على الرغم من إمكانية القضاء على وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” في جيبه الأخير في قرية الباغوز بريف ديرالزور، إلا أن ذلك قد لا يعني نهاية التنظيم. إذ أن طوراً من الصراع الأمني، قد يتبع سقوط الباغوز، رغم الحسم العسكري التقليدي.الصراع الأمني مع “داعش” شرقي الفرات بدأ منذ شهور، حين توعدت مُعرّفات تابعة للتنظيم في وسائل التواصل الاجتماعي، باستهداف قوات “التحالف الدولي” و”قوات سوريا الديموقراطية” خاصة العرب المنخرطين فيها، بالمفخخات والكواتم والعمليات الانتحارية. العمليات بدأت مع تفجير انتحاري في مطعم يرتاده جنود أميركيون وقادة من “قسد”، في مدينة منبج، في 16 كانون الثاني/يناير، ما أسقط 4 قتلى أميركيين. وبعد أقل من أسبوع، نُفّذَ هجوم انتحاري على قافلة للجيش الأميركي، في منطقة الـ47 بالشدادي في الحسكة، وقتل فيه 5 عناصر من “قسد” وجرح جنديان أميركيان. ومؤخراً، استهدفت حوامة أميركية بصاروخ مضاد للطائرات محمول على الكتف، في ناحية الصور شمالي ديرالزور، لكن الصاروخ أخطأ الهدف.
الأهداف الأسهل لـ”داعش” هم قادة وعناصر “قسد” العرب، ربما لقدرة التنظيم على الوصول إليهم. في 16 كانون الثاني قُتِلَ الملازم أول المنشق عن النظام اسماعيل عايش العبدالله الملقب بـ”أبي إسحاق الأحوازي”، جراء استهداف سيارته بعبوة ناسفة عند مرورها في قرية التوامية قرب البصيرة بريف ديرالزور الشرقي. والأحوازي قائد بارز في “مجلس ديرالزور العسكري”، التابع لـ”قسد”. خلال الأسابيع الماضية عُثرَ على جثث 30 عنصراً عربياً في “قسد”، كانوا قد تعرضوا للخطف. ولا يكاد يمر يوم في مدينة الرقة، من دون استهداف حواجز “قسد”، ما ينجم عنه غالباً سقوط قتلى. الاستهداف أيضاً يطال موظفي الإدارة المدنية التابعين لـ”قسد”. رئيس “المجلس التشريعي” في ديرالزور مروان الفتيح، اغتيل على طريق ديرالزور-الحسكة نهاية كانون الاول 2018. ويُسجّلُ أسبوعياً، مقتل موظف أو أكثر، خاصة من فئة “الكومين”، أي موظفي الإدارة الذاتية في الأحياء والحارات ممن يقومون بوظيفة “المختار” التقليدية. موظفو “الكومين” تظاهروا مؤخراً للمطالبة بحمايتهم من تلك الهجمات.
ووفقاً لخبراء، فإن هذه العمليات تتم بالتعاون بين شبكات أمنية مرتبطة بـ”داعش”، مؤلفة من خلايا سرية من مبايعي التنظيم، لم يكشف عنهم بعد، وقد تم إعدادها للعمل في ظروف “الصراع السلبية”. كما أن بعض عناصر التنظيم، ممن استسلموا وأعلنوا تبرؤهم منه، ما زالوا يقدمون الدعم لهذه العمليات. وتمكن عناصر مطلوبون من التواري والاختباء في مناطق سيطرة التنظيم السابقة، بمساعدة الخلايا النائمة. ويشكل أولئك، الجهاز السري الضارب، الذي يعتمد عليه التنظيم في شن حرب “أمنية” طويلة الأمد.
ورغم حملات الاعتقالات والتفتيش واسعة النطاق، التي نفذتها قوات “التحالف” و”قسد”، لكن الاغتيالات لم تتوقف، ولا زالت تحقق هدفها بزعرعة الأمن والاستقرار في مناطق سيطرة “قسد”. وتستمد تلك العمليات قدرتها على الاستمرار من عوامل عديدة، منها تغلغل مرتكبيها في المجتمعات المحلية، واستفادتهم من الشبكات القبلية، واستثمارهم حالة النفور لدى المجتمعات العربية من هيمنة العناصر الكردية في “قسد” وتحكمهم بالقرار فيها، وعجز المسؤولين الأكراد عن استقطاب البيئات المحلية. كما يلعب الإعداد المسبق للشبكة الأمنية السرية، وامتلاكها المال والأسلحة دوراً في تسهيل عملها. ويعتقد أيضاً أن أطرافاً مثل نظام الأسد، وايران وروسيا، على استعداد لتقديم العون لـ”داعش” في هذا المضمار، خاصة أن للنظامين السوري والإيراني، تجربة طويلة في دعم الجهاديين ضد الولايات المتحدة في العراق.
وثمة عامل غير منظور ملحوظ جيداً اليوم ولكنه سيكون مؤثراً مع الوقت، وهو المعتقلات الكبيرة لـ”قسد”، التي تضم مئات الجهاديين السابقين. فقد ثبت بالتجربة، أن هذه المعتقلات هي “اكاديميات” لتفريخ عناصر وقادة جهاديين. وقد يدخلها أحدهم بتهم بسيطة، وخبرات متواضعة، ويخرج منها بخبرات وارتباطات كبيرة، ليمارس نشاطه لاحقاً بكفاءة كبيرة جداً، في المحيط الجغرافي لتلك المعتقلات. وذلك، كما جرى في معتقل بوكا الشهير وأبو غريب في العراق، وسجن صيدنايا في سوريا.
مدير “المركز الكردي للأبحاث” نواف خليل، قال لـ”المدن”، إن “قسد بصدد إعادة هيكلة نفسها بمجرد التخلص من آخر جيب لداعش”، إذ ركزت مخرجات اجتماع “قسد” الأخير، قبل أيام، على ضرورة الاستمرار بتعقب الإرهابيين من “داعش” بالتنسيق من قوات “التحالف الدولي”. وأعرب خليل، عن اعتقاده بأن المرحلة المقبلة، ستشهد عناية كبيرة لتلافي الثغرات الأمنية، ليس من “قسد” فقط، بل ومن قوات “التحالف” أيضاً.
يبدو جلياً أن “داعش” قد حسمت وجهة صراعها المستقبلي، وراحت تتردد في الأيام القليلة الماضية عبارة “الولايات الأمنية”، في تصريحات الناطقين باسم التنظيم. إشارة واضحة إلى استراتيجية “داعش” في المرحلة المقبلة، كتحول من ولايات كانت تسيطر عليها إلى ولايات تنشط فيها أمنياً. أما الشكل الذي ستتخذه “قسد” ومن خلفها قوات “التحالف”، فما زال محل جدال. ومواكبة هذا التحول الاستراتيجي لدى “داعش” تقتضي تحولات بنيوية لدى “قسد”، لا في عقيدتها القتالية فحسب، بل في الأساس الايديولوجي الذي تقوم عليه. وهذا التحدي سيحدد مدى قدرتها على الاستمرار والصمود، عسكرياً وسياسياً، وأمنياً.
المصدر : صحيفة المدن ٢٧/٢/٢٠١٩