جسر: قضايا:
١
عندما طلب مني الصديق عزمي بشارة كتابة مقدمة جديدة لكتاب المسألة الطائفية بهدف نشره ثانية في المركز العربي وجدت نفسي مضطرا إلى قراءة الكتاب الذي صدر في السبعينيات من القرن الماضي. واكتشفت من جديد بذور الأطروحات التي سعيت إلى تطويرها في ما بعد في العديد من الدراسات التي نشرتها في السنين الماضية حول الطائفية ومشكلة العلمانية والسلطة وبناء الدولة. والواقع أن الفكرة الرئيسية التي ميزت طرح المسألة الطائفية في هذا الكتاب هي تحرير مسألة الطائفية، التي كثيرا ما نشكو منها في مجتمعاتنا المشرقية المعاصرة، عن المسألة الدينية، وربطها بتحليل العلاقات الاجتماعية والسياسية المتعلقة ببنية السلطة بشكل خاص. فحتى وقت قريب ساد الاعتقاد بأن أصل الطائفية وجود التعدد المذهبي والديني الذي يشكل خاصة من خصائص مجتمعاتنا. وأن هذه التعددية هي السبب الرئيسي في نشوء التوترات بين الطوائف بمقدار ما أن كل طائفة تنتج بشكل تلقائي أو طبيعي عصبية خاصة بها موجهة في الغالب ضد عصبية الطوائف الأخرى. في مثل هذا التصور الستاتيكي والسطحي لمسألة الطائفية تبدو المشكلة وكأنها نتيجة عاهة بنيوية مرتبطة بتكوين المجتمعات العربية المشرقية ذاتها ولا يمكن فصلها عنها طالما بقيت هذه المجتمعات ذات بنية تعددية. مما يعني أنه لا أحد يملك حلا نهائيا أو علاجا شافيا لها، وعلينا أن نتعايش معها، لكن مع السعي إلى التخفيف من احتمال الدخول في حرب طائفية.
وربما هذه النظرية هي التي اوحت لأدبياتنا في الموضوع استخدام صورة الفتنة النائمة التي تشكل جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا السياسية. فأصبحنا نقبل بأن التعددية المذهبية والاثنية علة من عللنا، بدل أن تكون ثروة روحية وفكرية، وأصبح كل ما نرجوه وما نأمل في تحقيقه إبقاؤها نائمة وتجنب اشعالها. وليس لنا لذلك من سبيل سوى أن نثابر على تنبيه الأفراد الواعين من شرورها وتوعيتهم على خطورتها، وترجي رجال الدين من كل الطوائف أن يتبنوا خطابا تسامحيا يخفف من مخاطر انتشارها. وفي موازاة ذلك الاستمرار في العمل على تأمين الاستعدادات والتجهيزات المادية لإخمادها إذا اشتعلت أو أبعاد شبحها عنا. ومن بين هذه الاستعدادات التي عرفت النظم السياسية العربية استغلالها إلى أبعد حد الديكتاتورية، أي حرمان العرب من الحريات الأساسية، ومعاملتهم كما لو كانوا قصرا، وفرض الوصاية السياسية والدينية عليهم حتى يمكن ضبط ديناميكية الفتنة المحتملة والممكنة في أي وقت. أما المثقفون والسياسيون الأقل تشاؤما فقد مالوا في علاج هذه العلة الولادية وتجاوز مخاطر الفتنة إلى العمل على نفي التعددية المذهبية والدينية الرمزي، في إطار دعوة علمانية تتجاوز السياسي لتشمل المجتمع بأكمله وتظهر كما لو كانت عقيدة جديدة للدولة والامة ينبغي أن تنحل فيها أو تذوب جميع العقائد والمذاهب والأديان الأخرى.
على عكس ذلك تماما، ما حاولت أن أبرهن عليه في هذا الكتيب هو أن النزاعات الطائفية، ومن ورائها غياب اللحمة والمشاعر الوطنية أو ضعفها، لحساب العصبية الدينية أو المذهبية أو العشائرية، مما يقود إلى إضعاف الدولة وانقسامها وغياب الروح القومية، ليست ثمرة وجود هذه التعددية الدينية أو القبلية الموروثة عن تاريخ المجتمعات العربية الماضي، وإنما بالعكس غياب الدولة الوطنية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتعاملهم كأعضاء رابطة سياسية واحدة ليس لأحد علامة فارقة أو امتياز على آخر بسبب الدين أو العرق أو المذهب، وتقدم لهم فرص التعبير الأرقى عن هويتهم ومصالحهم الخاصين كمواطنين تجمع بينهم رابطة وطنية واحدة ، تؤكدها المشاركة العملية والفعالية في القرارات التي تتعلق بحياتهم الجمعية، وخضوعهم الطوعي لقانون واحد الذي يساوي بينهم في الحقوق والواجبات، فتجعل منهم شركاء في السياسة وان اختلفوا في الديانة والمصالح الخاصة. وهذا هو مفهوم دولة الأمة التي تؤسس لرابطة جديدة لا تلغي الروابط الأهلية، دينية كانت أم إتنية، ولكنها تخلق حيزا جديدا للتفاعل والتواصل والتعاون وتبادل المصالح يخلق هو نفسه عاطفة قرابة ولحمة جديدة، هو ما نسميه الوطنية.
في هذه الحالة، ليست التعددية الدينية هي السبب في إضعاف الدولة القومية أو الوطنية وإنما غياب الطابع الوطني والقومي الحقيقي لهذه الدولة اي السياسة غير الوطنية والتطبيق غير النزيه للقانون او احيانا تعطيله. وهذا هو السبب الرئيسي في تثبيت التمايزات الطائفية والعشائرية، وأحيانا في إعادة إحيائها، وفي الاستثمار الرمزي والسياسي والاجتماعي المفرط فيها، وتحويلها إلى أدوات وأطر او قنوات وساحات موازية للصراع الاجتماعي والسياسي، ومن ثم تحول الجماعات الاهلية الى ما يشبه الدول داخل الدولة وتجعلها تنتج عصبيات خاصة تنافس العصبية السياسية القانونية، اي الوطنية، التي تجسدها الدولة الأمة. فغياب سياسة المواطنة التي هي التمتع بالحقوق والواجبات المتساوية التي تضمن الحياة الكريمة للجميع، والحرية لكل فرد، والمساواة الفعلية أمام القانون، والمشاركة العملية في القرار، يقوض مبدأ الشراكة في الدولة، ويقضي من ثم على طابعها الوطني. فعدم احترام الممارسة السياسية العمومية لشروط العضوية هذه، وبشكل خاص المساواة القانونية، يجعل الدولة الحديثة، بما توفره لها الحضارة الصناعية والتقنية من وسائل استثنائية للمراقبة والضبط والتحكم بحياة الناس ومستقبلهم، مهددة كل لحظة في أن تصبح إطارا لتكوين طائفة أو عصبية قائمة بذاتها في مواجهة المجتمع وسببا في دفع الجماعات إلى بناء دول عصبية مماثلة ومضادة لها تقف في وجهها وتسعى إلى تأمين الحد الادنى من الحماية والأمان والتعاون والتكافل بين أبنائها.
ولعل النسخة اليعقوبية من الفكر القومي التي سيطرت على النخبة المثقفة العربية والإقليمية منذ نهاية القرن التاسع عشر لم تساعد العرب أيضا على الولوج إلى مفهوم دولة الأمة بمعنى دولة المواطنة، لأنها رسخت لديهم فكرة المطابقة بين الدولة الحديثة في مؤسساتها والهوية القومية أو الاثنية، وهو ما أنتج شعورا قوميا يتغذى من المواجهة مع الخارج والآخر بدل أن يتماهى مع تعميق شروط المشاركة السياسية وما تتطلبه من ضمان ممارسة الحرية والمسؤولية الفردية وحكم القانون والمساواة بين الجميع ورعاية شؤون الجماعة الحية. وساهم ذلك في جعل الوطنية مرادفة في معناها لعبادة الدولة المتمركزة حول نفسها، والسلطة الشمولية التي ترى في تقييد الحرية وتضييق دائرة المشاركة السياسية وتعزيز دور نخبة طليعية، على حساب القاعدة الشعبية، شروطا أساسية لمنع الاختراقات الخارجية وضمان السيادة الوطنية. وكانت النتيجة زواجا، لم تعرف المجتمعات العربية سابقة له من قبل، بين آليات الإقصاء والاستبعاد لأوسع جمهور شعبي من جهة، وتسلط نخب لم يعد لديها أي شعور بالمسؤولية تجاه الشعوب من جهة أخرى، تستهتر بحقوق الناس وتدير الأوطان كما لو كانت رأسمالا خاصا وصافيا لها تستثمره وتتعامل به بحرية في مفاوضاتها، لتعظيم مصالحها الخاصة، مع الدول والمنظومة الدولية.
وغني عن القول هنا أن اكتشاف الأصل السياسي للطائفية الراهنة في المجتمعات العربية، بمقدار ما كشف عن الترابط بين نمو العصبيات الطائفية وعمليات الإقصاء والاستبعاد التي مارستها سلطة استبدادية حولت الدولة إلى مؤسسة لخدمة المصالح الخاصة وتعظيمها، كشف أيضا، بموازاة ذلك، عن العلاقة الحميمة بين الوطنية – أو بناء الشعور الوطني ومشاعر الانتماء والولاء لأمة، كرابطة سياسية تتجاوز الروابط الأهلية – من جهة، والديمقراطية من جهة ثانية . وهذا ما جاءت الثورة العربية المشتعلة في أكثر من قطر عربي في الوقت نفسه لتؤكده، حيث يختلط النزوع الصارخ نحو الحرية وبناء الديمقراطية بتاكيد وحدة الشعب وحضوره وتأكيد سيادته داخل الدولة وفي مواجهة النخب الخاصة، السياسية والاقتصادية، وبشكل خاص نخبة الدولة التي تماهت معها ووضعت نفسها في خدمة السلطة القديمة الجائرة.
لذلك لم يكن الكلام عن تفكيك منطق الطائفية، واستخداماتها من قبل السلطات الديكتاتورية، راهنا في أي حقبة ماضية من تاريخ المجتمعات المشرقية كما هو راهن اليوم. وقد كان أكبر نموذج لهذه العلاقة بين تحويل الطائفية إلى فتنة كامنة وتوجيه بعض رجال الدين نحو التحذير منها، أو التغطية عليها بمساحيق علمانية تحولت هي نفسها إلى دعوة استبدال طائفية قديمة بطائفية جديدة، ما قامت به السلطتان السورية والمصرية خلال الثورة من أعمال ينبغي إدراجها ضمن أعمال الجريمة الرسمية المنظمة. فهذا هو معنى التفجير الذي دفعت إليه وزارة الداخلية والذي يحاكم عليه مسؤولها الأول اليوم في مصر، العادلي، في كنيسة القديسين. وهو ما تجسده أيضا جرائم الميليشيات السورية الملقبة بالشبيحة التي كانت تقتل وتمثل في جثث ضحاياها من الطائفتين السنية والعلوية حتى تدفع كلاهما إلى الدخول في حرب ضارية تبرر للسلطة الابقاء على نظام الطواريء وتعليق القانون وتجريد الناس من حقوقها وحرياتها، والتعبئة العسكرية الفظة في مواجهة المسيرات الشعبية السلمية المطالبة بالحرية والتغيير الديمقراطي. وقد وصلت الامور هنا إلى حد تقديم السلطة الأسلحة للطرفين وإغرائهم باستخدامها، للدفاع عن أنفسهم ضد الطائفة الأخرى، كما كان يدعي رجال الأمن وشبيحة النظام. ولولا الوعي المتميز الذي بثته روح الثورة المدنية والديمقراطية في شباب وشعب قطع نهائيا مع الفاشية وآلاعيبها، لما أمكن تجنب حرب أهلية دامية لا يمكن لسورية تحملها ولا يستطيع أحد أن يحيط بأثارها الكارثية.
٢
وقد عملت على تطوير هذه الأطروحة فيما بعد في النظرية التي تقول إن الطائفية هي السوق السوداء أو الموازية للسياسة، التي تظهر بمقدار ما يفسد سوق السياسة الطبيعي أو يتم التلاعب به أو يلغى. فهي ممارسة سياسية ملتوية في ميدان الصراع على السلطة بالمعنى الواسع للكلمة، لا تعبيرا عن نزوع طبيعي لدى الطوائف أو الجماعات إلى نشر دينها وقيمها أو تعميمها أو فرض سيادتها وهيمنتها. وهذا يعني، كما ذكرته في كتاب “نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة”، أنه لا علاقة للطائفية بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية ، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
إن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية التقليدية، في البلاد العربية، بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة، للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص، وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى فهم هذه الظاهرة وإدراك حقيقتها، ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، مفادها ان المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، أو حسب التعبير الذي شاع، فسيفسائي. وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية. وبالتالي ليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية.
وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة وتكاد لا تستجيب لأي مطالب عمومية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالإثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه، وأحيانا المرضي، بمبادئ الوطنية المجردة ومظاهرها الشكلية. وهو ما ساهم في تكوين وطنية وقومية شكلية، فارغة من أي التزام، سياسي وأخلاقي، ومفتقرة إلى أي محتوى عملي بل عاطفي، خارج إطار ترداد الشعارات وتعظيمها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية، والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي. فهذا هو مبرر وجود الدولة ومصدر تفوقها بالمقارنة مع نظام القبيلة والعشيرة والطائفة.
وفي النهاية، عمل هذا التصور الذي يقول إن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع على القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، إن لم يشرعن لقيام الدولة الطائفية نفسها، بوصفها حتمية اجتماعية أو تعبيرا عن خصوصية محلية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثروة المرتبطة بها. وكما عمل هذا التصور على تحرير النخبة، في الحكم والمعارضة معا، من مسؤولياتها تجاه بناء دولة حديثة حقيقية، قوامها مفهوم الحق والقانون، لا تقاسم السلطة بين نخب الطوائف والعشائر القائمة، غطى على الممارسات الطائفية ورفعها فوق النقد، ووحد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي ملغيا بذلك أي إمكانية لتصور دولة سياسية. والحال يمكن لطوائفية المجتمع، أو تكوينه الفسيفسائي، أن يفسر صعوبات وتحديات نشوء نخبة وطنية منسجمة ومتماسكة. لكنه لا يبرر بأي شكل ممارسة الطائفية من قبل هذه النخبة أو بعضها داخل الدولة. فشرط تكوين هذه القوة السياسية الأساسية، وتبوئها مركز نخبة وطنية، هو قدرتها على الارتفاع فوق المصالح الجزئية والعصبيات الخاصة، ومنها النعرات الطائفية، حتى تصبح في مستوى المسؤولية الوطنية أو العمومية. وفشلها في ذلك يعكس عجزها عن تمثل قيم السياسة ومعاييرها، أكثر مما يعكس جهل الشعب وأميته أو تعصبه لهذا الدين أو ذاك. فليس المطلوب أن يتحرر المجتمع المدني من عصبياته أو تضامناته الطبيعية المتعددة، الدينية أو المذهبية أو الإتنية التي تعكس واقع الحال، خاصة في مجتمعات تقليدية، أو خارجة حديثا من التقاليد، وإنما أن تتحرر النخبة السياسية من تماهياتها الجزئية لتتمكن من تجسيد مثال الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة، حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة امة، أي دولة مواطنيها.
ولعل أفضل مثال على ذلك ما عرفته،حتى وقت قريب، المجتمعات العربية الحديثة نفسها من تطور مضطرد للولاءات الوطنية والتشكيلات السياسية المعبرة عنها، من كتل واحزاب ومنظمات مهنية ونقابية، قبل أن تقع فريسة نظم الطغيان الحديثة منذ السبعينيات من القرن الماضي. فلم تكن هذه المجتمعات أقل تقليدية ولا أقل تعددية طائفية وإتنية ومذهبية مما هي عليه اليوم. ومع ذلك فهي التي أنجبت أقوى الحركات الوطنية التي كان لنشوئها وتطورها الفضل الأول في تحقيق الاستقلال وطرد قوات الاحتلال. وقد ولدت هذه الحركات والدول المستقلة التي نشأت عنها، في مصر وسورية والعراق وبقية البلدان المتعددة الطوائف، في لحظة ترفع وارتفاع رائعين من قبل جميع الطوائف والطبقات والأقوام على جميع الحساسيات التقليدية، وأشكال التعصب والانغلاق الماضية، لإقامة جمهورية تعددية ديمقراطية مفتوحة بالتساوي أمام جميع أبنائها. ونشأت الدول الحديثة وتكونت منذ البداية بوصفها دول وطنية لا تميز بين أبنائها. وترسخت فيها خلال حقبة الوصاية والحماية الأجنبية، وفي مواجهة سياساتها التقسيمية، ثقافة وطنية قوية ترفض الطائفية السياسية وتشجب الاعتماد عليها، لدى كل الطوائف، كبيرها وصغيرها. ولا تزال معظم الشعوب العربية، بالرغم مما تعرضت له من أزمات ثقة داخلية بين الطوائف، تستلهم تلك التجربة الفذة التي تجاوزت فيها زعامات الطوائف والمناطق المتعددة، بإرادتها، منظوراتها الجزئية، لتنخرط في حركة وطنية واحدة وتعمل ضد النزعات الانقسامية، بالرغم مما تعرض له بعضها من إغراءات من قبل سلطات الوصاية، بما في ذلك تشكيل دول مستقلة خاصة ببعض الطوائف والجماعات المذهبية.
وتستند هذه التجربة نفسها، وهو ما يفسر انتصارها، في العراق وسورية على ترسخ الفكرة العربية في وعي الأفراد، بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية، والتطلع المشترك والشامل لنهضة حضارية عربية كبرى، تنقل المجتمع إلى مصاف المجتمعات الحديثة المتمدنة الديمقراطية، وتساعده على تجاوز انقسامات المجتمعات التقليدية الموروثة، وتحرر الفرد من التبعية لعصبية العشيرة والقبيلة والطائفة الدينية.
وقد شكل هذا الإرث السياسي الوطني الحي، ولا يزال يشكل إلى الآن، واليوم بشكل خاص، حصانة ومنعة حقيقيتين ضد النزوعات الطائفية والضغوط الانقسامية القوية التي تتعرض لها العديد من المجتمعات العربية. فبالرغم من بعض الانزلاقات الطائفية التي حصلت هنا وهناك، في سياق التحولات الاجتماعية العنيفة التي شهدتها في العقود الأربع الماضية، بقي القسم الأكبر من ا لرأي العام مخلصا لهذا التراث، ورافضا الانجراف وراء الطرح الطائفي للأزمة السياسية التي تعصف بالفعل بمعظم البلدان.
إن التوحيد بين منطق عمل المجتمع ومنطق عمل الدولة، واعتبار الطائفية التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي تسم المجتمعات، يقودان لا محالة إلى الاعتقاد بأن محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات والتضامنات الأهلية وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية. وهو ما يعني عمليا تفكيك عرى التلاحم المجتمعي وتحويل الممسكين بالسلطة والشأن العام، أنفسهم، داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلى طائفة وحيدة، محتكرة للسلطة والثروة جميعا، بصورة نهائية، في وجه شعب جرد من أي علاقة اجتماعية، وتحول إلى ذرات لا تعمل ولا تتحرك ولا تفكر ولا تشعر إلا عبر طائفة السلطة وبإرادتها وأوامرها. وهذا ما راهنت عليه، بوحي ايديولوجية قومية مجردة ولا تاريخية، السلطة البعثية في سورية والعراق، وكانت نتيجته عودة مظفرة للطائفية واحتلالا لا مثيل له من قبل العصبيات الأهلية لفضاء الدولة، بصورة علنية أو مقنعة، ثم دمارا حقيقيا للدولة والمجتمع، مع فتح الباب واسعا أمام التدخل الخارجي والاحتلالات الأجنبية.
من هنا، ليست الطائفية، سواء أكانت شعورا عدائيا لطائفة تجاه طائفة اخرى، أو استراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس على السلطة، أو سياسة منهجية تتبعها سلطة معينة في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية او إثنية أو مذهبية تعزز مواقعها الاستراتيجية، ليس كل ذلك حتمية اجتماعية أو تاريخية لا راد لها. وليس لها، بعكس ما تشيعه بعض الأدبيات القوموية السطحية، جذور عميقة في النظام الوطني الذي نشأ مع ولادة الدول العربية الحديثة، بعد انهيار الدولة العثمانية في العشرينات.
كما أن الطائفية لم تنبع من مؤسسات الدولة الاستقلالية نفسها، وإنما أتت إليها من خارجها. فهي أحد أبعاد الأزمة الوطنية الشاملة، وليست أزمة قائمة بذاتها، ولا حتى البعد الرئيسي فيها. وهذا يعني أن الطائفية، بالرغم من تحولها إلى استراتيجية رئيسية عند بعض القوى الاجتماعية للدفاع عن مصالح وامتيازات ومكاسب استثنائية وتكريسها، ليست ظاهرة مستقلة، ولا يمكن دراستها بمعزل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية. إنها تشكل بعدا من المسألة السياسية والاجتماعية، وهي مرتبطة بها ارتباطا عميقا وليس لها من دون هذا الارتباط حظ في الحياة والبقاء. وهي لا تملك حتى الآن، على الأٌقل، أي ديناميكية مستقلة، ولا تعمل إلا مقنعة أو من وراء حجاب. ويعني كل هذا، أخيرا، أنه من غير الممكن فهمها بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي نشأت فيه في العقود الماضية.
وما من شك في أن أصل الأزمة الطائفية التي أرهقت الثورة الشعبية في سورية، والتي لا تزال تغلق، أكثر من أي عامل آخر، أفق أي حل، وتقوض مسار الانتقال نحو حقبة تأسيسية جديدة للدولة المنهارة، هو نظام الاقلية السياسية الذي ولد من انقلاب “اللجنة العسكرية” “البعثية” في آذار ١٩٦٣، والذي لم يجد وسيلة للحفاظ على وجوده أمام معارضة الجمهور الشعبي الواسع سوى في إحياء العصبيات الاهلية وحشدها، واطلاق “آلة” التفرقة الطائفية، التي نجح من خلالها في تهميش الاغلبية السياسية المناوئة وتقسيمها، وتقريب بعض النخب الطائفية وحشدها وراءه وفِي مؤسساته العسكرية والأمنية. وبعكس ما يعتقد البعض، لم يلعب الاعتقاد المذهبي أو الأيديولوجي هنا إلا دورا ثانويا، ورمزيا، في هذه التعبئة التي اعتمدت بشكل رئيسي على سياسة توزيع الامتيازات والمنافع المادية إلى درجة السوقية. وبالعكس كان لإعادة توزيع المناصب والامتيازات، التي ساعد عليها احتكار السلطة وموارد الدولة والمجتمع معا باسم السياسة الاشتراكية، الدور الأكبر في إعادة إحياء العصبية الطائفية وهيكلتها عند الحاكمين والمحكومين. وبمقدار ما تطابقت الهوية الطائفية مع الدولة واستمرار السيطرة عليها لدى النخبة الحاكمة تطابق موقف المعارضة والاحتجاج مع جمهور الأغلبية المقصاة والمستبعدة. وكما أصبح التخلي عن السلطة بمثابة تهديد ليس لوجود النخبة الحاكمة فحسب وإنما أيضا للطائفة التي تنتمي إليها، اصبح استمرار النظام في اللعب على الطائفية وأكثر فأكثر بالاعتماد على الحماية الاجنبية، يعني التجريد النهائي للجمهور من حقوقه السياسية، وقبوله بموقع بالدونية الأبدية، وحرمانه من التحول الى شعب بهوية سياسية، واكراهه على أن لا يرى في نفسه سوى كيانات طائفية وعصبيات متنازعة، ومن ثم الاستسلام لحتمية الحرب الأهلية. وبهذا يصبح مصير الدولة والشعب معلقا باكمله بمصير النظام الذي يتحول اكثر فأكثر الى وكيل أعمال محلي للقوى والمصالح الأجنبية.
*النص هو مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب “المسألة الطائفية ومشكلة الاقليات التي صدرت في ٢٠١٢ عن المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، وقد اضاف إليه الدكتور برهان غليون الفقرة الأخيرة لدى اعداد النص للنشر في صحيفة جسر.