جسر – صحافة
فيما تتزامن الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية مع الغزو الروسي لأوكرانيا، بشكل أحيا الحديث عن مأساة السوريين الستمرة ليس فقط في وسائل الإعلام الكبرى التي كانت تخصص كل عام ملفات سنوية للحدث الذي شكل نقطة مفصلية في مشهد الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً وثقافياً، بل لدى المغردين حول العالم أيضاً، فإن الحدثين شكلا معاً رافداً لخطاب معاكس يمكن تلمسه لدى موالي النظام السوري الذين يصفون الثورة بـ”الفورة” و”العورة” وغيرها من الألفاظ غير اللائقة في مرد احتفالهم بـ”انتصار مزعوم” على المؤامرة.
وتتوجه الأنظار عادة إلى المعارضين من أجل الحديث عن استمرارية الثورة وتجددها عاماً بعد عام مع نقد للثورة نفسها من ناحية فشلها في تحقيق أهدافها الأولى كحركة سلمية طالبت بالحرية والديموقراطية قبل أن تدخل البلاد بسبب الحل الأمني الذي اعتمده النظام حرباً أهلية باتت نتائجها معروفة ومحددة بدقة في الأدبيات السياسية والإعلامية منذ العام 2017 على الأقل: نزاع مجمد ربح فيه بشار الأسد السلطة بثمن باهظ وبات يحكم بلداً ينهشه الخراب وينذر بمزيد من الانفجارات مع أزمة اقتصادية وتشتت أكثر من نصف السكان البالغ عددهم قبل عقد كامل 22 مليوناً، في المنافي الداخلية والخارجية.
لكن المشهد الآخر قد يبدو أكثر إثارة للاهتمام، حيث يبدي الموالون خطاباً معاكساً تماماً بحديثهم عن النصر وعظمة القيادة الحكيمة منذ نحو أسبوع كامل. وفيما يعيش أكثر من 85% من السوريين في الداخل تحت خط الفقر بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، بسبب سياسات النظام الاقتصادية بالدرجة الأولى وسيطرة رجال أعمال مقربين من القصر الجمهوري ومسؤولين نافذين على السوق المحلية، فإن الموالين يربطون ذلك البؤس بالثورة التي انطلقت قبل 11 عاماً، تحت شعار “كنا عايشين”، فيما يربط الإعلام الرسمي ذلك الواقع الذي لا يمكن إنكاره بـ”المؤامرة الكونية” و”الحرب الاقتصادية” وهو ما يمكن تلمسه في مقال نشرته صحيفة “البعث” الرسمية للحديث عن ذكرى الثورة السورية.
والحال أن الإعلام السوري الرسمي يخصص بشكل مفاجئ مساحة واسعة لذكرى الثورة، عبر توصيفها طبعاً بأنها ذكرى انطلاق الحرب الإرهابية الأردوغانية الأطلسية على “الدولة السورية”، مع القول أن الثورة السورية ليست إلا “ثورة مزيفة” لأن الثورة الحقيقية هي ثورة حزب البعث في البلاد العام 1963، إضافة إلى الترويج للعديد من الأكاذيب في مواقع التواصل، فمن يصدق مثلاً أن النظام السوري أرسل الورود إلى درعا من أجل السلام والمصالحة العام 2011؟ ومن يصدق أيضاً أن النظام يعامل جميع مواطنيه من كافة الانتماءات الدينية والعرقية على قدم المساواة؟ ومن يصدق أن ملحداً يمكن أن يكون رئيساً للوزراء في سوريا؟ ومن يصدق أن سوريا الأسد دولة علمانية؟
وهنا، يتم ربط كل شاكل البلاد المعروفة من قبل العام 2011 بالثورة، من أجل تعميم مقولة زائفة مفادها أن البلاد كانت جنة الله على الأرض وتم تخريبها، رغم أن الواقع يفيد بأن سوريا منذ ستينيات القرن الماضي بعد سيطرة حزب البعث على السلطة ثم وصول حافظ الأسد إلى الرئاسة بانقلاب عسكري العام 1970، تحولت إلى دولة بوليسية أولاً وإلى نموذج من حكم العصابات ثانياً، ما جعل حياة السوريين طوال عقود بائسة ليس فقط على المستوى الاقتصادي والسياسي بل أيضاً على المستوى الثقافي والاجتماعي بسبب سياسة الانغلاق على الذات.
وفي بلد لا تتوافر فيه سيادة القانون على سبيل المثال، ولا فصل فيه بين السلطات بموجب الدستور السوري، يعتبر القضاء مسيساً ومتحيزاً وبعيداً من العدالة وتحديداً في القضايا المتعلقة بالمعارضة السياسية، كما يتم استخدام القضاء من قبل الأطراف المرتبطة بالسلطة من أجل توجيه اتهامات كيدية. ورغم أن كل تلك النقاط موثقة في تقارير حقوقية محلية ودولية، فإن ذلك الحديث قد لا يعني الأفراد العاديين الذين يلجأون إلى القضاء من أجل حل خلافات بسيطة، وحتى في هذا الإطار يبقى القضاء معروفاً بالفساد والرشاوى من دون الحديث عن طول أمد المحاكمات واليأس الآتي منها، وصولاً للحديث عن الطائفية ضمن القضاء نفسه لأن “محاكم البداية المدنية” مقسمة بحسب الطوائف: المحكمة الشرعية للسنّة، والمحكمة المذهبية للدروز، والمحكمة الروحية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية لغير المسلمين، لا سيما الطوائف المسيحية والطائفة الموسوية وغيرها.
لكن في التلفزيون السوري الرسمي، يتم تجاهل كل ذلك للقول أن الثورة السورية استهدفت القضاء النزيه وألقت بالقذائف والقنابل على المحاكم لأن المعارضين كانوا إرهابيين يريدون نشر الفوضى وإنهاء “دولة المؤسسات”، فيما يتحدث إعلاميون موالون في مواقع التواصل عن الأناركية كعقيدة أميركية تهدف إلى هدم المجتمعات خدمة لأجندات غربية. ويتم ربط ذلك بأوكرانيا بالقول أن الأناركيين أنفسهم المنتمين إلى “قوات سوريا الديموقراطية” الكردية يقاتلون في أوكرانيا ضد الجيش الروسي، كمقدمة للحديث عن استمرارية الدولة السورية في الصمود من أجل “تحرر الشعوب”.
وفيما يتم استذكار جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان ونشر الصور المروعة لما قام به النظام وحلفاؤه طوال السنوات الماضية، مع التركيز على الجرائم الروسية بعد تدخل موسكو عسكرياً في البلاد العام 2015، ربطاً مع الحدث الأوكراني، يبدو المشهد في الجانب الموالي مختلفاً حيث تصبح الفظائع “بطولات” و”أفعالاً رجولية” تستوجب التحية لـ”حماة الديار” على الشاشة الرسمية. وحتى عندما يعترف أفراد موالون في مواقع التواصل بأن مستوى العنف كان كبيراً إلا أن ذلك العنف يبقى بنظرهم مبرراً في تكرار للسردية الرسمية التي تشرح الطريقة التي يتعامل بها النظام مع السوريين، ومفادها أن ضحايا النظام خلال السنوات العشر الماضية، من قتلى ومشردين، يشكلون في مجموعهم التفاحات الفاسدة التي وجب التخلص منها كثمن “زهيد” للوصول إلى “اليوتوبيا الأسدية” التي يبقى فيها الرئيس بشار الأسد في الحكم إلى الأبد ممتصاً دماء السوريين، من دون أن يشتكي أحد، وهو ما أطلق الأسد عليه شخصياً تسمية “المجتمع المتجانس” العام 2017.
يتضافر ذلك مع فكرة مسمومة مفادها أن الوطن أكبر من الأفراد، وبأن “بقاء” البلد أهم من مشاعر أفراده وجروحهم وحياتهم برمتها. على أن تلك المقولة بالطبع ساقطة أخلاقياً لأن الوطن الذي يبيح تعذيب الأفراد وقتلهم وتخويفهم وترهيبهم وسرقتهم بشكل ممنهج من قبل السلطة الحاكمة لا يستحق الحب ولا الاحترام ولا يستحق بكل تأكيد البقاء من أساسه، وهو ما أدركه السوريون قبل 11 عاماً عندما طالبوا بتغيير النظام، لا إصلاحه، لأن إصلاح النظام، كما بات واضحاً، فكرة رومانسية ومستحيلة مازال الموالون للنظام يؤمنون بها، بشيء من القصور أو الإنكار لاعتبارات مختلفة، اقتصادية واجتماعية وأمنية.
ولا طائل بالتالي من الخوض في مناقشة أخلاقية لمواقف الموالين، تحديداً من المشاهير والمثقفين والإعلاميين، خصوصاً إن كانوا من أنصاف الموهوبين الذين يستفيدون اقتصادياً بالدرجة الأولى من السلطة طالما أن الولاء الأعمى يضمن استمرار فرص العمل، فيما يمكن القول أن تغير تلك المعادلة كفيل بتغير مواقفهم السياسية، وهو ما كان حاضراً في السنوات الأخيرة من قبل المشاهير الموالين الذين رفعوا صوتهم احتجاجاً على الظروف الاقتصادية المتردية ليس تضامناً مع السوريين في محنتهم بل لعدم حصولهم على امتيازات تجعلهم يحظون بالغاز والكهرباء والبنزين والخبز رغم ولائهم التام ودفاعهم عن النظام أمام جمهور عربي واسع.
ومن هنا، تأتي أهمية الاحتفاء بالثورة السورية عاماً بعد عام، لأن النظام لا يراهن على النسيان والتشاؤم ومرور الوقت فقط لتكريس شرعيته في السلطة، بل يعمل مع حلفائه أكثر من أي وقت مضى على ضخ سرديات تشوه معنى الثورة السورية كحركة شعبية طالبت بالحرية، وتحاول أيضاً نسف التاريخ الدامي في البلاد منذ العام 2011 للتنصل من المسؤولية والبقاء في السلطة من أجل إبقاء الكابوس السوري مستمراً لعقود جديدة.
لكن المشهد الآخر قد يبدو أكثر إثارة للاهتمام، حيث يبدي الموالون خطاباً معاكساً تماماً بحديثهم عن النصر وعظمة القيادة الحكيمة منذ نحو أسبوع كامل. وفيما يعيش أكثر من 85% من السوريين في الداخل تحت خط الفقر بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، بسبب سياسات النظام الاقتصادية بالدرجة الأولى وسيطرة رجال أعمال مقربين من القصر الجمهوري ومسؤولين نافذين على السوق المحلية، فإن الموالين يربطون ذلك البؤس بالثورة التي انطلقت قبل 11 عاماً، تحت شعار “كنا عايشين”، فيما يربط الإعلام الرسمي ذلك الواقع الذي لا يمكن إنكاره بـ”المؤامرة الكونية” و”الحرب الاقتصادية” وهو ما يمكن تلمسه في مقال نشرته صحيفة “البعث” الرسمية للحديث عن ذكرى الثورة السورية.
والحال أن الإعلام السوري الرسمي يخصص بشكل مفاجئ مساحة واسعة لذكرى الثورة، عبر توصيفها طبعاً بأنها ذكرى انطلاق الحرب الإرهابية الأردوغانية الأطلسية على “الدولة السورية”، مع القول أن الثورة السورية ليست إلا “ثورة مزيفة” لأن الثورة الحقيقية هي ثورة حزب البعث في البلاد العام 1963، إضافة إلى الترويج للعديد من الأكاذيب في مواقع التواصل، فمن يصدق مثلاً أن النظام السوري أرسل الورود إلى درعا من أجل السلام والمصالحة العام 2011؟ ومن يصدق أيضاً أن النظام يعامل جميع مواطنيه من كافة الانتماءات الدينية والعرقية على قدم المساواة؟ ومن يصدق أن ملحداً يمكن أن يكون رئيساً للوزراء في سوريا؟ ومن يصدق أن سوريا الأسد دولة علمانية؟
وهنا، يتم ربط كل شاكل البلاد المعروفة من قبل العام 2011 بالثورة، من أجل تعميم مقولة زائفة مفادها أن البلاد كانت جنة الله على الأرض وتم تخريبها، رغم أن الواقع يفيد بأن سوريا منذ ستينيات القرن الماضي بعد سيطرة حزب البعث على السلطة ثم وصول حافظ الأسد إلى الرئاسة بانقلاب عسكري العام 1970، تحولت إلى دولة بوليسية أولاً وإلى نموذج من حكم العصابات ثانياً، ما جعل حياة السوريين طوال عقود بائسة ليس فقط على المستوى الاقتصادي والسياسي بل أيضاً على المستوى الثقافي والاجتماعي بسبب سياسة الانغلاق على الذات.
وفي بلد لا تتوافر فيه سيادة القانون على سبيل المثال، ولا فصل فيه بين السلطات بموجب الدستور السوري، يعتبر القضاء مسيساً ومتحيزاً وبعيداً من العدالة وتحديداً في القضايا المتعلقة بالمعارضة السياسية، كما يتم استخدام القضاء من قبل الأطراف المرتبطة بالسلطة من أجل توجيه اتهامات كيدية. ورغم أن كل تلك النقاط موثقة في تقارير حقوقية محلية ودولية، فإن ذلك الحديث قد لا يعني الأفراد العاديين الذين يلجأون إلى القضاء من أجل حل خلافات بسيطة، وحتى في هذا الإطار يبقى القضاء معروفاً بالفساد والرشاوى من دون الحديث عن طول أمد المحاكمات واليأس الآتي منها، وصولاً للحديث عن الطائفية ضمن القضاء نفسه لأن “محاكم البداية المدنية” مقسمة بحسب الطوائف: المحكمة الشرعية للسنّة، والمحكمة المذهبية للدروز، والمحكمة الروحية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية لغير المسلمين، لا سيما الطوائف المسيحية والطائفة الموسوية وغيرها.
لكن في التلفزيون السوري الرسمي، يتم تجاهل كل ذلك للقول أن الثورة السورية استهدفت القضاء النزيه وألقت بالقذائف والقنابل على المحاكم لأن المعارضين كانوا إرهابيين يريدون نشر الفوضى وإنهاء “دولة المؤسسات”، فيما يتحدث إعلاميون موالون في مواقع التواصل عن الأناركية كعقيدة أميركية تهدف إلى هدم المجتمعات خدمة لأجندات غربية. ويتم ربط ذلك بأوكرانيا بالقول أن الأناركيين أنفسهم المنتمين إلى “قوات سوريا الديموقراطية” الكردية يقاتلون في أوكرانيا ضد الجيش الروسي، كمقدمة للحديث عن استمرارية الدولة السورية في الصمود من أجل “تحرر الشعوب”.
وفيما يتم استذكار جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان ونشر الصور المروعة لما قام به النظام وحلفاؤه طوال السنوات الماضية، مع التركيز على الجرائم الروسية بعد تدخل موسكو عسكرياً في البلاد العام 2015، ربطاً مع الحدث الأوكراني، يبدو المشهد في الجانب الموالي مختلفاً حيث تصبح الفظائع “بطولات” و”أفعالاً رجولية” تستوجب التحية لـ”حماة الديار” على الشاشة الرسمية. وحتى عندما يعترف أفراد موالون في مواقع التواصل بأن مستوى العنف كان كبيراً إلا أن ذلك العنف يبقى بنظرهم مبرراً في تكرار للسردية الرسمية التي تشرح الطريقة التي يتعامل بها النظام مع السوريين، ومفادها أن ضحايا النظام خلال السنوات العشر الماضية، من قتلى ومشردين، يشكلون في مجموعهم التفاحات الفاسدة التي وجب التخلص منها كثمن “زهيد” للوصول إلى “اليوتوبيا الأسدية” التي يبقى فيها الرئيس بشار الأسد في الحكم إلى الأبد ممتصاً دماء السوريين، من دون أن يشتكي أحد، وهو ما أطلق الأسد عليه شخصياً تسمية “المجتمع المتجانس” العام 2017.
يتضافر ذلك مع فكرة مسمومة مفادها أن الوطن أكبر من الأفراد، وبأن “بقاء” البلد أهم من مشاعر أفراده وجروحهم وحياتهم برمتها. على أن تلك المقولة بالطبع ساقطة أخلاقياً لأن الوطن الذي يبيح تعذيب الأفراد وقتلهم وتخويفهم وترهيبهم وسرقتهم بشكل ممنهج من قبل السلطة الحاكمة لا يستحق الحب ولا الاحترام ولا يستحق بكل تأكيد البقاء من أساسه، وهو ما أدركه السوريون قبل 11 عاماً عندما طالبوا بتغيير النظام، لا إصلاحه، لأن إصلاح النظام، كما بات واضحاً، فكرة رومانسية ومستحيلة مازال الموالون للنظام يؤمنون بها، بشيء من القصور أو الإنكار لاعتبارات مختلفة، اقتصادية واجتماعية وأمنية.
ولا طائل بالتالي من الخوض في مناقشة أخلاقية لمواقف الموالين، تحديداً من المشاهير والمثقفين والإعلاميين، خصوصاً إن كانوا من أنصاف الموهوبين الذين يستفيدون اقتصادياً بالدرجة الأولى من السلطة طالما أن الولاء الأعمى يضمن استمرار فرص العمل، فيما يمكن القول أن تغير تلك المعادلة كفيل بتغير مواقفهم السياسية، وهو ما كان حاضراً في السنوات الأخيرة من قبل المشاهير الموالين الذين رفعوا صوتهم احتجاجاً على الظروف الاقتصادية المتردية ليس تضامناً مع السوريين في محنتهم بل لعدم حصولهم على امتيازات تجعلهم يحظون بالغاز والكهرباء والبنزين والخبز رغم ولائهم التام ودفاعهم عن النظام أمام جمهور عربي واسع.
ومن هنا، تأتي أهمية الاحتفاء بالثورة السورية عاماً بعد عام، لأن النظام لا يراهن على النسيان والتشاؤم ومرور الوقت فقط لتكريس شرعيته في السلطة، بل يعمل مع حلفائه أكثر من أي وقت مضى على ضخ سرديات تشوه معنى الثورة السورية كحركة شعبية طالبت بالحرية، وتحاول أيضاً نسف التاريخ الدامي في البلاد منذ العام 2011 للتنصل من المسؤولية والبقاء في السلطة من أجل إبقاء الكابوس السوري مستمراً لعقود جديدة.
المصدر: موقع المدن