نقلاً عن موقع درج
خلافاً لأشقائها وأعمامها الذين يريدون قتلها بسبب فرارها من القدر الذي قرّروه لها عبر تزويجها من أحد عناصر “داعش” في مدينة الرطبة العراقية، لا يرى أخوال هبة أن فعلتها تستحق القتل، ذاك أن الأخوال أنفسهم كانوا فرّوا من التنظيم حين سيطر على مدينتهم، وشرع بقتل عناصر الشرطة المحلية التي كانوا ينتمون إليها. إلا أن تمنّعهم عن قتلها لا يعني حمايتها، فهبة تقول إن موتها أهون عليهم من بقائها على قيد الحياة هي وابنتها التي أنجبتها من عنصر التنظيم الذي قتل بعد أشهر من زواجهما. “أخوالي لن يحموني، لا بل طردوني أنا وشقيقتي وأمي، فعدنا إلى الرطبة حيث قتل التنظيم شقيقتي وأبقاني حية بانتظار أن ألِد، وهو ما مكّنني من الفرار مع أمي مجدداً”.
أخوال هبة خصوم “داعش”، إلا أن خصومتهم للتنظيم لم تعفِ الشابة التي هربت من “عدو أخوالها” من شعور الأخوال بأن موتها سيخفف عن “كرامتهم” أعباء ابنة أختهم التي انتهك التنظيم “شرفهم” عبرها. موتها أهون على رغم أنها لا تستحقه بحسبهم. لا يريدون قتلها، إلا أنهم لا يريدون حمايتها. وهي تقول إنهم يرغبون في أن يصل أشقاؤها إليها، فتموت على أيدي غيرهم.
في العراق، وفي أعقاب هزيمة “داعش”، ثمة موت موازٍ يحصل بصمت. قتل النساء ليس خبراً في تلك المساحات التي خلّفها التنظيم في أعقاب هزيمته. موت يعقب موتاً، والصمت المرافق لعمليات القتل يؤشر إلى قبول الجميع بهذه المصائر التي تواجه عشرات وربما مئات النسوة. المرأة ليست حساباً في ميزان الربح والخسارة في تلك البيئة العشائرية، وحياتها قد تكون التسوية الأسهل التي تجريها العائلات في سياق إعادة تموضعها في أعقاب انسحاب “داعش”.
وتقول هناء أدوارد، وهي عراقية وتدير مؤسسة الأمل التي أمّنت لهبة مخبأ في بغداد، إن قتل النساء لا يقتصر على أسباب انتقامية، إنما يمتد ليشمل قضايا الإرث. أخوال هبة يتمنون أن يقتلها أعمامها لأنهم يطمحون بإرث صغير هو منزلها في الرطبة. هذا ما قاله لها قريب هبة الذي أوصلها إلى دار الأمل.
تصلح قصة هبة لأن تكون مدخلاً لتناول “مجتمع المهزومين” في عراق ما بعد “داعش”. هذا “المجتمع” الذي يفوق عدد أفراده 200 ألف، بين امرأة وطفلٍ وعجوز، هو تلك العائلات التي أسسها عناصر التنظيم قبل موتهم أو انسحابهم أو تواريهم. 31 ألفاً منهم ينتظرون اليوم في مخيم الهول في سوريا موافقة السلطات العراقية على دخولهم العراق.
التقديرات العراقية التي تقول إن أعداد هذه الشريحة من العراقيين تصل إلى ما يفوق 200 ألف نسمة، ستتضاعف إذا أضفنا السوريين وعائلات “المهاجرين” من عناصر التنظيم، وهؤلاء كلهم ألقيت أعباء التعامل معهم على كاهل الدولة العراقية الضعيفة القدرات على مختلف المستويات.
وقال رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح لـ”درج”: “هذه من دون شك واحدة من أكبر المشكلات التي سيوجهها العالم كله. حتماً ستكون هناك تحديات على مستوى الجهاز القضائي، وعلى مستوى مراكز الاحتجاز، وعلى مستوى القوانين وعلى مستوى الإمكانات. المشكلة كبيرة وتأمين محاكمات عادلة هي مسؤولية مشتركة لا يمكن أن تكون على عاتق العراق وحده. نحن نتحدث عن 30 ألف إنسان يعيشون في مخيم الهول لوحده. إنها غوانتامو مضروباً بألف مع تعقيدات إنسانية إضافية لها علاقة بوجود أطفال ونساء”
وقال مسؤول كبير في الدولة العراقية ل”درج”، “المشكلة الأكبر ليست المقاتلين، فالمقاتل سواء كان فرنسياً أو نيوزيلندياً أو شيشانياً أو تونسياً، هو قاتل ولا بد من محاكمته. المشكلة الأكبر هي النساء والأطفال، ودعوني أكون صريحاً، النساء الموجودات في مخيم الهول مثلاً، لسن سهلات، فقد تمت أدلجتهن ومعظمهن مقتنعات بما جئن لأجله. هذه معتقداتهن والتعامل معهن ليس سهلاً والمشكلة الأكبر أن بلادهن لا تريد استعادتهن… أي كلام عن مناصحة لن يكون سهلاً. هذه هرطقة، فالطفل الذي يبلغ من العمر 11 عاماً اليوم، سيصبح شاباً قريباً والمشكلة من دون شك إلى تفاقم”.
المشكلة في مستواها المحلي في العراق، ولاحقاً في سوريا، تبدو أكثر تعقيداً. التنظيم الإرهابي حكم مناطق واسعة وطبّق أحكامه على عشرات المدن وآلاف القرى والبوادي، وخلّف واقعاً اجتماعياً بدأ يكشف عن مآسٍ غير معهودة ولا تتسع لها الأنظمة والقوانين. أنماط من الزيجات غير المعهودة، وعائلات عابرة للدول والحدود تشكّلت بفعل الاختلاط غير المنتظم بين الجنسيات والأعراق والأقوام. استمر هذا نحو 4 سنوات، وترافق مع عملية تنشئة بالغة القسوة والأدلجة، تم خلالها تخصيب الوعي العشائري بمزيد من قيم العنف والقتل. ولعل أكثر من أصابهم زلزال “داعش” هذا، هم الأطفال والنساء، ذاك أنهم الشريحة الأضعف في البيئة العشائرية المنتشرة على طرفي الحدود بين العراق وسوريا، وفي أرياف باديتي البلدين.
والعالم إذ يشيح بوجهه عن ارتدادات الكارثة، يؤسس لكارثة موازية. هذا ليس توقعاً، ذاك أن مؤشرات الكارثة بدأت تلوح، فمخيمات “العزل” التي شرعت السلطات العراقية والكردية السورية بإنشائها لهؤلاء، ستدوم طويلاً في ظل استعصاء الحلول البديلة. ويقول أمنيون عراقيون إن هذه المخيمات ستكون بمثابة “أكاديمياتٍ للإرهاب”، ذاك أن كل عناصر ولادة العنف متوافرة فيها، بدءاً من القابلية الدينية والأيديولوجية، ومروراً بسوء الإدارة وندرة الموارد، ووصولاً إلى الاضطهاد والفساد والانتهاكات.
عبارة “مخيّمات العزل” على ما تنطوي عليه من دلالات، هي ما تقترحه الجهات الأكثر رأفة في هذه المجموعات. ويترافق هذا الاقتراح مع تصورات لأن تكون هذه المخيمات بعيدة من المدن ومناطق السكن في البادية. والصحراء الغربية الشاسعة وقليلة السكن في العراق هي ما يعتقده هؤلاء مكاناً مناسباً لمخيمات العزل. هذه الاقتراحات ليست مجرد أفكارٍ للتعامل مع هذه المشكلة، فهي بدأت تختبر عبر مخيم حمام العليل في شمال العراق ومخيم الهول في شمال سوريا. ومن اقترب من هذين المخيمين يمكنه أن يتصور ما ستؤول إليه أوضاع سكان المخيمات المقترحة الأخرى. عملية تخصيب هائلة للعنف في وعي آلاف الأطفال الذين على استعداد، لكي يتحولوا إلى فتية ومراهقين. وهؤلاء تُنتَهك أمهاتهم تحت أنظارهم من قبل الجماعات التي تحاصر المخيم ومن قبل “مجتمعات” المنتصرين على “داعش” من أولاد العم والخال والعشيرة والمدينة.
الإحاطة بالظاهرة وبما خلّفته من توترات وأشكال من العنف الفردي والجماعي وفي ظل ضعف السلطات وفسادها، كل ذلك سيفضي إلى قناعة حتمية بأن “داعش” سيولد من جديد. بيئة المنتصرين هي نفسها البيئة التي ولد فيها التنظيم أصلاً، وما حملته سلطة “داعش” من عنف وميول انتقامية، هي ما يعاد إنتاجه في أمزجة المنتصرين عليها. ليست قصة هبة سوى واحدة من آلاف القصص. فمحمد الفتى الذي انتمى إلى التنظيم لفترة أسبوع، ولجأ إلى حشد عشائري يضم أقرباء له بعد هزيمة التنظيم في الموصل، وهو اليوم يخدم عناصر هذا الحشد ويعد لهم الطعام، يؤدي لهم في الليل “خدمات جنسية”، وفق ما قاله أحد عناصر هذا الحشد متباهياً.
ظاهرة المبايعات الهائلة للتنظيم والتي أقدمت عليها عشائر الصحراء العراقية والبادية السورية بعد سيطرة “داعش” على مناطقها، توازيها اليوم ظاهرة مبايعات موازية للمنتصرين على التنظيم. وعلى ضفتي هاتين المبايعتين تترنح العشائر، وتقتل نساءً وتُعلن رفضها عودة أفخاذٍ منها انخرطت في “داعش”، وتتهم خصومها، وتحاول مفاوضة المنتصرين. ووسط هذا الاضطراب، تبدو النساء الحلقة الأضعف في مسار التحولات، وهن في الوقت نفسه الأكثر حضوراً في الوعي الانتقامي للثقافة المحلية.
وتقول هناء ادوارد: “من خلال رصد الوقائع بعد هزيمة داعش تبين أن هناك تعذيباً وحشياً للعائلات، وتعرضت نساء لأنواع من الاعتداءات بما في ذلك الاعتداء الجنسي الموثق، فيما أطلق سراح إرهابيين بفعل الرشى والفساد، وهذه أيضاً أفعال موثقة”. وتضيف: “عدد أفراد عائلات التنظيم من العراقيين يفوق 200 ألف، وإبقاء هؤلاء في مخيمات العزل وبعيداً من مناطقهم، سيعني عودة داعش”. أما رئيس الحكومة العراقي السابق حيدر العبادي وهو كان القائد الأعلى للقوات المسلحة في مرحلة استعادة المدن والمناطق من التنظيم، فقال لـ”درج”: ” الحل الوحيد بالنسبة إلى العائلات هي أن تعود إلى مناطقها، لكن في الفترة الأولى رفض أهل المناطق عودتهم، لذلك قررنا في حينها أن يعودوا تدريجياً خلال 6 أشهر أو سنة. اليوم يبدو أن هذا الملف أقفل وصارت المشكلة أكبر. تُرك هذا الأمر من دون علاج وهذا أمر خطير. مخيمات العزل مكان لتوليد إرهابيين جدد، ومعلوماتي أن داعش ناشط في المخيمات”.
مصدر أمني عراقي رسمي أكد لـ”درج” أن ليس لدى السلطات العراقية أي تصور للتعامل مع هذه المشكلة، وأن ضغوطاً تمارس على الحكومة من قبل الأميركيين لتسلم 31 ألف عراقي من قوات قسد في سوريا، هم عائلات عناصر التنظيم العراقيين الذين لجأوا إلى الباغوز ومنها إلى الهول، موضحاً أن ما يؤخر تسلمهم هو غياب أي تصور لاستيعابهم. ويضيف المصدر: “حتى فكرة عزلهم في مخيم في الصحراء غير ممكنة اليوم، لأنها تتطلب إمكانات أمنية ومالية غير متوافرة”. رئيس الجمهورية برهم صالح كرر ما قاله المصدر الأمني وأضاف: ” نحن نتحدث عن 30 ألف إنسان في مخيم الهول لوحده. إنها غوانتانامو مضروباً بألف، مع تعقيدات إنسانية إضافية لها علاقة بوجود أطفالٍ ونساء”.
القوانين أيضاً في العراق عاجزة عن استيعاب ما خلفه “داعش” من أزمات، ويعترف برهم صالح بأن القضاء عاجز عن التعامل مع حجم الظاهرة، ولهذا يقترح انشاء محكمة خاصة خارج العراق للتعامل مع هذه المشكلة الكبيرة. وما أشار إليه صالح يأخذنا إلى ما أنجزه القضاء العراقي حتى الآن على هذا الصعيد، فقد نُفذ حتى الآن نحو 700 حكم إعدام بحق مسؤولين وعناصر من التنظيم هم من بين آلاف تعج بهم السجون العراقية، في حين صدرت أحكام إعدام لم تنفذ بعد. ويقول هشام الهاشمي وهو باحث في الحركات الإسلامية أن عدد العراقيين الذين قتلوا في المعارك من عناصر التنظيم يبلغ نحو 23 ألفاً. وإذا كان القانون العراقي الذي سُن خلال الحرب على “داعش” نص على عقوبة الإعدام لكل من انتمى إلى التنظيم، فهذا يضعنا أمام أعداد ضخمة من أحكام الإعدام، تُطرح أسئلة عن مدى عدالتها، ما يضع العراق أمام أسئلة المنظمات الإنسانية الدولية.
والقضاء العراقي الذي هذه حاله ألقيت عليه أعباء إضافية، ذاك أن معظم حكومات الدول التي أرسلت “مجاهديها” إلى هذا البلد تفضل محاكمتهم في العراق، كما أكد لـ”درج” أكثر من مسؤول عراقي. وليس هذا وحسب، إنما يتعرض العراق لرقابة بعض الدول لجهة أدائه القضائي على هذا الصعيد. وخلال وجودنا في أحد مراكز التوقيف كان وفد من السفارة الفرنسية في بغداد يزور المركز الذي أوقف فيه 12 فرنسياً، وهؤلاء ترفض حكومة بلادهم تسلمهم وتطلب من الحكومة العراقية محاكمتهم. الأمر نفسه بالنسبة إلى الأردن الذي قال مسؤول فيه لـ”درج”، إن الأردنيين من عناصر التنظيم ارتكبوا جرائمهم في العراق، وعلى الأخير محاكمتهم. وإذا كان العراق لا يرى مانعاً في محاكمة هؤلاء، إلا أن عبء هذه المحاكمات سيكون ثقيلاً ومكلفاً، لا سيما أنه قد يشمل آلاف المتهمين بجرائم كبرى.
ما تم توثيقه حتى الآن من انتهاكات في مخيمات العزل يؤشر إلى ما ستكون عليه أحوال المخيمات الموازية التي ستقام لاستيعاب الوافدين من سوريا. وإذا كان الشرط السياسي لاستيقاظ “داعش” غير متوفر اليوم، فإن العراق بطن ولادة للعنف ولشروطه السياسية والطائفية، وهذه المخيمات ستكون قاعدة انطلاق جديدة للتنظيم. المسؤولون الأمنيون في العراق يجمعون على اقتراب هذه اللحظة، وثمة وقائع موثقة تؤكد أن “داعش” استأنف نشاطه. وقال لواء في الشرطة الاتحادية لـ”درج”: “أكثر من يخيفني هم الأطفال. بعض من ألقينا القبض عليهم كانوا من دون طعام منذ ثلاثة أيام، لكنهم بدوا أقوياء. وعندما قال أحد الضباط أمامهم كلمة “دولة الخلافة” صرخوا بصوت واحدٍ: باقية باقية باقية”.