على طريق جديدة عرطوز/ دمشق
المارة يستخدمون كدروع لحاجز الأربعين ولا أحد يرفع جثث الضحايا
سمر مهنا
تتميز بلدة جديدة عرطوز ببيئتها الاجتماعية المنفتحة، حيث أنها تتكون بالأصل من خليط سكاني يضم مسيحيين ودروز ومسلمين سنة، وقدم إليها علويون، سكنوا فيها مع تمركز فوج تابع لسرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد في السبعينيات، ثم تحول إلى فوج تابع للفرقة 14، ومعظمهم يقطن في مساكن العسكريين المحاذية للبلدة، ويمتلك سكان هذا الحي معظم محلات وأكشاك بيع المشروب والسجائر، ومحلات بيع الألبسة المستعملة في البلدة، وتعتبر الأكشاك خاصة، نقاط مراقبة أمنية، كون ملاكها والعاملين فيها هم من عناصر الأمن تحديداً.
شهدت جديدة عرطوز أحداثاً في العام الأول من الثورة، تجلّت بتصدي سكان الحي العسكري الموالين للنظام للمظاهرات بعنف، ولقي عدد كبير من أبناء البلدة حتفهم على أيدي قوات النظام بإعدامات ميدانية في العام الثاني من الثورة، حيث نشط فيها الجيش الحر، لكنه لم يبلغ الدرجة التي بلغها في داريا أو نهر عيشة أو اليرموك، إذ أنها تحولت لاحقاً إلى ملجأ للنازحين من الأرياف المجاورة المعضمية وداريا وغيرها، ولا يزال الحي خاضعا لسيطرة النظام.
تطور الأوضاع
تقول “ميس. ع” وهي موظفة في مدينة دمشق، ومن سكان هذه البلدة، إن “رحلة الذهاب من وإلى جديدة عرطوز أصبحت كابوساً يومياً تحف به المخاطر والمخاوف، وخاصة عند الاقتراب من مفرقي داريا والمعضمية”.
وتشير “ميس.ع” إلى أن تلك المخاطر لم تكن في البداية موجودة عندما كان النظام يطلق القذائف على منطقة المعضمية من بعيد، والخوف الوحيد تمثل فقط في الأصوات القوية للقذائف، وذلك قبل أن تصل الاشتباكات إلى هذا الطريق بعد تقدم الجيش الحر إليه، مما أودى بحياة الكثير من المارة.
وبوجود حاجز عسكري للنظام عند جسر الأربعين الذي يقع على المفرق المؤدي إلى مدينة داريا، فإنه بات يشهد اشتباكات باستمرار بين الجيشين النظامي والحر، فتتجمع عند الحاجز المقام على المفرق صباحاً عشرات السيارات والباصات القادمة من مناطق الريف المختلفة، والتي تقل العديد من الموظفين والمضطرين لعبور هذا الطريق. الأمر الذي أثار استغراب “ميس.ع” معتبرة أن ذلك وسيلة يعتمدها النظام لاستخدام الناس كدروع بشرية، حيث أنه لم يتم تغيير مكان هذا الحاجز بالرغم من الضحايا المدنيين الذي قضوا في الاشتباكات التي تدور حوله.
رصاص وترقب
روايات عديدة وصلت إلى مسامع ميس حول الناس الذين قضوا على هذا الطريق، فتقول “سمعت عن سائق باص قضى بسبب شظية، و أم وأولادها قضوا بالرصاص في سيارة، وشاب آخر اخترقت رصاصة كتفه في الميكروباص، أما ما رأيته بنفسي سيل من الرصاص المتطاير فوق رؤوسنا، مصدره الحاجز، ولم أعرف مبرراً له، لكن أحد الركاب قال أن طلقة قناص أصابت الحاجز، ليبدأ عناصره بإطلاق النار عشوائياً، وفي كافة الاتجاهات”.
هذه الحالة اليومية أصبحت معتادة، حيث تعتبر ميس أن السائقين بدؤوا يستشعرون الخطر، فيقفون بعيداً عن الحاجز إذا ما بدا أن هناك اشتباك، وعندما يبدأ الباص باختراق المسافة الخطرة التي تفوح منها رائحة البارود بقوة، يبدأ الناس الهمس بعبارات من قبيل “صلوا ع النبي، لا الله الا الله، الله يفرجها”، وفي المساء يقف سائقو الباصات بعيداً محتفظين بركابهم عندما يستشعرون الخطر، منتظرين انتهاء الاشتباكات.
جثث مرمية
لكن ميس تعتبر أن أشد ما يؤلم هو منظر الجثث الملقاة على ذلك الطريق فتقول “نرى جثثاً على جانب الطريق أحياناً لشباب لا نعرف من هم، منها جثة شاب بقيت بجانب حاوية القمامة مدة 3 أيام دون أن يحركها أحد، وفي إحدى المرات رأيت جثة فتاة في منتصف الطريق بالقرب من الحاجز نفسه، يدل الدم الخارج من رأسها على أنه لم يمض وقت طويل على قتلها، استغربت البرود الذي وصلنا إليه عندما رأيت السيارات تحاول أن تمر من جانبها إلى الحاجز دون أن يقف أحد عندها، وعندما وصلنا إلى الحاجز وفتح العسكري الباب ليأخذ الهويات منا، تجرأت فقلت له: في بنت مزتوتة بالشارع ورا، فأجابني ببرود: هاد شب مو بنت، وأغلق الباب”.
وتضيف “بعد يومين مررنا بجانب جثة أخرى في ذلك المكان، كانت لامرأة يبدو أنها قضت أيضا في طلقة برأسها، كانت ملقاة إلى جانب الطريق، ومنظر الأكياس المبعثرة على جانبيها يدل على أنها كانت تحملها متوجهة إلى منزلها، لكن في هذه المرة كنا أقل توتراً لأننا بدأنا نعتاد”.
موت هنا وآخر هناك
هذا الطريق لم يكن يستغرق عبوره قبل عامين أكثر من 25 دقيقة، أما الآن فإنه يحتاج لأكثر من ساعة ونصف بسبب الحواجز التي يتكدس أمامها مارة بدؤوا يعتادون القتل اليومي.
تختم “ميس.ع” رحلتها يومياً بترديد عبارة “الحمد الله لساتنا عايشين”، وتتابع “ويوجعنا أن نهاية رحلة آخرين كانت الموت، على حاجز الأربعين أو سواه، حتى أن هذا الحزن الغامض قد أصبح آخر ما يربطنا بإنسانيتنا