هشام ملحم
كان المشهد الاحتفالي في موسكو سرياليا بامتياز وان تخللته لقطات هزلية تراوحت بين القومية الروسية الشوفينية ووجهها الاخر: المظلومية الروسية التقليدية تجاه الغرب.
المناسبة: الإعلان الرسمي عن ضم أربع مقاطعات أوكرانية محتلة جزئيا إلى روسيا الاتحادية بعد سبعة أشهر من القتال الذي أظهر أن الجيش الروسي، الذي كان يفترض قبل غزو أوكرانيا أن يكون ثاني أقوى جيش في العالم، هو في الواقع نمر من ورق. وبعد يوم واحد من تبجح الرئيس فلاديمير بوتين بأن المقاطعات الأربعة بسكانها قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الوطن الروسي “إلى الابد”، كان الجيش الروسي ينسحب بشكل فوضوي ومحرج من مدينة ليمان، في مقاطعة دونيتسك التي أعلنها بوتين جزءا من روسيا، مخلفا ورائه العتاد وجثث قتلاه.
خطاب بوتين في الاحتفال المزيف بنصر وهمي، وتهديداته المبطنة باستخدام أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النووية التكتيكية أظهر بشكل صارخ ضعف بوتين سياسيا وعسكريا، واحتقاره للقانون الدولي ومبدأ سيادة الدول، وكذلك احتقاره واستخفافه بأرواح شباب روسيا الذين يسعى إلى تجنيدهم إلزاميا وزجهم في أتون حرب لا يريدونها ويخافون منها، الأمر الذي يفسر هجرة أو هروب أكثر من مئتي ألف روسي عبر حدود روسيا الطويلة مع دول أوروبا ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى. الماكينة الدعائية الروسية وصفت هروب هؤلاء الروس المعادين للحرب كنوع من التطهير الضروري، بينما قال فلاديمير بوتين بأن روسيا يجب أن “تبصق هؤلاء مثل الذبابة التي تدخل الفم بطريق الخطأ”.
في الأيام الماضية نشر محللون غربيون جديون مقالات حول احتمال تحول الحرب في أوكرانيا إلى حرب نووية. الكاتبة والخبيرة في الشؤون الروسية سوزان غلاسير نشرت مقالا في مجلة نيويوركير بعنوان: “ماذا لو كنا بالفعل نحارب في حرب عالمية ثالثة ضد روسيا؟” وجاء في العنوان الفرعي للمقال “استفزازات بوتين الأخيرة وضعت واشنطن مرة اخرى في قيد صعب”، وذلك في إشارة إلى أن سياسة الرئيس بايدن منذ بداية الحرب كانت في توفير الدعم العسكري لأوكرانيا، ولكن بطريقة لا تؤدي إلى حرب ضد روسيا.
مضمون خطاب بوتين والاحتفال بالانتصارات الخيالية والشكوى من مؤامرات الغرب واتهامه بأنه كان يسعى منذ القرن السابع عشر إلى “استعمار” أو تدمير روسيا، ذّكرني بطروحات وأوهام وادعاءات صدّام حسين ونظريات المؤامرة التي جعلته يشّن الحروب الكارثية ضد جيران العراق وشعبه منذ سبتمبر1980 وهي حروب استخدم فيها الأسلحة الكيماوية ضد إيران، ولاحقا ضد كردستان العراق. الطروحات العدائية ذاتها، والقومية الشوفينية ذاتها، واحتقار الحدود والسيادة الوطنية ذاته، والاستخفاف بأرواح شعبه ذاته، والمظلومية تجاه الغرب ذاتها.
المشهد الميداني في أوكرانيا يبين أن روسيا عاجزة عن تحقيق انتصار عسكري تقليدي ضد القوات الأوكرانية النظامية وخاصة إذا واصلت واشنطن وحلفائها تزويد أوكرانيا باحتياجاتها العسكرية أو حتى زيادة نوعية هذه الأسلحة أو إضافة أسلحة هجومية اليها. وجميع المؤشرات تبين أنه على الرغم من تهديدات بوتين بتصعيد مستقبلي، فإن دول حلف الناتو مصرّة على مواصلة دعمها العسكري والمالي لأوكرانيا. الخسائر الميدانية التي منيت بيها القوات الروسية في محيط مدينة خاركيف في شمال شرق البلاد ومحيط مدينة خيرسون في الجنوب في الأسابيع الماضية، وهي الخسائر التي أرغمت بوتين على إعلان التعبئة العامة، أبرزت إلى العلن وبشكل مخز محدودية القوة العسكرية الروسية والمستوى المتدني لأداء الجيش الروسي ومعنوياته الضعيفة. هذا جيش ينتمي إلى دولة في المرتبة الثالثة أو الرابعة عسكريا.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية أصدر الرئيس بوتين وغيره من المسؤولين الروس تهديدات خطيرة باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في الحرب الأوكرانية، وهذه التهديدات تعني من جملة ما تعنيه أن القيادة الروسية تدرك الان أن القوات الروسية التقليدية غير قادرة على إلحاق هزيمة ساحقة بأوكرانيا، أو إرغام الحكومة الأوكرانية في كييف بالتفاوض مع روسيا في غياب انسحاب روسي من الأراضي التي احتلتها منذ بدء غزوها في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي.
واكتسبت هذه التهديدات بعدا خطيرا جديدا في الأيام الماضية لأنها تزامنت أو جاءت في أعقاب الإعلان عن “الاستفتاءات” المزيفة في المقاطعات الأوكرانية الأربعة، وقرار ضمها إلى روسيا، ما يعني وفقا لمنطق بوتين الأعوج إنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من الوطن الروسي، ما يعطيه الحق في استخدام كل الأسلحة المتاحة، بما فيها النووية، للدفاع عن التراب الروسي، إذا وصل القتال أو استمر في هذه المقاطعات الأربعة.
هناك من يرى في الغرب أن تهديدات بوتين النووية يجب أن تؤخذ على محمل الجد وخاصة بعد النكسات الميدانية الأخيرة لقواته في اوكرانيا، ولأنه يدرك أن هزيمته العسكرية تعني بداية النهاية السياسية له في روسيا. في المقابل هناك من يرى أن بوتين لن يستخدم السلاح النووي لأنه ليس “انتحاريا”، وسوف يعول على مرور الزمن لإضعاف تضامن الغرب مع أوكرانيا.
المسؤولون الأميركيون حذّروا روسيا من عواقب استخدام الأسلحة النووية، وأوصلوا هذه الرسالة بشكل لا لبس فيه إلى الرئيس بوتين. مستشار الامن القومي جايك ساليفان حذّر من انه ستكون هناك “عواقب كارثية” على روسيا إذا استخدمت الأسلحة النووية. وبعد أن أكد أن هذه الرسالة وصلت إلى المسؤولين الروس “على أعلى المستويات” أضاف “هم يدركون جيدا ما الذي سيواجهون اذا مشوا على هذا الطريق المظلم”.
واستخدم بوتين ذاكرته الانتقائية لتبرير أي تصعيد نووي، حين قال أن استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان قد خلق “سابقة”، متناسيا أن اليابان هي التي اعتدت على الولايات المتحدة، كما كان قد قال في السابق إن الغزو الأميركي للعراق هو سابقة تبرر غزوه لأوكرانيا، متناسيا أن الولايات المتحدة لم تغزو العراق لضم أراضيه.
الرئيس بوتين أوضح في خطابه أن حربه ليست مع أوكرانيا أو حلف الناتو فحسب، بل انها بالدرجة الأولى مع “أسياد” أوكرانيا في الغرب. العدو الذي يرفضه ويكرهه بوتين هو الغرب، وتحديدا الغرب “الانجلو- ساكسوني” الأميركي-البريطاني. هذا الغرب في مفهوم بوتين يستخدم تقدمه التقني والمالي لفرض إرادته على الشعوب الأخرى ولجمع ما أسماه “ضرائب الهيمنة” من هذه الشعوب. ولهذا الهدف يقوم الغرب بخلق الاضطرابات في هذه الدول لتقويض سيادتها. ويضيف بوتين أن هذا “الجشع” الغربي هو الذي يفسر “الحرب الهجينة” (استراتيجية عسكرية جديدة تجمع بين الحرب التقليدية والحرب غير النظامية والحرب السيبرانية) التي يشنها الغرب ضد روسيا على حد زعمه. وادعى بوتين أن الغرب يريد تحويل روسيا إلى “مستعمرة”، أو “تحطيمها” واتهم “النخب الغربية” بأنها “توتاليتارية” و”عنصرية” في نظرتها إلى روسيا، ورأى انه لهذه الأسباب لا يملك الغرب أي سلطة أخلاقية لرفض الاستفتاءات التي أجرتها روسيا في أوكرانيا.
ونبش بوتين السجل الاستعماري للغرب من الإتجار بالعبيد إلى نهب ثروات الهند والصين. وادعى أن الغرب “حتى هذا اليوم ” لا يزال “يحتل” اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وهي دول يسميها خبثا بالحليفة. اللافت أن بوتين وضع روسيا في سياق الدولة أو الحضارة الوحيدة التي “قادت” الحركة المناوئة لهذا الاستعمار الغربي، وكأن الزحف الروسي عبر القرون باتجاه الشعوب التي كانت تعيش في جنوب وشرق روسيا كان زحفا سلميا وحضاريا بامتياز.
مضمون الخطاب يبين بشكل سافر إلى أي مدى أخطأت النخب الغربية بما فيها النخبة السياسية الأميركية في الحزبين الديموقراطي والجمهوري في فهمها لفلاديمير بوتين خلال حكمه الطويل، وكيف اعتقدت خطأ أنها يمكن أن تتعامل معه بشكل عقلاني ومبني على مفهوم المصلحة المشتركة. مضمون خطاب بوتين التصعيدي والصدامي والعبثي، والوضع الميداني المذري لقواته العسكرية في أوكرانيا، يفرض على الغرب خيارات صعبة بالفعل. في ظل الظروف الحالية التفاوض غير وارد وغير مجد، ومواصلة دعم أوكرانيا في حربها الشرعية لتحرير أراضيها يحمل معه خطر عدوان نووي.
القادة المتسلطون بشكل مطلق أو شبه مطلق قادرون على البقاء في السلطة في وجه تحديات كبيرة خارجية وداخلية. صّدام حسين وبشار الأسد استخدما الأسلحة الكيماوية حتى داخل العراق وسوريا وبقيا في السلطة حتى بعد ارتكاب هذه الفظائع. القواسم المشتركة بين صدام حسين وفلاديمير بوتين عديدة، من بينها تاريخهما الطويل في التصعيد وعدم التراجع أو الاعتراف بالخطأ أو بالهزيمة.
صدام حسين أصيب بهزيمة مذّلة في 1991 وبقي في السلطة إلى أن واجه غزوا أميركيا أسقطه في 2003. آنذاك رأى بعض أنصاره أنه لو كان يملك أسلحة نووية لما كان تعرض لغزو أميركي.
بوتين في المقابل يملك ترسانة نووية كبيرة، ويكّن للغرب عداء تاريخيا وثقافيا عميقا وعبثيا لم يعكسه بهذا الشكل أي زعيم سوفياتي أو رئيس روسي في السابق. في مواجهته مع الغرب بعد غزوه لأوكرانيا، وضع بوتين نفسه في مأزق استراتيجي لا يعرف كيف يخرج منه دون عنف أكبر يمكن أن يسحقه أيضا. مأزق بوتين وضع الغرب أيضا في معضلة: كيف يواصل دعم أوكرانيا في حربها المشروعة دون الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة؟
المصدر: الحرّة