عبد الناصر العايد
لم يأت باولو ورسالته من الفراغ، هو استمرار لخط دقيق نشأ في العالم المسيحي الغربي في زمن ليس بالبعيد. لم يصبح تياراً، لكنه ما زال مستمراً. جوهر دعوته: فهم الإسلام والمسلمين كما هم، لا كما تقتضيه مصلحة هذا أو أيديولوجية ذاك ومسلّماتها المسبقة، وهو مسعى لا يمكن تحقيقه ما لم يذهب الباحث عن الحقيقة إلى قلب الآخر، بنوايا طيبة، وعلى طريقة باولو الذي وصفه ريجيس دوبريه في تقديمه لكتاب باولو “عاشق الإسلام مؤمن بعيسى”، إن “وريث الأب شارل دي فوكو ولويس ماسينيون، مستقيم استقامة نبي، وموقفه لا يمكن أن يلتاث بالخداع أو المخاتلة، وهو في ردوده على المحكمة الفاتيكانية وملاحظاتها المتاخمة للاحتجاج والاستنكار، ضاعف من مقدار رهانه، لا بل وزيّنه بريشة، معلناً محبته للإسلام، وكأنه بذلك يريد أن يكسر حدة رهاب الإسلام islamophobie ويعكس اتجاهها نحو عشق الإسلام islamophilie”.
لفهم المسار الذي وصل منه باولو، لا بد من النظر في الموقف المسيحي الرسمي (الديني) والفكري من الإسلام عبر الحقب الماضية. فحين أرسل النبي محمد مجموعة من المسلمين المضطهدين إلى ملك الحبشة المسيحي سنة 615م، طلب إليهم تلاوة الآيات من (16- 34) من سورة مريم بين يديه، ليبرهنوا له أن المسلمين يؤمنون بأن المسيحية دين إلهي، لكن النجاشي لم يأبه لذلك واكتفى بإكرام وفادتهم.
وعندما انتصر المسلمون في الجزيرة العربية، وفد المسيحيون على النبي محمد لاستطلاع وضعهم وعلاقتهم مع الدين الجديد، وعلى رأس تلك الوفود كان وفد نجران اليمن، وأسفرت النقاشات عن رفض كافة التجمعات المسيحية في الجزيرة العربية اعتناق الإسلام، فحدد لهم النبي عندئذ وضعهم القانوني المتمثل بكونهم “أهل ذمّة أو كتاب”. وحكم هذا القانون علاقة المسلمين بالمسيحيين في المناطق التي فُتحت لاحقاً، لكن رجال الدين المسيحيين لم يبذلوا في ما يبدو جهداً خاصاً للبحث في الدين الجديد بجدية. فأول مَن كتب منهم عن الإسلام، وكان يعيش في دمشق بين المسلمين، هو الراهب يوحنا الدمشقي، الذي ألّف كتاباً سمّاه “حول الهراطقة”، ورأى فيه أن الإسلام ضرب من الهرطقة المسيحية، ورجّح أن محمداً تلقى معلوماته الدينية من راهب من المذهب النسطوري القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح، وهي النظرية التي تكررت في مؤلفات عديدة بعد حقب متفاوتة، مثل مؤلف ثيوفانس المعترف (توفي 879م) والأدبيات التي رافقت وسبقت الحروب الصليبية، عندما ترجم القرآن إلى اللاتينية سنة 1143م بناء على طلب بطرس المبجَّل، وجاءت ترجمته مثالاً على عدم الفهم والنقص والتشويه، وبقيت هذه النسخة هي الأكثر استعمالاً في اللغة اللاتينية لمدة خمسة قرون، ولم يتم تجاوزها إلى ترجمة أخرى إلا في سنة 1698م عندما ظهرت ترجمة لودفيكو مراتشي الإيطالي.
إن الخطوة الجدية الأولى التي اتخذها رجل دين مسيحي غربي نحو العالم الإسلامي، هي التي اضطلع بها الراهب الإيطالي فرانسيس الأسيزي (1181-1226م) الذي وصل إلى مصر سنة 1219م، إبان الحملات الصليبية في عهد الكامل، وقابله لإقناعه بالتحول إلى المسيحية، لكن هذه المحاولة تم التعامل معها كطرفة مضحكة في معسكر المسلمين، ونُظر إلى فرنسيس على أنه ساذج أو مجنون، فانتقل إلى سورية ويبدو أن دعواه هناك أيضاً لم تثمر شيئاً. لكن خمسة من أتباعه وصلوا سنة 1219م إلى المغرب، وراحوا يبشرون بالمسيحية بشكل علني، وبعد سنة من انطلاقهم في تلك المحاولة، لقوا حتفهم على أيدي مسلمين غاضبين.
لقد انتهت مغامرة الفرنسيسكانيين للتبشير بين المسلمين بالفشل، كما انتهت إلى ذلك أخوية الدومنيكان التي اختارت أيضاً طريق التبشير بين المسلمين في شمال أفريقية، بناء على رغبة البابا هنري الخامس (1216-1227م)، وترتب على المحاولتين، توصل الكنيسة وأتباعها، إلى قناعة مفادها أن التفكير في تحويل المسلمين إلى المسيحية بالتبشير، محض وهم.
وعرف العالم المسيحي انعطافة أخرى في النظر إلى الإسلام، حين ألّف توما الإكويني رسالته المعنونة “منطق الإيمان”، والكتاب هو جدل مع المواقف الدينية الإسلامية. وتوما، الذي يدرك صعوبة التبشير بين المسلمين، ينصح بإيجاد قاعدة مشتركة أخلاقية فلسفية يقبلون بها، وينصح باللجوء أيضاً إلى العقل الطبيعي أساساً مشتركاً.
وما يميز الإكويني أنه لم يعتبر الإسلام “هرطقة مسيحية” مثل أسلافه، أو أن المسلمين مرتدون عن المسيحية، بل يعتبرهم ببساطة كفاراً، أو غير مؤمنين، وأن العقيدة الإسلامية لا يمكن اشتقاقها بحال من الأحوال من المعتقدات المثبتة في الكتاب المقدس.
وتتالت بعد ذلك المؤلفات التي تقترب من حقيقة الدين الإسلامي شيئاً فشيئاً، لكن بفارق يصل إلى قرن من الزمان أحياناً، لكنها جميعها ظلت تنشد تحويل المسلمين إلى مسيحيين، أي أنها كانت بطريقة أو أخرى جدلاً تبشيرياً، مثل مؤلفات رمُند لولَّوس والكاردينال نيقولاس الكويسيّ، وصولاً إلى مارتن لوثر الذي تزامن صراعه ضد بابا الفاتيكان ليو العاشر، مع الزحف الإسلامي العثماني على أوروبا العام 1526م، وكتب حينها “رسائل الأتراك”، التي يَعدّ المسلمين فيها “سوط الرب” الذي يعاقب به المسيحيين. وعندما أصدر أستاذ اللغات الشرقية في أوترشت، هدريان رولاند، كتاباً سنة 1705، قال فيه أن الأديان (غير المسيحية) لا يمكن أن تكون جنونية ونابية عن الذوق كما يخيل لممثلي الدين المسيحي، لأن الله وهب لكل البشر عقلاً من دون أن يتعلق الأمر بتبعيتهم الدينية، وضعت الكنيسة هذا الكتاب في لائحة الكتب الممنوعة، بسبب ميله للإسلام.
واستمر الحال على ما هو عليه في الحقبة الاستعمارية، التي لم تتغير خلالها مواقف الطرفين من بعضهما البعض، رغم الهيمنة المباشرة للدول الغربية على مناطق شاسعة من العالم الإسلامي، وحرية عمل المبشرين المدعومين بالقوة العسكرية، إلى أن انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1962، وصدر عنه تصريحه عن علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية، فخصّ الإسلام والمسلمين باحترام الكبير، وعدّد نقاط الاتفاق بين الديانتين الكبريين، كما أوصى مجلس الكنائس المسكوني (البروتستانتي) سنة 1967، بالحوار المسيحي الإسلامي، وأقيم أول مؤتمر رسمي بين مجلس الكنائس المسكوني والمؤتمر الإسلامي العالمي سنة 1982 في سريلانكا.
بمعزل عن هذا التحرك الرسمي غير الفعال في الواقع، نشأ، مطلع القرن العشرين، تيار ضعيف، قام وما زال يقوم على أفراد معدودين من رجال الدين المسيحيين، يرى أعضاؤه أن مطالبة المسلمين بالتسامح والاعتراف بالآخر، في الوقت الذي يرفض فيه الإسلام ويعامل بعدم تسامح، هو موقف غير عادل، وإلى هذا التيار ينتمي باولو، الذي يتخذ من مؤسسيه شارل ده فوكو، ولويس ماسنيون، مرشدين له.
ولد ده فوكو في ستراسبورغ بفرنسا سنة 1858م، وأصبح ضابطاً في الجيش لكنه طُرد لسلوكه الماجن، فانطلق في رحلة استكشافية إلى المغرب العربي، وهناك تأثر بصلاة المسلمين. ويقول في كتابه المرشد، الذي ترجمه باولو إلى العربية: “لقد ولد الإسلام في نفسي اضطراباً عميقاً، لقد استهواني إلى أقصى الحدود”[1]، عاد إلى فرنسا وصار راهباً كاثوليكياً، ثم زار القدس، والتحق بدير صغيرة في بلدة اكبس على الحدود السورية التركية الحالية، وعمل خادماً في دير للراهبات الكلاريات في الناصرة. وفي سنة 1901 تمت سيامته كاهناً ليصبح الأب شارل ده فوكو، ويحتفل بقداسه الأول في واحة بني عباس الصحراوية على الحدود الجزائرية مع المغرب، حيث تعيش غالبية عربية إلى جانب الطوارق، وهناك عاش بين الناس كشخص عادي من دون أن يحاول أو يفكر بالتبشير، وصار محبوباً من القرويين البسطاء، الذين صاروا ينادونه بالأخ شارل كما طلب إليهم. وبدلاً من التبشير، خاض معركة ضد العبودية التي لاحظ حضورها بقوة فيما تغض السلطات الاستعمارية النظر عنها، وفي هذه السنوات أيضاً تبادل الرسائل مع لويس ماسنيون. وفي فصح سنة 1908، كتب القوانين لجمعية مسيحية تهتم بالعمل من أجل غير المسيحيين في المستعمرات، ومن أجل تحقيق ذلك توجه إلى فرنسا لدعوة من يرغب بذلك، وهناك التقى لويس ماسنيون للمرة الأولى سنة 1909م، وبدأ بتأسيس “اتحاد إخوة وأخوات القلب الأقدس” الذي لم يُكتب له أن يرى النور، لكن ماسنيون سيمضي في مشروع معلّمه.
عمل فوكو على تأسيس تقاليد الضيافة في معتزله، من دون تفريق بين صديق أو عدو، مسيحي أو مسلم.
كان شارل دي فوكوه في 12/1/1916 قد انتهى للتو من كتابة الرسائل بانتظار موظفي البريد في صومعته الصحراوية النائية، عندما هاجمته زمرة من المسلحين المسلمين، بقصد السرقة، أو خطفه كرهينة. وفي تلك الأثناء، وصل موظفو البريد فجأة، فخاف المسلحون، وعمدوا إلى قتله ثم هربوا، وكُرس شارل ده فوكو طوباوياً في الكنيسة الكاثوليكية سنة 2005.
أما لويس ماسنيون (1883-1962م)، والذي تعرف على شارل ده فوكو بفضل أبحاثه الجغرافية، ومن ثم كان لهذا الرجل دور بارز في اهتداء ماسنيون المسيحي في العراق إبان محنة واجهته هناك، وبفضل بحثه المهم عن الحلاج، تعرف على الثقافة والعالم الإسلاميين من قرب، وكرس نفسه، مثل شارل، من أجل ما هو عالمي. مع بداية الحرب العالمية الأولى، جُنّد ماسنيون كضابط في جيش الشرق، ثم عاد إلى تدريس العلوم الإسلامية في الكوليج ده فرانس.
أسس ماسنيون في مدينة دمياط المصرية، جمعية مسيحية صغيرة للصلاة، سمّاها “البدليَّة”، وقد استمد اسمها من التراثين المسيحي والصوفي الإسلامي معاً، وهي مكرسة للشفاعة من أجل الإسلام، وتقوم على ما كان يشعر بقيمته الكبيرة: “التألم من أجل الآخرين، هجرة داخلية نحو الآخر ومشاركة حقيقية في حياته وضيافة في القلب”[2]، أو كما تقول ماري كحيل التي شاركت ماسنيون التأسيس “لقد قدمنا نفسينا من أجل المسلمين، لا لكي يصيروا مسيحيين، بل لتحقيق مشيئة الله فيهم وعبرهم، نريد أن نجعل صلاتهم صلاتنا، وحياتهم حياتنا، وأن نقدمهم للمولى”[3]. ويقول ماسنيون إن البدليَّة ليست “قاعدة تأمل، ولا منهجاً مدروساً للولوج الرسولي، إنها أهبة الاستعداد الروحي للبدل، المقدمة كلياً في سبيل أن يكون ليسوع نفوس، كي يجيب عنها نداءه حين يطلبها، إنها هجرة روحية من أجل تقديم الضيافة ليسوع في هذه النفوس الأخرى، بكل تواضع وحشمة وإيمان”[4].
يعتبر باولو نفسه وريث ده فوكو وماسنيون، ويعتبر دير مار موسى، الحيز الجغرافي الذي تستمر وتترعرع فيه “البدليّة” التي تعني في الكتاب المقدس بذلَ المسيح ذاته طوعًا من أجل الخطاة، وموته عوضاً عنهم، وَاضعًا على نفسه العقوبة التي يستحقُّونها هم. وقد سار باولو بقدميه على هذا الطريق بلا وجل ولا تردد، حين قدم نفسه لمتطرفي داعش، ليقتلوه.
لم يكن باولو حين ذهب إلى الرقة بالساذج الذي لا يعلم ما ينتظره في المدينة التي يحكمها المتشددون الإسلاميون، لكنه كان يعتقد على الدوام، إن ما وصل إليه هؤلاء “الأخوة” هو “خطيئتنا جميعاً”، التي يجب أن نعترف بها بشجاعة، لكنه مضى إلى أكثر من الاعتراف، وقدم نفسه بنفسه “كذبيحةِ إثمٍ”.
_________________
[1] نصائح إنجيلية “المرشد” شارل ده فوكو، ت الأب باولو دالو ليو وأديب الخوري، دار الخليل، ط 2009، دمشق، ص38.
[2] إشكالية الأرض المقدسة، لويس ماسنيون. ت: باولو دالو ليو وأديب الخوري، دار الأولى، دمشق، ط1، 2005، ص30.
[3] المرشد، م. س، ص282.
[4] المرشد، م.س، ص283.
المصدر: المدن