جسر:ترجمة:
نشر موقع “مركز السياسات العالمية” تقريراً مطولاً عن كيفية تعامل نظام الأسد مع الجهود الرامية للاستجابة لفيروس كورونا في مناطق سيطرته في سوريا.
يبدو أن النظام قد تخلى عن جهوده الرامية إلى التصدي لوباء كوفيد-19 (الكورونا) مع ارتفاع العدد الحقيقي للإصابات في جميع أنحاء البلاد في الأشهر الأخيرة. وبكذب النظام الذي أصبح معهوداً وإخفائه للعدد الحقيقي للإصابات يجبر النظام الموظفين والطلاب على العودة إلى العمل والصفوف المدرسية المكتظة بالطلاب , وكأن العدد الرسمي المنخفض للحالات يعكس الواقع. ورداً على فشل النظام والمنظمات غير الحكومية (المسجلة رسمياً) ووكالات الأمم المتحدة , ظهرت مبادرات مستقلة وشبه سرية في جميع أنحاء البلاد لمساعدة المصابين. وبدلا من دعم هذه الجهود تنظر دمشق إلى المبادرة المستقلة بعين الريبة وتراقبها, وتسعى إلى تحويل الموارد التي تتبرع بها المجتمعات المحلية إلى غاياتها. إن سوء إدارة الأزمة لا يعني فقط أن المزيد من السوريين سيموتون، بل سيزيد أيضا من تعريض مستقبل القطاع الصحي المدمر أصلاً بالفعل للخطر.
يقول محمود, وهو أحد المتطوعين المشاركين في التوزيع السري لأسطوانات الأكسجين المجانية في ريف دمشق الغربي: “إننا نوزع اسطوانات الأكسجين في الليل بعيداً عن الأنظار خوفاً من التقارير التي قد تصل إلى الشرطة السرية أو ما يعرف بـ “الأمن” إذا ما أخذنا وقتاً طويلاً في عملية التوزيع”. ومع ارتفاع أعداد السوريين المصابين بفيروس كورونا في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في الأشهر الأخيرة وامتلاء المستشفيات بالمصابين وصولا إلى أقصى طاقتها الاستيعابية , بدء السوريون بشراء خزانات الأكسجين للبقاء على قيد الحياة دون رعاية طبية مهنية استعاضة عن الذهاب للمستشفيات لامتلائها. ويضيف محمود شارحاً لضرورة عمله في الخفاء: إن توزيع المساعدات أو أي عمل خيري يتطلب إذناً من الفروع الأمنية وهذا يستغرق وقتاً طويلا وقد يعرض هذه التبرعات للسرقة أو تحويلها إلى شرائح المجتمع التي تختارها الفروع.
مبادرة محمود هي واحدة من عدة مبادرات وجهود محلية ومستقلة الذين ظهروا في العديد من البلدات والمدن الخاضعة لسيطرة النظام لمواجهة وباء كورونا وإن مثل هذه المبادرات قد ظهرت بسبب فشل القطاع الصحي في الدولة والمنظمات غير الحكومية المسجلة رسمياً في معالجة الوباء وبدلا من تسهيل هذه المبادرات التي قد تكون منقذة لحياة العديد من السوريين، ينظر النظام إليها بريبة ,باعتبار أي مبادرة مستقلة (وخاصة تلك التي يمولها سوريون من الخارج) مصدرا للتهديد وفقدان السيطرة.
لم يعد بإمكان أفرع الأمن والتي شاركت في بداية انتشار الوباء في مراقبة الحالات المصابة بوباء الكورونا واتخاذ قرارات طبية بشأن علاج المصابين أن تراقب جميع المرضى ,وبدلا من ذلك تم تكليف المخابرات بمراقبة الناشطين المستقلين الذين يسعون إلى مساعدة مجتمعاتهم وعلى وجه الخصوص في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة. واستغلالاً لضعف النشطاء والأطباء المشاركين في المبادرات الغير رسمية استخدم مسؤولو النظام التهديدات لتحويل الموارد التي تبرع بها أفراد المجتمع المحلي إلى جيوبهم هم أو استهداف المساعدات لأشخاص الذين معتبرين موالين للنظام.
يقول محمود “نحن مجرد مجموعة من حوالي عشرة رجال بعض الناس يخافون من الظهور بالقرب منا كما إننا نحاول الاختباء من الأشخاص الذين يستفيدون من هذه المساعدات حتى لا يرفضوا المساعدة منا”. وصف عمر وهو طبيب يعمل في بلدة في جنوب سوريا نمطا يكرر نفسه في جميع أنحاء البلاد وذلك عندما ظهر أحد قادة المخابرات في مكتبه بعد انتشار أنباء تفيد بأنه يقبل التبرع لتوفير أسطوانات أكسجين مجانية للمحتاجين. “جاء أبو علي إلى مكتبي وقال إذا كنت تريد مواصلة عملك سلم قائمة المستفيدين والمتبرعين”. يقول عمر: “قد كنت أعلم أنهم سيسببون المشاكل لهم لذلك قلت له: “إنني لم أعط سوى خمسة اسطوانات أكسجين للناس وتوقفت عن قبول التبرعات””. فقال أبو علي للطبيب: “البلدة تأخذ كل المساعدات لماذا لا توجه البعض إلى مساكن الضباط” وأشار أبو علي في حديثه إلى المستوطنات التي أقيمت بجوار البلدة على الأراضي المصادرة من السكان الأصليين والتي انتقلت إليها عائلات الضباط في عهد حافظ الأسد. وبعد تدخل المخابرات أوقف الطبيب عمر تقديم المساعدات بعد أن ساعد عشرات المرضى غير القادرين على تأمين سرير في المستشفى وتوقفت حملات جمع التبرعات بين سكان البلدة.
وفي الوقت نفسه فقدت المنظمات غير الحكومية (المعترف بها رسمياً) لا تفعل الكثير. حيث يلعب الهلال الأحمر العربي السوري الذي تلقى مئات الملايين من الدولارات من المانحين الأجانب منذ بداية الانتفاضة في عام 2011 دوراً هامشيا في الاستجابة لاحتياجات المتضررين. وصفت سميرة وهي متطوعة في الهلال الأحمر السوري من ريف دمشق أن المحور الرئيسي في استجابة المنظمة للوباء كان يقتصر على تطهير الأماكن العامة، وهو أمر غير مفيد وفقاً للعلماء. كما يقوم الهلال الأحمر العربي السوري بتنفيذ جلسات إرشادية وتوزيعات صغيرة في المدارس: “نحن نوزع المطهرات والكمامات ولكن لنكون صادقين لا نوزع سوى القليل جدا? على سبيل المثال بالأمس كنا في مدرسة تضم 1500 طالب ولم نستطع أن نوزع المساعدات سوى على 50 طالبا فقط بسبب النقص”, قالت سميرة.
ولا يكتفي النظام بتجاهل الوباء وعرقلة الجهود المستقلة لمواجهة الأزمة بل إنه يساهم أيضاً بنشاط في انتشار الفيروس من خلال إلزام موظفي الدولة وطلاب الجامعات بالحضور للعمل والدراسة وذلك ما لم يكن لديهم تقرير طبي يشير إلى أنهم مصابون بفيروس كورونا, إن تكلفة مثل هذه التقارير الطبية ما لا يقل عن سبعة آلاف ليرة سورية أي حوالي 12٪ من متوسط راتب موظف الدولة ,وهذا يجبر الموظفين على أخذ أيام مرضية غير مدفوعة الأجر بمجرد نفاد الأيام المرضية المخصصة لهم، أو عليهم أن يذهبوا إلى عملهم مرضى لتجنب فقدان جزء من رواتبهم بمثل هذه الإجازات.كما أن الجامعات تجبر جميع الطلاب على الحضور والقيام لامتحاناتهم في قاعات كبيرة, أما بالنسبة للمدارس فقد أعيد افتتاحها في الثالث عشر من أيلول. وفي بداية العام الدراسي بدأت الجهات الرسمية بنشر صور للمدارس تبدو فيها الصفوف كبيرة نسبياً بالإضافة إلى وجود ما يقارب 30 طالباً في الفصل الواحد ,في حين أن الطلاب السوريين عادة ما يكونون مكتظين بثلاثة أو حتى أربعة طلاب في المقعد الواحد،بالإضافة إلى تواجد من 50 إلى 100 طالب في الفصل الواحد ,بحيث لا يكون الطلاب قادرين على تطبيق التباعد الاجتماعي فيما بينهم.
إن قطاع الصحة في سوريا ليس متداعيًا للغاية بحيث لا يمكن أن يواجه هذه المحنة، لكنه يزداد عرضة للخطر يوماً بعد يوم, المستشفيات الحكومية لا سيما في منطقة دمشق مكتظة بالمرضى بالإضافة إلى نفاذ أجهزة التنفس الصناعي كما يوجد طابور انتظار طويل ليصل دورك لتدخل إلى المشفى. إن النظام لا يعطي الأولوية لحماية العاملين في مجال الصحة الذين لا يزالون يعملون في المناطق الخاضعة لسيطرته حيث اضطر الأطباء إلى شراء معدات الحماية الشخصية الخاصة بهم ,وذلك بسبب النقص ,ووفقا للمهنيين الطبيين الذين تمت مقابلتهم في جميع أنحاء مناطق النظام أصيب مئات من العاملين في مجال الرعاية الصحية، ومات العشرات منهم على الأقل بسبب المرض وذكرت نقابة أطباء دمشق أن ما لا يقل عن 33 طبيباً توفوا بسبب الفيروس في دمشق وضواحيها وهذه الإحصائية تقتصر على الأطباء فقط دون احتساب الممرضين و الصيادلة.
وقد تعرض نظام الرعاية الصحية في المناطق التي يسيطر عليها النظام لضغوط كبيرة طوال فترة الحرب حيث اضطر إلى علاج جرحى الحرب ,في حين أُجبر معظم الأطباء على الفرار من البلاد. وقارنت رنا وهي ممرضة في مستشفى حكومي في دمشق، السنوات السابقة بتجربة اليوم: “في أيام العمليات العسكرية في الغوطة الشرقية، كان لدينا مئات الجرحى، وكان الوضع جنونياً ولكن على الأقل بعد ذلك يمكننا نقل المريض إلى مستشفى آخر أما في الوقت الراهن جميع المستشفيات تنهار والطاقم الطبي فيها يصبح غير قادر على مساعدة المرضى” ,وأضافت قائلة “أنت مجبر على مشاهدة المريض يموت أمامك دون أن تتمكن من القيام بأي إجراء طبي لإنقاذهم”.
المستشفيات تفقد العاملين ليس فقط بسبب المرض ,ولكن الرواتب التي لا تستمر لأسبوع تجعل العمل المحفوف بالمخاطر ببساطة غير جدير بالاهتمام ووصفت الممرضة رنا التي كانت مصابة بالكورونا أثناء عملهم تأثير الوباء على طاقم التمريض: “معظم الممرضات قد أُصيبن بالمرض ووضعن في الحجر الصحي في المستشفى ,العديد منهم تركوا وظائفهم ولكن لا تلوموهم في نهاية المطاف هم أيضاً لديهم عائلات وأطفال والذين يعتبرون أكثر أهمية بالنسبة لهم من الأجر الشهري الذي لا يكفي للعيش ولو لمدة أسبوع”.
إن تعامل النظام مع ما يراه مؤسسات حيوية استراتيجية يُظهر أنه قادر على اتخاذ خيارات أكثر إدراكاً وخصوصاً بعد إصابة عدد من الموظفين في “فرع المركز السوري للبحوث العلمية في دمشق” وهو الفرع الخاص بإنتاج الأسلحة وأجهزة الاتصال اللاسلكية للجيش السوري حيث قررت الإدارة وقف جميع الأعمال مؤقتاً. وأفاد المهندس أحمد وهو عامل في مركز البحوث العلمية بأن اثنين من المهندسين تم تشخيصهما بالإصابة بفيروس الكورونا من خلال مسحات قامت بها وزارة الصحة وقد تم الحجر الصحي عليهم في مستشفى ابن النفيس في حين منح جميع الموظفين الآخرين عطلة الحجر الصحي الذاتي في المنزل لمدة ثمانية أيام وبعد تلك الأيام تم تمديد العطلة مرة أخرى بعد اكتشاف حالات إضافية كما خضع المركز لحملة تطهير واسعة النطاق.
كما يبدو أن ضمان سلامة موظفي السجون والمخابرات هي أمر مهم بما يكفي لكي يغير النظام من ممارسة دامت عقودا من الزمن من ممارسة التعذيب القاسي بشكل خاص على المعتقلين السياسيين عند سجنهم لتحطيم استعدادهم للمقاومة وهي ممارسة تعرف باسم “استقبال” أو “ترحيب” أو “كسر العين”. وأوضح غياث الذي كان يجلس في منزله بعد ثلاثة أيام من إطلاق سراحه حيث كان محتجز في سجن فرع المخابرات الجوية: أن هناك إجراء جديد بحيث يتم وضع كل محتجز جديد في عزلة لمدة 20 يوما ثم ينتقل إلى الزنازين الجماعية وقد أمضى ثلاثة أشهر رهن الاحتجاز في دمشق بعد اعتقاله في حزيران بناء على بلاغ كاذب للأمن يفيد بأنه معارض سابق. يقول غياث: “خلال تلك الأيام العشرين الأولى لا يسمحون لك بالخروج ولا يستجوبوك ولكن بعد ذلك تبدأ الاستجوابات والتعذيب” ,وجسده الهزيل المغطى بكدمات وحروق ناجمة عن الصعق بالكهرباء تشهد على ذلك.
وبعد أن فقد النظام السيطرة على انتشار الفيروس يبدو أنه تخلى عن محاولة احتوائه وهو في الواقع يساهم بنشاط في انتشاره ,حيث أن النظام الذي اعتاد على التشبث بالأكاذيب ونشرها ,يلتزم الآن بالإحصاءات الرسمية التي تظهر فقط تفشي الوباء على نطاق صغير في سوريا ,إن النظام السوري غير مستعد للاعتراف بالواقع ,بل وإنه يتصرف كما لو كان يعمل كالمعتاد ,ويجبر الموظفون والطلاب إلى العمل والدراسة حتى وهم مرضى.
إن ضحايا سياسات دمشق هم العاملون بمجال الطب في سوريا وغالبية السكان الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الرعاية الطبية الخاصة ,وقد أدى إعطاء النظام الأولوية للمجهود الحربي واضطهاد الموظفين الطبيين إلى جعل القطاع الصحي في المناطق الخاضعة لسيطرته يعاني من نقص في الطاقم و الإمدادات, إن هذا القطاع يحاول الآن ويخفق الاستجابة لانتشار وباء كوفيد-19, ولكن بمجرد أن ينهي هذا الوباء انتشاره في سوريا وذلك إما من خلال تحقيق مناعة القطيع أو بإيجاد لقاح فإن سوريا سوف تترك بقطاع صحي فقد معظم موظفيه, وستستمر أجيال من السوريين في دفع ثمن سوء إدارة القطاع الصحي في بلادهم والاستجابة غير الكافية لفيروس كوفيد-19.
كتب التقرير:
قصي جوخدار باحث سوري مقيم في تركيا.
إليزابيث تسوركوف زميلة غير مقيمة في مركز السياسات العالمية.
المصدر : center for global policy