مصعب الحمادي
عندما اشتدت المظاهرات ضد نظام الأسد في مدينة الرقة عام ٢٠١٢ تلقّى العميد خالد الحلبي رئيس فرع أمن الدولة في المدينة اتصالاً من القيادة في دمشق. أتاه الكلام بنبرةٍ جامدة على شكل أمر عسكري: “أرسل عناصرك للمشاركة في التصدّي للمظاهرة يوم الجمعة القادم”.
أجاب العميد خالد فقال: “لكن يا سيّدي ليس لدي إلا ٣٥ عنصراً وأخاف عليهم أن يُقتلوا إذا حصل اشتباك مسلّح”.
وجاء الردّ على شكل سؤال:
– أليس عناصرك كلّهم من السُّنّة؟
– نعم سيدي، أجاب العميد الحلبي.
وهنا أتاه الأمر الأخير الذي وضع حدّاً للنقاش:
جيّد! لنترك السنّة يقتلون بعضهم بعضاً.
لم يتفاجأ العميد الحلبي بالجملة الأخيرة. إنه يعرف النظام جيداً؛ يعرفه من الداخل. لقد كان هناك، كان قريباً جدّاً من الدائرة الضيقة للنظام. فهو ليس عميداً في المخابرات فحسب، بل من أبناء الطائفة الدرزية أيضاً، ولذلك فقد كانت ثقة النظام به عالية، ومعاملته له مختلفة عن معاملته لضباط المخابرات السنّة الذين لم يكونوا أكثر من “ديكور” على الهامش ليس لهم أي اطّلاع حقيقي على أحابيل الدولة العميقة الطائفية التي يقوم عليها نظام الأسد.
لكن الحلبي لم يكن في داخله كما يتصوّره النظام، وهنا تبدأ مأساة العميد خالد الحلبي مع النظام ومأساة النظام معه. يدرك الحلبي جيداً أن استراتيجية النظام في حكم سوريا تقوم على “تجميع الأقليّات وتقسيم الأغلبية”، ولذلك لطالما شعر بالتعاطف مع غالبية الشعب السوري المقموعة من النظام الطائفي، وعندما قامت الثورة كان على اطّلاعٍ كامل بألاعيب النظام الجائرة كي يصم انتفاضة الكرامة بالإرهاب والتطرف. كان النظام حريصاً على تصوير الثورة خارجيّاً كتمرّد مسلّح للإرهابيين السنّة من أجل القضاء على العلويين وباقي الأقليات، بينما تعامل معها داخليّاً على أنها “حرب وجود بين السنّة والعلويين”.
لم يؤمن العميد الحلبي لا بدعاية النظام الخارجية ولا بمنظوره الداخليّ الضيّق الذي تداولته الأجهزة الأمنية على نطاق محصور بين الفاعلين الطائفيين من القيادات. ولم ير الحلبي في السنّة يوماً شيئاً مما يدّعيه النظام، بل إنه كمواطن من أبناء الطائفة الدرزية يعتقد أن الغالبية السنيّة في سوريا هي الحامل الحقيقي للمشروع الوطني السوري وأنه لا يمكن بناء الدولة السورية على أسس وطنية راسخة دون ردّ الاعتبار للغالبية السنيّة، فهي الضمانة الوحيدة لحماية الأقليات في سوريا، وخصوصاً العلويين.
ولا يرى الحلبي أن السنّة متطرّفون، كما يرد في “دفتر تشغيل” النظام، بل هم في رأيه أغلبية؛ أغلبية كل شيء في سوريا. فإذا صحّ أن أغلبية المتطرفين في سوريا من السنّة، فإن أغلبية الليبراليين من السنّة أيضاً، وأغلبية المتسامحين والمعتدلين من السنّة، وأغلبية الملحدين من السنّة …إلخ.
هذا هو منطق الأشياء عندما نتكلم عن أغلبية وأقليات!
هكذا يؤمن العميد الحلبي؛ أو على الأقل هكذا يقول إنه يؤمن. ونحن نأخذ بالظاهر ونترك الباطن ليتولّاه الله تعالى.
لم يتماهَ الحلبي إذاً مع رؤية النظام. وعندما حانت “ساعة الحقيقة” بالنسبة له قرّر التخلّي عن موقعه ومغادرة البلاد، غير أنه لم يفكّر بإعلان الانشقاق خوفاً على والدته العجوز في السويداء من انتقام النظام. ولكن قبل ذلك بمدّةٍ طويلة كان العميد الحلبي على تواصل مع كتائب الجيش الحر في الرقة، وسرّب لهم معلومات أمنية وتعاون معهم، وعندما قرر المغادرة إلى تركيا ساعدته كتيبةٌ من الجيش الحرّ بالوصول إلى برّ الأمان بعد رحلةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، حيث لاحق النظام السيارات التي رافقت العميد الحلبي بالغارات الجوّية وقتل في إحدى الضربات عدداً من الثوار الذين كانوا برفقته.
قبل هروبه بفترة ساءت علاقة العميد الحلبي مع العميد الطائفي جامع جامع، رئيس فرع الأمن العسكري في دير الزور والحاكم الفعلي لشرقي سوريا. أرسل العميد جامع تهديدات مبطّنة للعميد الحلبي أكثر من مرة، ونصب الأفخاخ له محاولاً دفع مقاتلين متطرّفين لاغتياله. تم استبعاد العميد الحلبي من اجتماعات قادة الأفرع الأمنية في الرقة والتي اقتصرت على الضباط العلويين فقط، وتمّ سحب عناصر الحراسة من محيط فرع أمن الدولة.
ثم في شهر شباط عام ٢٠١٣، لمّا كانت الرقة على وشك السقوط، استدعى العميد جامع قادة الأفرع الأمنية والضباط والجنود العلويين إلى الفرقة ١٧ المحصّنة في ريف الرقة -بمن فيهم الضابط العلوي الوحيد في فرع أمن الدولة- وترك العميد الحلبي وحده داخل المدينة دون حراسة. كان العميد جامع يريد ضرب عصفورين بحجرٍ واحد. كان يريد أن يقتل “الإرهابيون السنّة” العميد الحلبي فيخلقَ شرخاً بين الدروز والسنّة من جانب، ويتمّ التخلص من العميد الحلبي من جانبٍ آخر.
وصل العميد خالد الحلبي إلى تركيا بأمان في شهر آذار عام ٢٠١٣ ومن هناك سافر إلى الأردن ثم إلى فرنسا ثم إلى النمسا. مرّ العميد الحلبي خلال ذلك بأيامٍ عصيبة؛ فهو أخطر ضابط منشق في سوريا؛ بل وفي الحقيقة فهو الضابط المنشقّ الوحيد الذي كان قريباً من الدولة العميقة للنظام؛ التي يقول الحلبي إنها دولة طائفية حاقدة، خائنة ومُرتَهَنة للخارج، ولا تكنّ لسوريا وأهلها إلا كل شرّ.
بعد أن استقرّ في أوروبا، لفت العميد الحلبي أنظار الباحثين عن مجرمي الحرب السوريين في أوروبا لجلبهم للعدالة. وقد توافرت معطيات لدى منظّمة غير حكومية تطلق على نفسها اسم لجنة العدالة والمساءلة الدولية سيجا (CIJA) تفيد بارتكابه جرائم ضد الإنسانية في الرقة. قادت منظمة سيجا حملةً لإقناع السلطات النمساوية لرفع الحماية عنه وتسليمه للمحاكمة وهو ما ترفضه الحكومة النمساوية حتى الآن متذرعّةً بأن الأدلّة ضدّ العميد خالد الحلبي غير كافية. ولكن ما هو غريب في قصة العميد الحلبي هو تعرّضه دون غيره من الضباط المنشقين لحملةٍ شرسة في وسائل إعلام أجنبية بحجة أنه ارتكب جرائم عندما كان على رأس عمله في سوريا، مع العلم أنه لا يكاد يكون هناك ضابط سوري منشقّ عن المخابرات إلا وهو متورط بارتكاب جرائم.
هناك مثلاً ضابط سنّي حصل على الجنسية التركية اعترف لي شخصياً بارتكابه أعمال تعذيب. وهناك غيره في تركيا وأوروبا وفي الداخل السوري. لكن هؤلاء -مثل العميد خالد الحلبي- يقولون إنهم “تابوا” إلى الله تعالى! وإنهم انشقّوا! فلماذا كل هذا التركيز على العميد خالد الحلبي حتى بلغ الأمر بمجلّة نيويوركر الأميركية لكتابة تحقيق مطوّل عنه لتثبت أنه كان عميلاً إسرائيلياً! متى كانت إسرائيل سُبّةً في الإعلام الأميركي؟ أم أن المجلة كانت تريد من التحقيق -الذي تُرجم للعربية بعد ساعاتٍ فقط من نشره- تدمير صورة الحلبي عند السوريين بالدرجة الأولى؟ فهي أوردت علاوةً على ذلك أنه يشرب الكحول! وأن عنده علاقات غرامية وكان يتناول الفياغرا!
يا لها من تُهَمٍ سخيفة ومحيّرة أيضاً! ماذا يقصدون من ورائها، حتى على فرض أنها صادقة؟
لكن العميد الحلبي لا يستغرب ما يعتبره حملةً ضدّه. فهو يعتقد جازماً أنه أكثر خطراً على النظام من كلّ المنشقين لأن النظام ببساطة لن يتمكن من اتهام الحلبي بأنه إسلاميّ متطرّف عندما يفضح الأخير الآليات الطائفية التي يعمل بموجبها النظام.
إن العميد الحلبي معروفٌ لزملائه المنشقين وحاول المشاركة في الجهود الهادفة لإسقاط النظام بالتعاون مع المعارضة السياسية والضبّاط المنشقين. فهو صديق حميم للعميد مصطفى الشيخ أحد مؤسسي الجيش السوري الحرّ، ومعروفٌ جيداً لدى العقيد عبدالجبار العكيدي. كما أنّ للأستاذ معبد الحسّون، صاحب كتاب “الرقة والثورة” رأيٌ إيجابيٌّ جدّاً بالعميد الحلبي.
لم يكن العميد الحلبي رئيس بلدية في سوريا ولا مختار ضيعة ولذلك فإنني شخصياً لا أستبعد مطلقاً أن يكون متورطاً في انتهاكات، فالمخابرات طالما كانت مصدر رعبٍ لكلّ السوريين. كما أنني متيقن أنه لا يخلو منشقّ عن النظام من لوثة، وقد كتبت من قبل عن ضابطٍ منشقّ دمّر الزبداني بالصواريخ قبل أن ينشقّ وينتقل إلى الجيش الحرّ ويوجّه صواريخه بالاتجاه الخطأ حتى وهو مع الثورة!
ولكن ما هو معنى الانشقاق؟ ولماذا دعا المتظاهرون ضبّاط النظام للانشقاق والانضمام للثورة؟ أما كنا نعلم أنهم جزءٌ من ماكينة القمع؟
كان متوَقعاً أن المنشقّين متورطون بالقمع، وعندما طالبناهم بالانشقاق خاطبنا فيهم ضميرهم الوطني والإنساني كي يتوقفوا عن القمع وعن مساعدة النظام في قتل السوريين وينضموا للثورة ليشدّوا عضدها بقدومهم إليها. لم ندعُهم للانشقاق كي نحاكمهم على انتهاكاتهم السابقة فنُشمِت بهم النظام، ونجعلهم عبرةً لمن يفكّر بالانشقاق وترك النظام. إن هذا الفعل لا يتوافق مع منطق الصراع مع النظام وتحشيد كل الأسلحة ضده، بما في ذلك الضباط المنشقين الذين يُعتبر بعضهم -كالعميد خالد الحلبي- كنزاً من المعلومات السرّية عن خيانة النظام وتنكّره للقيم الإنسانية والوطنية لأهل سوريا بكل طوائفهم ومكوناتهم، بمن فيهم العلويون.