولندية، مما يعني أن قطاعات عدة ستتحرك نتيجة هذا الصرف، والنتيجة واحدة.
المخابرات الهولندية لها وجهة نظر أخرى حيث تراقب حركة البنوك والتحويلات بهدف منع تمويل الأنشطة غير القانونية، ويرون أن العمل بالأسود أحد عوامل ذلك التمويل، فيما يرى اللاجئون أن على المخابرات والجمارك أن تنشغل بصفقات بيع الحشيش بالأسود مثلاً التي تأتي من دون جمارك وهي عابرة للحدود، وأن غسيل الأموال لن يؤثر فيه حوالة ترسل للأهل في سوريا!
إدانة المجتمع الهولندي أخلاقياً للعمل بالأسود ممن يحصلون على المساعدة الاجتماعية تعود في جانب منها إلى فكرة الفردانية، وأن كل شخص مسؤول عن ذاته وخياراته، ولا يعرف أولئك الهولنديون أن كل شخص سوري لاجئ، أو خارج سوريا عامة، خلفه عدد كبير من أفراد عائلته القريبة والبعيدة وأصدقائه في سوريا ينتظرون أن يقدم لهم شيئاً، كل شهر مهما كان حجمه ضيئلاً، يعتقد أولئك الهولنديون بالمسؤولية الفردية، ويعتقدون أنها تصلح للتطبيق في كل مكان.
ومن جانب آخر فإن حاجات اللاجئين الاستهلاكية ومفاهيمهم في مجتمع اللجوء مختلفة كلياً عن حاجات المواطن الهولندي. ما يعده كثير من اللاجئين حاجة، هو في نظر الهولندي بذخاً.
قد لا يصدق كثير من القراء أن هناك شريحة كبيرة من الهولنديين ليس لديهم موبايل، أو أنهم يستعملون ظرف الشاي مرات عدة لعدد من كؤوس الشاي. أو أن زميلاً لي يضع درجة الحرراة في البيت على 18 درجة كي لا يزيد مصروفه فيما يلبس 3 كنزات أو يلتف بغطاء وهو جالس في الصالون. أو أن الهولندي يكتفي بنوع واحد من الطعام على الوجبة الرئيسية. أو أنه يركب الدراجة في البرد القارس متوجهاً إلى عمله ويترك سيارته أمام البيت كي لا يصرف البنزين. لا بد من القول إن المجتمع الهولندي يوصف عامة بأنه مجتمع “حريص” على نقوده وآلية صرفها.
مؤخراً حضرتُ محاضرة عن طرق توفير الكهرباء، ومما مر معي أن التلفزيون والأجهزة الكهربائية الأخرى في البيت في حال كانت مطفأة، فإنه من الأفضل فصل الكبل عن المأخذ الكهربائي لأن ذلك يوفر ما معدله 8 يورو في السنة، وبالتالي يوفر 640 يورو خلال عمر الشخص الهولندي الذي معدل عمره 80 عاماً!
من طرائق توفير الهولنديين أنه في عدد كبير من الأحياء السكنية يوجد أشخاص يعلنون أن سياراتهم الخاصة يمكن أن يستعملها آخرون مقابل أجر معين ووفق آليات معينة تقوم على الثقة والمصداقية.
وما لا يعرفه كثيرون عن المجتمعات الأوروبية، المجتمع الهولندي خاصة، أن هناك رواجاً كبيراً لسوق “البالة” وأن محال “السكند هاند” تفتح أسبوعياً، وأن هناك عدداً كبيراً منها عليه إقبال شديد، وهناك سوق خاص بها في قلب أمستردام. وفي الوقت الذي يترفع فيه الكثير من اللاجئين عن شراء المستعمل فيما يخص أثاث البيت أو اللباس لأن ذلك لديه ذاكرة أخرى من مجتمعهم الأم، تجد أن معظم رواد المستعمل هم من الهولنديين، الذين تعلموا كيف يصرفون نقودهم ومتى وأين، نتيجة تجارب تاريخية طويلة تخص ثقافة كل شعب ومفاهيمه.
هذا لا يعني أنه لا يوجد شريحة هولندية ثرية ولا تأخذ بعين النظر كل تلك الطرق من التوفير، وأنها تبذخ في الصرف بخاصة في نهاية الأسبوع أو في العطلات أو أعياد الميلاد أو سوى ذلك مما تعتقد أنه أولوية لها، قد يكون لدى اللاجئ فكرة أخرى وتصور آخر وهو مما يدخل في باب الاختلافات الثقافية بين الشعوب.
المصدر: تلفزيون سوريا