عبد الناصر العايد
عندما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان، انهارت منظمات المجتمع المدني التي أنفقت واشنطن عليها مليارات الدولارات خلال أكثر من عشرين سنة، ولم يظهر أي دور لمئات المؤسسات التي كانت تملأ الدنيا صخباً وضجيجاً بإنجازاتها غير المسبوقة في تحويل وتغيير المجتمع الأفغاني. وكشفت تحقيقات وأبحاث بأن ذلك القطاع كان في الواقع غارقاً في الفساد، وإنجازاته كلها وهمية ودعائية لابتزاز الداعمين والممولين، وأنه لم ينتج عنه في نهاية المطاف سوى حفنة من حيتان التمويل المنتفخين، شأنهم شأن الفئتين السياسية والعسكرية الفاسدة التي هربت عند أول مواجهة مع “طالبان”.
تأمل فئة قليلة من نشطاء المجتمع المدني السوري ألا تكون نهايتها على هذه الشاكلة، خصوصاً أنها نعمت بما يقدر بملياري دولار من أموال المانحين طوال الأعوام الثلاثة عشر الماضية، وهو رقم تقديري، نظراً لامتناع مؤسسات المجتمع المدني بالإطلاق عن إصدار تقارير الشفافية المالية كما يحدث في كل انحاء العالم بذريعة المخاطر الأمنية.
على هامش اجتماع منظمات المجتمع المدني السوري في باريس تحت عنوان “مدنية”، والذي توافد إليه نحو مئتي ناشط في هذا القطاع، عقدت جلسات عديدة خارج مكان المؤتمر وبعيداً من أجندته، وجرت نقاشات معمقة ومنفتحة للعديد من الإشكاليات والقضايا كصدى لما يدور في المجتمع الواسع، لكن التفكير الأكثر تركيزاً تمحور حول سؤالين هما: راهن قطاع المجتمع المدني السوري، والسياسة الغائبة أو المغيبة من المشهد.
بكل موضوعية وانفتاح، أقرّ عدد من القادة والنشطاء في قطاع المجتمع المدني السوري بأنه “يحبو” ولم يبلغ سن الرشد بعد، وأن غالبية المنظمات هي في الواقع نوع من شركات المقاولات التي تتسلم الإعانات من الداعمين والممولين لتوزعها على المنكوبين، أو أنها تقدم الخدمات كشريك محلي لجهات دولية، مقابل أجور ورواتب عالية تُقتطع من ميزانيات التمويل، حيث تبلغ نسبة بعض المصاريف التشغيلية، أي الرواتب والأجور، أكثر من 40% من الميزانيات النهائية. ورأوا أن هذا الواقع الذي رسخ في غفلة منهم هم ذاتهم، لا بد أن يتغير قبل أن يجهض التجربة برمتها، لا سيما أن قيادة أو عضوية “منظمة”، باتت مبرراً كافياً للغمز اجتماعياً، ووصف الشخص بأنه انتهازي يتسلق على آلام وعذابات منكوبي الصراع، بل أن عبارة “مجتمع مدني” صارت مثار ريبة غير حميدة في العموم وتقترن بالفساد على الأقل.
عدد من أعضاء المنظمات نسب المشاكل البنيوية التي تعانيها منظماتهم إلى ظروف الحرب وعدم الاستقرار والحاجات الطارئة المتكاثرة، لكن جزءاً ليس يسيراً منهم عزا الخلل إلى مدراء المنظمات الأكبر والأكثر تمويلاً، الذين حولوا تلك المؤسسات إلى مشاريع استثمارية شخصية، لا يمكن أن تدر عليهم الربح الكافي ما لم يشع الفساد فيها وحولها. وشخّصوا الخلل هذا باستحالة تغيير رئيس أي منظمة، منذ 13 سنة حتى الآن، ولا يبدو أن رئيس أي من هذه المؤسسات مستعد للتخلي عن منصبه في الأفق القريب، وهذا خرق لأبسط أسس وقواعد العمل المدني الذي يفترض تداول السلطة، وهو وحده كفيل بتقويض القطاع، هذا إذا لم نتطرق للفساد الإداري وانعدام الشفافية وتكافؤ الفرص وظاهرة توظيف الأقارب والزوجات والمحاسيب.
المتحدثون لم تفُتهم الإشارة إلى ارتباط قطاع المجتمع المدني السوري، تمويلاً وتوجيهاً، بالمؤسسات الغربية، وهو ما له إيجابيات تتعلق بتطوير الأداء وضبط المعايير، لكنهم وجدوا أيضاً أن الأجندات التي لا بد لكل ممول أن يفرضها، تبدو أحياناً بعيدة من أولويات ومتطلبات مجتمعاتنا في الوضع الراهن. وبالتالي، فإن بعض المنظمات يغرد في وادٍ لا يملك السوري رفاهية الوجود فيه أصلاً، وأحياناً يعزف “الإنجي-أوزيون” كما باتوا يسمون، ألحاناً مضادة لمصلحة شعبهم لكسب رضى الممول.
إلا أن الموضوعة التي استحوذت على الاهتمام الأكبر كانت انفصال أعضاء مؤسسات المجتمع المدني عن المجتمع الحقيقي وهمومه وتطلعاته، والانكفاء المتزايد لهؤلاء عن السياسة ومناصبتها العداء، حتى كأنها رجس يجب اجتنابه. ووجد معظم المتداخلين أن تدني النشاط السياسي وتراجعه بالعموم، ناجم عن انخراط أكثرية النشطاء البارزين، والمهيّأين للعمل والقيادة السياسية، في هذه المؤسسات غير الربحية التي اشترطت على أي عامل فيها عدم الانتساب إلى أي جهة سياسية، وهو المبدأ الذي غالى النشطاء باعتناقه وفهموه على أنهم يجب الا يكون لديهم أي انحياز سياسي أصلاً. علماً أن ذلك كله لم يكن مُلزماً، وفق رئيس أحد المنظمات البارزة، والذي عزا التفسير المبالغ فيه من قبل النشطاء إلى رغبتهم في تبرير الاستقالة من العمل العام والعيش بسلام مع الرواتب المغرية التي يحصلون عليها، وهو ما أدى إلى خلو الساحة السياسية سوى من فئة المناضلين التاريخيين الذين تقدموا في السن، وفئة السياسيين المنتفعين الذين لم يزاولوا هذا النشاط قبل أن تعتمدهم دول كممثلين لها، وليس لديهم في الواقع أي التزام أو قضية يناضلون لأجلها سوى مكاسبهم الخاصة.
لقد كشف النقاش عن محاولات ولدت من رحم المجتمع المدني، للانتقال إلى العمل السياسي والعودة لملء الفراغ الحاصل هنا. بعضها يظن أنه يمكن تسييس المجتمع المدني، وبعضها يقوم على هجران العمل المدني وملاقاة محاولات سياسية صرفة تنشأ هنا وهناك كاستجابة للانسداد الحالي في أفق القضية السورية والبحث عن سبل لتجاوزه.
لعل النقد الذاتي أعلاه، والمحاولات المشار إليها، ليست عامة ولا واسعة النطاق حتى. لكن، وكي لا نُفرِط في التفاؤل، فإن غالبية مدراء منظمات ومؤسسات المجتمع المدني تعتبر طرح سؤال تداول السلطة في مؤسستها نوعاً من العدوان الشخصي عليها. أما طرح سؤال الشفافية المالية وكشف مصادر الدخل ومسارب الانفاق، فإنه مدعاة لتحسس هذا القائد المدني “مسدسه”، كما قال عضو في أحد المؤسسات متهكماً.
المصدر: المدن