جسر: نص:
أقف غير متأهّبٍ، شاداً قامتي قليلاً كي أمنح مهنتي هيبتها، بكامل طقمي الرسمي، بكامل كاريزمتي الرسميّة، مهيوباً كنت بحكم طقمي، لحيتي، سُمرتي، وعبوسٍ خفيف، ولولا ربطة شعري التي تشبه أسلاك التلفون المملوءة بنميمة خالاتي حين تمزّقن الهاتف الأرضيّ ساعاتٍ، لولا ربطة شعري صرتُ صنماً مهيوباً، هائبٌ أنا غير مهيوب، كمن يختفي وراء قلعةٍ، كمن لا تطاله المنجنيقات، واقفاً بكاملي ناقصاً!.٭٭
اليوم شيءٌ ما يلمسني، أعرفه، عادة ما يمرّ بين فراغات أصابع قدميّ، في حلمتيّ صدري، في جبيني، اليوم يسري، أسفل رأسي نحو الرقبة مثل دغدغة الشوك، يتحرك، يُكهرِبُ، يأزّ، إنه اليوم يخرج على بنود اتفاقيتنا السريّة، يأخذني على حين غرّة. أسمع الرجل قربي، ملتحٍ ربّما، لا أذكر، أذكره يمزح مزاحاً لا يُضحِك السوريّين لكنهم كانوا يضحكون للخواجة، يتحدث انكليزيةً ملوثةً بلهجته الأم، أتحدث العربيّة مثل الآلة، أنا مرهقٌ، أنا متعب، عيوني ترى ولا تبصر، ما أكبره من حشدٍ أمامي، ما أصغرني يا أنا يا عقلة إصبعٍ. يمرّ مثل ضبابٍ لامعٍ سريع، وهل يلمع الضباب؟ صدقوني لا يشبه غيمةً عابرة، إنه ضبابٌ فقط، يمرّ وتغيب، صورٌ، ومثل ضربٍ من جنون فنون ما بعد الحداثة مشاهدٌ من ٤ ثوان وإن شدّت نفسها تصير عشراً لا تكتمل، سرّ التشرد الكبير هذا أن لا شيء يكتمل لا الجنس ولا الحبّ ولا الأصدقاء، ولا الأرض الغريبة، يمرّ مثل لسع دبورٍ لا تخشى معه موتاً، ولا تهرع كي لا يطعنوا في رجولتك، أشرتُ بيديّ أنا متعبٌ وخرجت من القاعة الكبيرة، سجادها رملٌ متحرك، رسومات الجدران نهضت على رجليها مثل فرسانٍ مَلّوني أسيراً ويريدونني ميتاً، خرجت لم أعرف ما أقول: أنا متعبٌ… أعيدها مثل تمائم الساحرات الهاربات من محاكم التفتيش.. هربت من الفندق، وبعد دقائق استلقيت في شقتي الباردة، في مدينة تشبه حفرة همّ. لا فرسان، ولا حقائب تحشوها بثيابك، ولا ذكريات كثيرة ولا يوميّات، ولا أنا في أي مكان؛ أنا في بدلتي الرسمية، انا أتحدث التركية مغيراً صوتي ولكنتي ومزاحي، أنا ألاطف الزبائن كي أحفظ ما يحفظني، أنا لم يتحدّث العربية أسبوعين و شجّ رأس صديقٍ قابله بثرثرته، انا أداعب قطاً، أنا أكرع البيرة نكاية بتحذيرات الأطباء، أنا أحدث حجارات بالات بلمسٍ من يديّ… لا أنا في أي مكان، مجموعة أنواتٍ في مواقف منفصلة، بملابس مختلفة، بلغات مختلفة، بأمزجة مختلفة. Bensiz kaldım بقيت دون نفسي، كل مافي الأمر أنني ارتكبت فعل الخيانة العظمى وبقيت حياً.
٭العنوان بالأصل لعب على عبارة تركية شائعة في الأغاني الرومانسية الخفيفة منذ سبعينات القرن الماضي وهي: Sensiz yaşamam وتعني لا يمكنني أن أعيش دونك، عُدلت إلى Bensiz kaldım أعيش دون نفسي أو بقيت دون نفسي
٭٭يتحدث الكاتب عن ظهور أعراض التروما لأول مرة (اضطراب كرب ما بعد الصدمة) أثناء عمله كمترجم، تمّت كتابة النص بعد مضي ثلاث سنوات تقريباً على ذاك اليوم الذي يسرد وقائعه.